شهدت سوريا خلال الأسابيع الماضية حراكًا استثماريًا متزايدًا، خاصةً بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن رفع العقوبات الاقتصادية، مما فتح الباب أمام عودة الاستثمارات الأجنبية والمحلية.
وتنوّعت هذه الاستثمارات بين عقود إعادة الإعمار، واتفاقيات التنقيب عن النفط والغاز، ومشاريع الطاقة، وصفقات تطوير البنية التحتية، حيث برزت الموانئ السورية كأحد أهم القطاعات الاقتصادية التي جذبت اهتمام المستثمرين الدوليين.
في هذا التقرير نحاول تقديم تحليلًا مفصّلًا حول الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية للموانئ السورية، مع استعراض التنافس الدولي على استثمارها وتأثير ذلك على الاقتصاد السوري.
موانئ سوريا.. إحصائيات وأرقام
تمتلك سوريا ثلاثة موانئ رئيسية، هي: ميناء اللاذقية، وميناء طرطوس، وميناء بانياس، والتي لعبت دورًا محوريًا في حركة الاستيراد والتصدير، خاصةً خلال سنوات الحرب التي شنّها النظام البائد، والتي تسببت في تعطيل العديد من المنافذ البرية.
ويمكن القول إن الموانئ السورية شهدت تذبذبًا في حركة البضائع خلال سنوات الحرب، فبلغ إجمالي الواردات في عام 2018 نحو 6.2 مليون طن، بإيرادات مباشرة (رسوم جمركية وخدمات) بلغت 36 مليار ليرة سورية، لترتفع مسجّلة أعلى رقم لها في عام 2019 ولتبلغ 152 مليار ليرة، بينما بلغ حجم الواردات في عام 2021 نحو 10.1 مليون طن، وبإيرادات بلغت 3.3 مليارات ليرة.
وفي عام 2022، بلغت الإيرادات نحو 5.3 مليارات ليرة سورية، بحجم بضائع وصل إلى 12 مليون طن، ليصل في عام 2023 إلى 13.5 مليون طن، محققًا زيادة قدرها 12% مقارنة بعام 2022، بإيرادات بلغت 3.9 مليارات ليرة.
ووفق الإحصاءات المتاحة، فقد حاز مرفأ اللاذقية على نسبة 50% من إجمالي البضائع الواردة، حتى من حيث الإيرادات، في حين حاز مرفأ طرطوس على نسبة 35% من حجم البضائع، ومن ثم مرفأ بانياس بنسبة 15% من إجمالي المواد الواردة، والتي كان أغلبها مشتقات نفطية، مع الإشارة إلى أن اعتماد الموانئ على سفن روسية وإيرانية كان بنسبة 60% خلال فترة النظام البائد.
منافسة روسية إيرانية على الموانئ السورية
خلال عهد النظام البائد شهدت سوريا منافسة بين عدّة دول للحصول على عقود استثمارية، حيث برزت روسيا وإيران كأبرز اللاعبين في هذا المجال، فتم تسجيل أول عقد استثمار لمرفأ طرطوس في يناير/ كانون الثاني 2019، حيث وقّعت سوريا عقدًا مع شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية لاستثمار مرفأ طرطوس لمدة 49 عامًا، بقيمة 500 مليون دولار، بهدف تحديث وتوسيع المرفأ ليصبح مركزًا لوجستيًا رئيسيًا.
وكان العقد حينها يمنح الشركة ثلثي الأرباح دون أن تخضع لأي ضرائب، ويمكن لموسكو نقلها كاملة إلى الخارج، مع الإشارة إلى أن الشركة الروسية التي أبرمت اتفاقية مرفأ طرطوس استندت إلى ملكية نصف أسهمها لـ”مجموعة القاطرجي”، وكان يديرها رجل الأعمال محمد براء القاطرجي، الذي اغتالته إسرائيل في غارة على موقع قرب الحدود اللبنانية العام الماضي.
بالمقابل، سعت إيران أيضًا إلى الحصول على عقود استثمارية في الموانئ السورية، مما أدّى إلى تنافس بين الجانبين، حيث استطاعت إيران السيطرة على ميناء اللاذقية، ووُضِع مشروع تسليم إدارة واستثمار ميناء اللاذقية للطرف الإيراني، وتسلمت مشروعًا آخر لبناء ميناء الحميدية من جانب النظام البائد كبديل وتعويض عن هيمنة الروس على ميناء طرطوس.
كما حصلت إيران على امتياز لإنشاء وإدارة مرفأ جديد على البحر المتوسط بالقرب من الحدود السورية – اللبنانية، عام 2019، حيث تم منح شركة “خاتم الأنبياء” الإيرانية عقدًا لإقامة المرفأ وإدارته لمدة 30 إلى 40 عامًا، وذلك في منطقة عين الزرقا جنوب طرطوس.
من خلال ما سبق يمكن القول إن النظام البائد دفع المرافق الاقتصادية نحو الانهيار، دون أن يحقق الاقتصاد السوري استفادة حقيقية سوى من استثمارات محدودة (فتات) قدّمها المستثمرون الأجانب، لا سيما الإيرانيون والروس، الذين تم استقطابهم لضمان استمرار سلطته.
لكن بعد انتصار الثورة السورية نهاية العام الماضي، أنهت الإدارة السورية الجديدة العقد الموقّع مع الشركة الروسية المشغّلة لمرفأ طرطوس، “ستروي ترانس غاز” الروسية، وطالبت الشركة بمغادرة البلاد.
كما أعلن وزير الخارجية أسعد الشيباني أن سوريا تعتزم خصخصة الموانئ، فتم منح استثمار ميناء اللاذقية لشركة فرنسية في حين منحت الحكومة السورية استثمار ميناء طرطوس للإمارات العربية المتحدة.
ووقّعت الهيئة العامة للمنافذ اتفاقية مع شركة “CMA CGM” الفرنسية في قصر الشعب بدمشق، في 1 من أيار/ مايو، وتضمّنت الاتفاقية الجديدة تحديد مدة العقد بـ30 سنة، تستثمر خلالها الشركة 230 مليون يورو، مع ضخ 30 مليون يورو في السنة الأولى.
أما بالنسبة لمرفأ طرطوس، فقد وقّعت “موانئ دبي العالمية” (دي بي ورلد)، مع الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية، مذكرة تفاهم بقيمة 800 مليون دولار، وذلك في أيار/ مايو الماضي، وتتضمّن هذه المذكرة استثمارًا شاملًا في تطوير وإدارة وتشغيل محطة متعددة الأغراض في ميناء طرطوس.
الإمارات والموانئ.. شبكة نفوذ لوجستي تتجاوز الاقتصاد
لا يمكن النظر إلى استثمار الإمارات في ميناء طرطوس على أنه مجرّد صفقة تجارية. فدولة الإمارات، عبر ذراعها البحرية الأقوى “موانئ دبي العالمية”، تبني منذ أكثر من عقد شبكة موانئ مترابطة تمثل امتدادًا لنفوذها السياسي والاستراتيجي في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا.
ففي القرن الإفريقي، دخلت الإمارات في صراعات مباشرة وغير مباشرة من خلال السيطرة على موانئ استراتيجية مثل ميناء “بربرة” في أرض الصومال، حيث أثار الاتفاق رفض الحكومة الصومالية المركزية واعتبرته انتهاكًا للسيادة. كما لعبت الإمارات دورًا محوريًا في إدارة ميناء عدن والمكلا أثناء الحرب في اليمن، وجرى اتهامها لاحقًا باستخدام هذه السيطرة لتعزيز نفوذها العسكري وتغليب وكلاء محليين موالين لها.
أما في جيبوتي، فقد دخلت “موانئ دبي العالمية” في صراع قضائي مع الحكومة بعد أن ألغت الأخيرة عقد الامتياز لتشغيل ميناء “دوراليه”، معتبرةً أن الشركة الإماراتية استغلت العقد للإضرار بمصالح البلاد. وتدخلت محاكم دولية حينها، ما أثار أسئلة واسعة حول النفوذ السياسي الذي تمارسه أبوظبي عبر الموانئ.
وفي شرق المتوسط، تسعى الإمارات لتعزيز موطئ قدمها في الساحل السوري عبر طرطوس، لتكون جزءًا من ممر لوجستي أوسع يربط بين البحر الأحمر، والبحر الأبيض المتوسط، وشبكات التجارة نحو أوروبا. وهذا التمدد يتكامل مع استثماراتها في موانئ مصر (شرق بورسعيد)، وفي ميناء جدة الإسلامي في السعودية، وفي ميناء السخنة، الذي تديره الإمارات كمحور رئيسي لسلاسل التوريد في قناة السويس.
هذه الأمثلة تشير بوضوح إلى أن سياسة الإمارات في الموانئ ليست حيادية أو اقتصادية بالكامل، بل تُستخدم ضمن رؤية استراتيجية أوسع، تتقاطع مع السياسة والأمن، وتمنح أبوظبي أدوات ضغط ناعمة في ملفات حساسة تتعلق بالتجارة الإقليمية، والنفوذ السياسي، والتحالفات العسكرية.
لا شك أن السيطرة على الموانئ تتجاوز كونها مسألة اقتصادية بحتة، فهي تحمل في طياتها أبعادًا استراتيجية وجيوسياسية حساسة. لذلك، على الدول أن تتعامل بحذر بالغ عند توقيع عقود استثمار مرافئها، وأن تضع في الحسبان خلفيات الدول أو الشركات المستثمرة، وأهدافها البعيدة، وليس فقط عوائدها المباشرة. فالتحكم بالمرافئ يعني التحكم في تدفق البضائع، ومسارات التجارة، وتكاليف النقل، مما ينعكس بشكل مباشر على أسعار السلع وعلى استقرار الاقتصاد الوطني.
وفي هذا السياق، تمثّل السيطرة على الموانئ أداة فاعلة في ترسيخ النفوذ الدولي للدول والشركات المالكة لعقود التشغيل، فهي مفاتيح العقد اللوجستية التي تربط العالم، وساحات تنافس لا تقل أهمية عن ميادين سباق التسلح أو السيطرة على مصادر الطاقة. فالموانئ ليست مجرد بوابات عبور، بل أدوات ضغط وتحكم ورسم خرائط للقوة والتأثير.
كما أن هذا النوع من السيطرة لا يقتصر على العوائد الاقتصادية، بل يُوظَّف أيضًا في مجال “القوة الناعمة”، إذ تمنح البنية التحتية البحرية المشغَّلة خارجيًا هامشًا واسعًا للمناورة السياسية.
ويبرز هذا التأثير في حالات تقديم تسهيلات تشغيلية لدول حليفة، أو تعليق الأنشطة في موانئ دول تعيش أزمات داخلية، بما يتيح إعادة ضبط معادلات النفوذ بما يتماشى مع المصالح الإقليمية والدولية.
وفي ضوء ما سبق، يبرز تساؤل مشروع: هل تستهدف الإمارات من خلال توسعها في إدارة الموانئ، وفي مقدمتها مرفأ طرطوس، رسم خريطة اقتصادية جديدة تمنحها نفوذًا سياسيًا يتجاوز حدودها؟
فالدولة التي تشغّل موانئ أكثر، تملك نفاذًا أوسع إلى تدفّقات التجارة العالمية، وقدرة أكبر على التأثير في قرارات الشركات العملاقة، بل وحتى في سياسات الدول. فهل تمثّل استثماراتها في سوريا جزءًا من مشروع إمبراطورية بحرية إماراتية؟ أم أن وراء هذا التوسع أهدافًا تتجاوز ما هو معلَن؟