في أول اختبار دموي تواجهه الحكومة السورية الجديدة بعد سقوط النظام السابق، دوّى انفجار عنيف في كنيسة مار إلياس بحي الدويلعة في دمشق، مُوقِعًا عشرات الضحايا بين قتيل وجريح. لم يكن التفجير مجرد حادث أمني، بل إعلان مبكّر بأن أعداء المرحلة الانتقالية لا يزالون فاعلين، وأن معركة بناء الدولة لن تكون بلا ألغام.
جاء الهجوم ليكسر لحظة الأمل التي بدأت تتشكل في الشارع السوري، وليفتح باب التساؤلات حول جاهزية الحكومة لحماية الداخل، وسط وجود أطراف عديدة تسعى لخلخلة الوضع: من تنظيمات متطرفة رافضة لأي شكل من أشكال الدولة، إلى بقايا النظام المنهار، إلى جهات ترى في الاستقرار تهديدًا لنفوذها.
من المستفيد؟ وكيف يجب أن يكون رد الدولة؟ وهل التفجير بداية نمط أم حادث معزول؟ أسئلة يفرضها هذا الحدث الخطير، الذي قد يُحدّد شكل المرحلة المقبلة: إما مسار نحو التماسك، أو انزلاق جديد نحو الفوضى.
في مساء يوم الأحد 22 يونيو، كانت أحدث صدمة تلقّاها السوريون، عندما قتل 25 شخصًا وأصيب 63 آخرين بهجوم على كنيسة مار الياس في حي الدويلعة، ما دفع السلطات الأمنية إلى الاستنفار في العاصمة بهدف ضبط مخططي ومنفذي الهجوم، كما عززت إجراءات الحماية حول الكنائس في العاصمة والأحياء التي يقطنها مسيحيون.
وبعد يوم من الحادثة المأساوية، أعلنت وزارة الداخلية، إلقاء القبض على “خلية إرهابية” قالت إنها مرتبطة بتنظيم “داعش” بينهم أحد المتورطين في تفجير الكنيسة، إضافة إلى اعتقال انتحاري آخر كان في طريقه لتنفيذ عملية في مقام السيدة زينب قرب العاصمة دمشق، ومصادرة دراجة نارية معدة للتفجير في أحد التجمعات المدنية ضمن العاصمة.
ورغم توقيف المتورطين، لم يُغلق ملف التفجير بعد، إذ يرى متابعون للشأن السوري أن الهجوم لم يكن مجرد عملية أمنية، بل محاولة ممنهجة لضرب استقرار البلاد، وعرقلة المسار الانتقالي، وإعادة إنتاج الخطاب الطائفي في لحظة شديدة الهشاشة السياسية والمجتمعية.
ولعلّ ما جرى يطرح أكثر من علامة استفهام، ويستدعي التوقف عند أسئلة جوهرية، نحاول في هذا التقرير الإجابة عنها مع مختصين وباحثين سوريين.
من داخل كنيسة مار إلياس في #الدويلعة بدمشق.. مراسل #نون_سوريا يرصد الأوضاع هناك وينقل مشاهدات الدفاع المدني والمدنيين pic.twitter.com/dvexWxhAY5
— نون سوريا (@NoonPostSY) June 22, 2025
من المستفيد؟
لم يكن تفجير كنيسة مار إلياس حدثًا عابرًا، بل عملية مدروسة في توقيتها ورسائلها، حسب محللين، ومع تصاعد التساؤلات حول الجهة التي تقف وراءه، تتجه الأنظار إلى المستفيدين الحقيقيين من ضرب الاستقرار في سوريا الجديدة.
يرى الأكاديمي والباحث في شؤون الحركات الإسلامية، عبد الرحمن الحاج، في حديثه لـ”نون بوست”، أن عدة أطراف قد تستفيد من هذا الهجوم، لكن الأبرز من بينها ثلاث جهات رئيسية، يجمعها هدف واحد: زعزعة حكم الرئيس السوري أحمد الشرع وتقويض سلطة الحكومة المركزية.
ويحدد الحاج 3 جهات رئيسية مستفيدة من تفجير كنيسة:
- تنظيم “داعش”: يحرص التنظيم على إفشال التجربة الانتقالية في سوريا، حيث له تاريخ طويل من الصراع مع “هيئة تحرير الشام”، وثأر شخصي مع الرئيس أحمد الشرع، ولا سيّما بعد فشل مشروع داعش الذي انتهى نهايات مأساوية، ونجاح الهيئة مع شركائها من قيادة العمليات العسكرية من الفصائل المختلفة في الانتقال إلى إدارة الدولة.
- قوات سوريا الديمقراطية: كانت تسيطر بدعم أمريكي على مناطق واسعة شرق سوريا بحجة القضاء على “داعش” والحدّ من انتشارها، لكن بعد نقل ملف التنظيم إلى الحكومة المركزية، وأدى هذا إلى الاستغناء عنها والضغط عليها للالتحاق بالحكومة المركزية في دمشق، وتوقيع اتفاق بين قائد قوات سورية الديمقراطية، مظلوم عبدي، الرئيس الشرع، لذا هي من بين الجهات التي تريد تقويض الدولة السورية الجديدة.
- فلول النظام البائد: بعدما كانوا بموقع المسيطرين على البلاد وناهبي خيراتها، يسخط الفلول على الوضع الذي آلوا إليه بعد انهيار النظام، وخصوصًا الضباط وقادة الميليشيات الرديفة مثل الدفاع الوطني لذا يسعون إلى إضعاف الحكومة المركزية وإشاعة عدم الاستقرار لأن ذلك ينجيهم من جهة من المحاسبة والملاحقات، ومن جهة أخرى يستغلون الفوضى التي قد تسببها حوادث مثل التفجير لتنظيم أنفسهم.
#نون_سوريا ترصد رسائل الأهالي خلال تشييع ضحايا تفجير كنيسة #مار_إلياس في الدويلعة بدمشق. pic.twitter.com/hTDa5OFrYt
— نون سوريا (@NoonPostSY) June 25, 2025
من جانبه يرى الباحث في مركز عمران للدراسات معن طلاع، في حديثه مع “نون بوست”، إن هناك مستويين من الاستفادة من تفجير كنيسة مار إلياس:
- “الطرف المنفذ”: الذي تدل التطورات على أنه نتاج جماعات متطرفة سواء كان “داعش” أو تنظيم أنصار السنة أو كلاهما، وتسعى هذه الجماعات للاستفادة من التفجير، عبر تغذية “سردية الخطاب” التي تعتمد على نقد تحولات “هيئة تحرير الشام” بأنها حلت نفسها واستلمت الحكم وتصالحت مع معايير “الحداثة الغربية”، وتُقدَّم هذه التحولات كدليل على “الانحراف”، ما يخلق فجوة تستغلها هذه الجماعات لاستقطاب المترددين أو الساخطين، لإعادة الزخم لخطابها وإحياء آلة التجنيد ربطًا بين القول والفعل، كما تحاول إشغال الدولة ووضع عراقيل أمام حركتها باتجاه الاستقرار، فإن أي نجاح للدولة سيكون وفقاً لهذين التنظيمين هو بمثابة انتقالها من سياسة التثبيت والاستقرار إلى سياسة مواجهة الأخطار والمهددات.. لذا يجسّد الفعل الارهابي هنا منطق “أفضل دفاع هو الهجوم”.
- القوى والتيارات أو الجهات: التي ترى أي تعثر في ملفات الدولة الأمنية هو بمثابة تقليل فرصها من النهوض، وتحاول هذه الأطراف على العزف على وتر مفاده: إن حصلت الدولة عبر سياستها الخارجية استقراراً اقليمياً فإن الاستقرار المحلي لا يزال محل شك، وبغض النظر عن دورهم المباشر أو غير المباشر لهؤلاء المستفيدين في تغذية الفوضى الأمنية فإن تقليل أوراق القوة للدولة سيصب بتعزيز أوراق قوتهم سواء الميدانية أو التفاوضية.
ما الرسائل السياسية والأمنية؟
تفجير كنيسة مار إلياس لم يكن مجرد استهداف لمكان عبادة، بل رسالة سياسية وأمنية ثقيلة وُجّهت إلى الداخل والخارج في آنٍ واحد. الهجوم حمل أبعادًا تتجاوز الدماء والدمار، ليعيد طرح أسئلة حسّاسة حول وحدة المجتمع، وهشاشة المرحلة الانتقالية، وقدرة الدولة على الصمود أمام التحديات المتشابكة.
حسب طلاع فإن تفجير الكنيسة لم يكن حدثًا عابرًا بل يحمل دلالات ورسائل مركبة ومتداخلة، مشيرًا إلى أن الرسائل إلى الداخل والخارج:
- داخليًا: انتقل مستوى العنف الهويّاتي من مرحلة المظلوميات المحكية والهواجس الكامنة إلى تعبيرات حركية لذا أدت هذه العملية الإرهابية إلى الشعور بالقلق الوجودي، كونه استهدف مكوّن محدد إلى تهديد لبقائه، وأعادت الاعتبار للهوية الدينية على حساب الهوية الوطنية، وكلاهما بذور جديدة لاحتراب أهلي محتمل جداً.
- خارجيًا: بيئة الاستقرار في سوريا بيئة هشة ولا تتوفر فيها ديناميات أمنية واقتصادية واجتماعية وحكومية دافعة لهذا الاستقرار طالما الدولة لاتزال تواجه هكذا تهديدات، وهو اختبار جدي لقدرة الدولة على تحقيق استقرارها الداخلي لكي تستطيع التفاعل مع دول الإقليم.
في المقابل يرى الحاج أن التفجير حمل رسائل إلى ثلاثة أطراف:
- الطرف الأول الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص: مفادها “أن المسيحيين غير آمنين في سوريا التي تعدّ بلدًا غير مستقر في ظل حكم الشرع، والتعويل عليه في استقرار المنطقة خاطئ”.
- الطرف الثاني إلى السوريين: تتمثل بأن “الحكم الحالي لن يجلب لهم الاستقرار، مع التشكيك بقدرته على تحقيق انتقال سياسي أو بناء دولة يتطلع لها السوريون”.
- الطرف الثالث إلى الرئيس أحمد الشرع: مفادها أن “التنظيم الخصم لم يتوقف وسيسعى لتخريب حكمه عبر ضرب الاستقرار وإشاعة الفتنة من خلال استفزاز الطوائف وتأليبها ضد حكمه”.
كيف يمكن أن تتعامل الحكومة السورية مع التحدي الأمني؟
“يمثل هذا الهجوم، في توقيته ومكانه وطريقته، تطوراً مقلقاً في السياق الأمني السوري، ويعكس تحولاً في قدرة التنظيمات المتطرفة على استهداف مراكز دينية داخل العاصمة”، هكذا وصف الباحث طلاع رمزية تفجير كنيسة مار إلياس، محذرًا بأنه يفتح الباب أمام سيناريوهات شديدة الخطورة، أبرزها احتمالات توتر السلم الأهلي بين المكونات الدينية.
ونبّه طلاع إلى أن الحادثة “تتطلب مراجعة عاجلة للإجراءات الأمنية المتبعة في حماية دور العبادة، وتشكيل لجنة تحقيق محايدة وشفافة، تشارك فيها شخصيات دينية ومدنية إلى جانب السلطات المختصة، تضمن كشف ملابسات الجريمة وتمنع استغلالها سياسيًا”.
على الصعيد السياسي، يشدد طلاع على أهمية “وجود خطاب موحد من أعلى مستويات الدولة يؤكد التزام الحكومة بحماية كافة المكوّنات السورية دون تمييز، والتصدي بقوة لأي محاولات لتوظيف الفعل الإرهابي في تأجيج الانقسام الطائفي أو تقويض الثقة المجتمعية”.
لا تقتصر التحديات الأمنية لدى الحكومة بحماية دور العبادة فحسب، بل تمتد لتشمل حماية النسيج الأهلي الهش من التفكك، والتصدي للخطر الإرهابي العابر للحدود، وهو تحد تواجهه الدولة والمجتمع السوري كحد سواء، حسب طلاع، الذي أشار إلى “ضرورة انتهاج سياسة موحدة لمواجهة هذه التحديات في ظل مناخ سياسي دولي معقد، لا يخلو من الاصطفافات والتجاذبات التي قد تستثمر في الدم السوري لمآرب تتجاوز حدود الوطن”.
ويُشيد عبد الرحمن الحاج بأداء الحكومة من الناحية الأمنية عقب الانفجار، قائلّا “تحرّكت بسرعة ملحوظة واستطاعت الوصول للخلية، وتمكنت من كشف مخططاتها والقبض على قيادتها”، مؤكدًا أنه يعدّ إنجازًا بمعايير العمل الأمني.
أما على المستوى السياسي فقد أظهرت الحكومة حرصًا شديدًا على إظهار التضامن لكنها لم تنجح فقد ظهر اضطراب واضح في الأداء، حسب الحاج، مشيرًا إلى أنه “كان يجب أن يكون هناك صوت سياسي واحد هو صوت رئيس الجمهورية، وكان ينبغي أن يأتي للعزاء ممثل عنه، لأن الظروف الأمنية قد لا تكون مناسبة لقدومه”.
بالنهاية، ورغم مأساوية الحادث إلّا أنه يشكّل جرس إنذار يُذكّر السوريين بأن طريق الاستقرار لا يزال محفوفًا بالمخاطر، وأن بلادهم تبدو اليوم أمام مفترق طرق: فإما أن تتحول هذه الأحداث إلى فرصة لإعادة ترتيب البيت الداخلي وتعزيز وحدتهم الوطنية، أو أن تُستثمر من قِبل المتربصين بها لتغذية الفوضى من جديد في بلد أنهكته الحرب.