قبل يومٍ واحد فقط من العدوان الإسرائيلي على إيران، وتحديدًا في 12 يونيو/حزيران 2025، أصدرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) بيانًا أدانت فيه السلوك النووي الإيراني، معتبرة أن طهران تنتهك التزاماتها الدولية نتيجة “عدم تعاونها الكافي مع تحقيقات الوكالة”، وفشلها في تقديم توضيحات بشأن آثار يورانيوم عُثر عليها في ثلاثة مواقع غير معلنة، ووصف ذلك بأنه “مقلق للغاية”، وأشارت إلى أن إيران رفعت مستوى التخصيب إلى 60%، رغم عدم تقديم أي دليل مباشر يُثبت وجود نية لتصنيع سلاح نووي.
البيان، الذي اتخذ بوضوح نبرة حكم سياسي أكثر منه تقييمًا فنيًا، اعتُبر الأول من نوعه منذ ما يقارب عشرين عامًا، وأدى عمليًا إلى توفير غطاء دولي سهل الاستخدام للعدوان الإسرائيلي على إيران، ومبررًا جاهزًا للدول الغربية والولايات المتحدة في دعمه ومواكبته.
لكن هذا البيان لم يكن سوى قمة جبل الجليد، فعبر عقود من العمل، تحوّلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى ذراع فنية ظاهرًا، وأداة جيوسياسية باطنًا، تعزز هيمنة القوي وتكرّس تبعية الضعيف، وتضفي شرعية مهنية على العقوبات والحصارات والعدوان، تحت عنوان “الرقابة النووية”، ولقد تحقق بذلك تكاملٌ فعّال بين الجهد الاستخباراتي الغربي، والأجندات السياسية، والغطاء الأممي “المحايد” الذي يعيد إنتاج النظام العالمي على مقاس واحد: مقاس الأقوياء فقط.
من هذا “الإخراج الفني” الذي بدأ بتقريرٍ وانتهى بعدوان، تنطلق هذه المادة لتفكيك المسار الخفي للوكالة الدولية للطاقة الذرية، من نشأتها إلى أدواتها، ومن التفتيش إلى التحقيق، في محاولة لرسم زاوية أخرى من الحقيقة، تُظهر الوجه المسكوت عنه للمنظمات الدولية في عالمٍ لا يقبل القسمة إلا على القوة.
الذرة من أجل السلام!
في عام 1953، وقف الرئيس الأميركي أيزنهاور مخاطبًا الجمعية العامة للأمم المتحدة، بلغةٍ تحاكي “الحرب الذرية” وفقًا لتعبيره، في خطابٍ بات يُعرف باسم: “الذرات من أجل السلام”، تحدّث خلاله بإسهاب عن الحاجة للموازنة بين الاستخدامات السلمية للطاقة النووية وبين منع انتشارها العسكري، محذرًا من مخاطر الترسانات النووية، وداعيًا لتحويل هذه الطاقة إلى أدوات للتنمية، كالزراعة والطب وتوليد الكهرباء، ولأجل ذلك، اقترح إنشاء وكالة دولية للطاقة الذرية تحت مظلة الأمم المتحدة.
جاء خطابه بعد تنفيذ الولايات المتحدة 42 تجربة نووية، من بينها قصف هيروشيما وناغازاكي، والتي كرّست تفوقها النووي عالميًا، ووسط إدراك بأن احتكار المعرفة النووية سيصبح أصعب في ظل سباق التسلح، وامتثالًا للأفكار الأميركية “الخلاقة”، تأسست في عام 1957 منظمة دولية تحت رعاية الأمم المتحدة، تهدف لنشر المعرفة النووية “السلمية” وتقييد استخدامها العسكري، عبر نظام رقابة صارم.
في البداية، أدّت الوكالة دورًا رقابيًا مخملي الملامح، حتى عام 1964، حين أجرت الصين تجربتها النووية الأولى، عندها دقّت الولايات المتحدة ناقوس الخطر، وسارعت إلى التنسيق مع الاتحاد السوفيتي وبقية الدول النووية لصياغة معاهدة تُغلق الباب أمام أي امتلاك عسكري جديد للسلاح النووي، وتحصره بالدول التي سبق وامتلكته.
هكذا وُلدت “معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية” (NPT) عام 1968، ودخلت حيّز التنفيذ عام 1970، إيذانًا ببداية ما يُعرف بعصر “الشرعية النووية”؛ الذي قسّم العالم إلى معسكرين: دول “شرعية نوويًا”، وهي الدول الخمس الكبرى (الولايات المتحدة، روسيا، بريطانيا، فرنسا، الصين)، والدول الأخرى وهي بقية العالم الذي حُرم عليه التخصيب العسكري، وقُيّد نشاطه بالاستخدامات السلمية فقط.
منذ ذلك الوقت، باتت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مستندة إلى هذه المعاهدة، تمتلك تفويضًا رسميًا لتفتيش المنشآت النووية في الدول الموقّعة، وتقديم تقارير فنية حول مدى التزامها، وإبلاغ مجلس الأمن عند الاشتباه بوجود خروقات.
بحلول عام 2024، بلغ عدد الدول الموقعة على المعاهدة 178 دولة، لكنها لا تشمل “إسرائيل” والهند وباكستان، وبموجب التوقيع، تلتزم الدول بفتح منشآتها أمام مفتشي الوكالة، وهو ما رفضته كوريا الشمالية، التي انسحبت من الوكالة عام 1994، ثم من المعاهدة عام 2003.
أما الهند وباكستان فأعلنتا امتلاكهما للسلاح النووي بوضوح، بينما فضّلت “إسرائيل” الإبقاء على غموضها، فلم توقّع المعاهدة، واكتفت بعضويةٍ في الوكالة تمنحها مقعد المراقب المختلس، بلا التزامات ولا تفتيش ولا إفصاح.
بموجب هذا الترتيب، ترسل الوكالة مفتشيها إلى كل الدول الموقّعة – ما عدا الدول الخمس الكبرى والدول غير الموقّعة – لتفتيش منشآتها، حتى تلك ذات الطابع الطبي أو الزراعي، مركّبةً كاميرات مراقبة دائمة، وجامعةً عينات بيئية من المواقع الصناعية، كما تستخدم “المساعدات التقنية” والتمويل النووي كأدوات ضغط لإقناع الدول بالانضمام للمعاهدة، ثم إخضاعها لمنظومة الرقابة.
هكذا، تصدر الوكالة تقارير دورية حول الأنشطة النووية، ترصد فيها مستويات التخصيب وعدد أجهزة الطرد المركزي، وتراقب تطور المعرفة التقنية في الدول غير النووية، وفي المقابل، تتعهد الدول النووية الكبرى بتقليص ترساناتها، وعدٌ ظلّ أقرب إلى الأماني.
أما الدول غير الموقعة، فتبقى أعضاءً في الوكالة، لكنها لا تستفيد من مساعداتها التقنية، ولا تُدرّب علماؤها في معاهدها، ولا تحصل على اليورانيوم منخفض التخصيب، وتُستبعد من اتفاقات نووية متعددة الأطراف.
على هذا النحو، لا تبدو المعاهدة مغرية بالانضمام، خاصة وأنها تمنح الدول الكبرى حق الرقابة على بقية الدول دون إلزام متكافئ، ومع ذلك وبفعل النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، احتكرت الدول الخمس الكبار مفاتيح الضغط، فاستخدمت العقوبات والأزمات لدفع دول أخرى للتوقيع، ثم محاسبتها لاحقًا عند أدنى اختلاف أو شبهة.
بكلماتٍ أوضح: يقف العالم اليوم تحت مظلة معاهدة يُروّج لها كصيغة للسلام النووي، بينما هي في جوهرها أداة لتكريس تفوق الخمسة الكبار، تُجزّئ العالم إلى دول “شرعية” وأخرى “مارقة”، لا وفق معايير العدالة أو الشفافية، بل وفق النظام الذي يوزّع القوة على أهواء المنتصرين، ويطارد منشآت الدول الضعيفة بينما يغمض العين كليًا عن ترسانات المحميين. لكن كيف تحولت الوكالة من هيئة رقابية إلى أداة اختراق خفي؟
مفتشين أم محققين؟
انضواء الوكالة الدولية تحت مظلة الأمم المتحدة، لم يشفع لها من اتهامات الازدواجية والمحاباة واستخدامها كأداة هيمنة للتضييق على دول العالم، وحتى اعتبارها يدًا استخباراتية تتغلل من خلالها الدول عبر عناصر متخفين كمفتشين، لكنهم في الواقع مجندون لصالح أجهزة استخباراتية، وهو ما كشف عنه العديد من رؤسائها ومفتشيها.
في كتابه “عصر الخداع: الدبلوماسية النووية في أوقاتٍ غادرة” يفرد رئيس الوكالة الدولية الأسبق محمد البرادعي مقاطع تكشف الوجه الآخر للوكالة، منها “تقاعس الدول النووية عن الوفاء بالتزاماتها في خفض ترسانتها النووية، بينما تُظهر موقفًا أخلاقيًا ضد دول مشتبه ببرامجها”، إضافة إلى تجاهل أدلة واضحة على أنشطة دولٍ حليفة مثل كوريا الجنوبية، مقابل تكثيف الضغوط السياسية والاقتصادية على دولٍ أخرى.
ينسحب ذلك أيضًا على تقارير مخطط لها، أُعدت قبل أن تبدأ الوكالة تحقيقها النهائي -بما يخص العراق-، وهو ما وصفه البرادعي بتوظيف السياسيين الغربيين للوكالة كغطاء شرعي لتبرير قراراتهم، واستخدام التصريحات الصادرة عنها كذريعة للهجوم رغم أنها لم تؤكد وجود برنامج عسكري حقيقي.
أما الباحثة داخل الوكالة أنا فايشلبراون، ففي بحثٍ لها بعنوان “من المحاسبين إلى المحققين”، تكشف عن تحولٍ في نمط عمل الوكالة الدولية بعد اكتشاف برنامج الأسلحة النووي السري في العراق، حيث انتقل عملها من الجانب التقني المرتبط بإصدار تقارير ضامنة للدول إلى التحقيق الدقيق في أي أنشطة مشبوهة بما يجعل تقاريرها التقنية قابلة للتحميل سياسيًا وربما عسكريًا.
هكذا، تحولت مهمة المفتشين من زيارة المنشآت وقياس المواد النووية وإحصاء المخزون ووضع الأختام عليه، واستخدام المسح الضوئي في الكشف عن الأنشطة النووية، وتأسيس بروتوكول إضافي عام 1997 يجبر الدول الموقعة على السماح بعمليات تفتيش واسعة بلا حدود ودون أذون مسبقة، تتجاوز الاعتماد على إفصاح الدولة نفسها، إلى مراقبة التجارب الليزرية في المراكز والجامعات، وحجم الأنابيب السفلية لمنشأة ما، والصور الجوية والفضائية لعمق بناءٍ آخر، والاعتماد على تقارير استخباراتية غربية معززة.
بالنسبة لفايشلبراون، فإن عوامل أخرى إلى جانب كشف برنامج العراق السري، لعبت دورًا في تغيير آلية عمل الوكالة، من بينها نظام التمويل القائم على عقود عملٍ تدفعها الدول الأعضاء لموظفيها، الذين عادة ما يكونون “معارين” من الوظائف النووية الأكاديمية والبحثية في هذه الدول، ما يتيح لها توظيف من تشاء كيفما تُريد وفقًا لمقياس الولاء لدولهم.
ووفقًا لتحليل أعمار وأصول مفتشي الوكالة، فإن معظمهم فوق الأربعين من العمر، و65% منهم رجال، و70% منهم ينتمون إلى الدول المستحوذة على المعرفة النووية، وفيهم المهندسون والفيزيائيون والكيميائيون، وحتى أولئك الذين لا يمتلكون أي خلفية تقنية أو علمية رسمية، لكن اختيارهم يكون محبذًا وفقًا لدولهم.
الفكرة ذاتها يطرحها ديفيد فيشر، الذي كان مسؤولًا رفيعًا في الوكالة، حين طرح في كتابه “تاريخ الوكالة الدولية: السنوات الأربعين الأولى”، تساؤلًا حول دور مفتشيها بالقول ” هل هم مفتشون تقنيون يجمعون بيانات ببساطة، أم محققون بنمط استخباراتي يُعدّون تقارير قضائية سياسية؟”.
ربما جاء طرح فيشر كنتيجة طبيعية لاتهامات دولية متعددة للوكالة، بتزويد بعض مفتشيها لوكالة الاستخبارات الأمريكية والفرنسية والإسرائيلية والبريطانية، بمعلومات وصور وإحداثيات لمواقع نووية وعسكرية في دولٍ مختلفة، تم الدخول لها بحجة مراقبة الأنشطة النووية.
وهو ما صرح به سكوت ريتر، المفتش الأمريكي السابق، إبان حرب العراق، حين أكد بأن عددًا من المفتشين عملوا لصالح الاستخبارات الغربية، وذلك استجابة لتحقيقات صحفية أجنبية كشفت أن المفتشين الذين كان عددُ منهم من أفراد الاستخبارات البريطانية والأمريكية قد ثبتوا أجهزة تنصت داخل المنشآت والمواقع خلال عمليات التفتيش، وهي التي مكنت أجهزة المخابرات من مراقبة سرية للمواقع واستهدافها لاحقًا.
كما أكد ريتر أن التفتيش الذي سبق الغزو لم يكن يهدف لنزع سلاح العراق، بقدر ما سعى لجمع أكبر قدرٍ من المعلومات الاستخباراتية تحضيرًا لإسقاط النظام، بينما أعلن العضو البرلماني البريطاني جورج غالواي عام 1998 عن وجود 4 “ضباط” قال إنهم عملاء للموساد الإسرائيلي ضمن مجموعة المفتشين.
يتوافق ذلك مع إتهام إيران عام 2010 فرق التفتيش بتجاوز حدود مهمتهم، وطلب معلومات لا تتعلق بالأنشطة النووية، وتسريب معلومات سرية حول منشآتها إلى الموساد، ناهيك عن إدراجٍ صريح لأسماء العلماء الإيرانيين في تقارير الوكالة، وترتيب مقابلات مع عددٍ منهم خارج الأطر الرسمية للتفتيش، استُتبعت بعمليات اغتيالٍ لبعضهم مثل مجيد شهرياري و مصطفى أحمدي روشان، ومسعود علي محمدي، وداريوش رضائي، وفريدون عباسي، ما عُد من قبل إيران عملًا استخباراتيًا مقنعًا.
كما ربطت إيران بين عمليات التفتيش والمراقبة على منشآتها وتسرب صورٍ أسفرت عن استهداف المنشآت بهجمات برمجية خبيثة، مثل منشأة نظنز التي استُتبعت عمليات تفتيشها للتأكد من عدم وجود نشاط نووي عسكري، بمهاجمتها سيبرانيًا باستخدام فيروس Stuxnet.
هُناك أيضًا اعتماد الوكالة الدولية على اختراق الموساد الإسرائيلي للأرشيف النووي الإيراني عام 2018، وتبريرها لسريته -الذي اتفقت به مع التبرير الإسرائيلي- بأنه برنامج عسكري لتطوير سلاح نووي، أطلقت عليه اسم (AMAD)، وهو ما حدا بروسيا والصين للتحفظ على سلوك الوكالة، واتهامها بشكلٍ متكرر بأنها تعتمد على معلومات استخباراتية دون تحقق فنيٍ مستقل، وأن تقاريرها تُبنى وفقًا لدوافع سياسية، كما استغربت التداخل المريب بين لقاءات مفتشيها وحوادث الاغتيال المدبرة، داعيةً لتحقيق داخلي لكشف شبهات التجسس.
“إسرائيل” وإيران: عينٌ مطفأة..وأخرى لا تنام
قدمت الدول العربية المنضوية في عضوية الوكالة الدولية للطاقة الذرية في عام 2014 مشروع قرار ينتقد “إسرائيل” بسبب ترسانتها النووية المفترضة، ويدعو لدفعها للانضمام لاتفاقية عالمية لمناهضة الأسلحة النووية، سعيًا منهم لإخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، لكن المشروع قوبل برفض الولايات المتحدة وحلفائها، ما أدى لإسقاطه.
ورغم أن نتيجة المشروع لم تكن مفاجئة، إلا أنها لم تكن المرة الأولى التي تطالب بها دول عدة بإجبار “إسرائيل” على الانضمام للمعاهدة، فكل خمس سنوات وحين يُعقد مؤتمر الوكالة لمراجعة المعاهدة تُطالب الدول العربية وإيران ومعظم الدول النامية بإجبار “إسرائيل” على الامتثال للمعاهدة، ويتم إعادة رفع شعار “شرق أوسط نظيف من السلاح النووي”، لكن المطالب تذهب أدراج الرياح.
خارطة المفاعلات المستهدفة في #إيران.. تشمل منشآت محصنة كمفاعل نطنز وفوردو، ومراكز متقدمة ككرج وأراك.. تعرف على أبرزها👇 pic.twitter.com/7wGnLaay6F
— نون بوست (@NoonPost) June 21, 2025
منذ فترة التسعينيات، طرحت مصر مبادرة تحمل الشعار نفسه، وتدعو لإخضاع كل دول المنطقة لتفتيش الوكالة، لكن “إسرائيل” رفضت بحجة غياب اتفاق سلام شامل مع محيطها، وفي عام 2015 أقدمت إدارة أوباما على التلميح لحكومة الاحتلال الإسرائيلية، بضرورة بحث موضوع الانضمام للمعاهدة، خاصة في ظل التفاوض الأوروبي الأمريكي مع إيران، إلا أن “إسرائيل” رفضت.
لكن أدوارها كعضو في الوكالة -وليس في المعاهدة-، وعلاقاتها مع الدول الغربية، أهلتها لتحويل هجماتها على المنشآت النووية المجاورة في كلٍ من سوريا والعراق وإيران، إلى فتحٍ علمي للوكالة الدولية ترجمته على شكل تقارير كشفت من خلالها الأبعاد العسكرية للبرنامج النووي العراقي، وأنهت المحاولات النووية الأولى في سوريا، وحاولت تفكيك البرنامج النووي الإيراني، بينما استخدمت معلوماتها الاستخباراتية لتفكيك البرنامج النووي الليبي، دون أن يتطرق أحدٌ إلى برنامجها الخاص.
وذلك على الرغم من أن برنامجها (المعروف للجميع والذي ترفض هي الاعتراف به رسميًا)، عسكريٌ بشكلٍ كامل، ويعتمد على المياه الثقيلة، وأنتجت من خلاله مواد انشطارية من البلوتونيوم تكفي لصنع 200 رأس نووي بالحد الأدنى – وفقًا لكشف مردخاي فعنونو عام 1986- ولا يمكن مقارنته بأي برنامج نووي لأي دولة في الشرق الأوسط، بل ويتوائم مع التقنية النووية الفرنسية باعتبار فرنسا داعمةً للبرنامج، ومعزز بمركز أبحاث نووي له صلات غربية، تغمض الوكالة حواسها الخمسة عنه!
في المقابل، زمنذ تولي الياباني يوكيا أمانو 2009 أمانة الوكالة الدولية -خلفًا للبرادعي-، استثمرت الوكالة الشيء الكثير من طاقتها لإثبات وملاحقة البرنامج النووي الإيراني، وهو ما نفته وهاجمته إيران وروسيا والصين، ملمحةً للدور الغربي في تعيين أمانو مقابل ارتهانه استخباراتيًا وسياسيًا لتوجهاتها، ليخلفه الأرجنتيني رفائيل غروسي الذي تصاعدت في عهده أزمة الملف النووي الإيراني.
منذ البداية، أصدر غروسي عدة تقارير نقدية لإيران، واشتكى من عدم تعاونها الكافي، كما لعب دورًا في تنفيذ زيارات مفاجأة لمواقع إيرانية عسكرية رغم الاعتراضات الإيرانية، وركز على المواقع والمنشآت غير المعلنة في تفتيشه، فيما لم يتوقف عن إصدار تقارير تعبر عن “قلقه البالغ” وشكواه.
بقي الحال على ذلك، حتى اليوم السابق للعدوان الإسرائيلي، حين أصدر غروسي تقريرًا أدان إيران، وأكد وصول مستويات التخصيب لديها إلى 60%، وشكك في نواياها العسكرية، رغم أن إيران نفسها قد أفصحت عام 2021 على لسان رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية عن هذه المستويات، فيما أعلن المرشد الأعلى في أكثر من فتوى عن “حرمة استخدام الأسلحة النووية”.
حتى بعد العدوان الإسرائيلي، لم يصدر عن الوكالة، أو غروسي أي نقد لاستهداف “إسرائيل” المنشآت النووية الإيرانية، ولم تصدر أي بيان يصف الهجمات بأنها خرق للقانون الدولي، واكتفى بالتأكيد على ضرورة استمرار المراقبة الفنية في إيران بعد القصف، دون إدانة “إسرائيل”، متجاهلًا أن الضربات الجوية تهدد سلامة المواقع النووية.
لأكثر من 30 عامًا، يحاول نتنياهو إقناع الولايات المتحدة بأن #إيران على بُعد “أسابيع” من امتلاك سلاح نووي، لدفعها إلى مشاركته في ضربها. وقد وجد في #ترامب الشريك الذي يمنحه الضوء الأخضر. pic.twitter.com/RY7nhsvnvI
— نون بوست (@NoonPost) June 20, 2025
عمومًا، لم يصدر عن الوكالة في أي وقتٍ من الأوقات إدانة لأي هجومٍ إسرائيلي على منشآت نووية مجاورة (العراق 1981، سوريا 2007، وإيران لاحقًا)، بينما لم يخف أمانو، أو خلفه غروسي علاقتهما الطيبة مع “إسرائيل” والتي كان من وجوهها لقاءاته مع نتنياهو عدة مرات ما بين 2021-2023، وثنائه على التعاون الإسرائيلي مع الوكالة في مجالات الطب النووي والطاقة.
مؤخرًا وبعد إعلان ترامب عن وقف الحرب، أعلن البرلمان الإيراني تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، محملًا الوكالة مسؤولية “منح الأعذار” لـ”إسرائيل” والولايات المتحدة لشن هجوم عليها، كما انتقد عدم إدانتها للهجمات التي تعرضت لها منشآتها النووية.
ورغم أن تعليق التعاون يُستبعد أن يكون دائمًا، لا سيما مع صعوبة تحمل كُلفة الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي، لكن الحرب الأخيرة وضعت إيران أمام إدراكٍ مر، مفاده أن خضوعها لتفتيش الوكالة الدولية وتقبل تقاريرها المتعسفة لم يحم منشآتها، ولم يضمن لها حق التخصيب والاستخدام السلمي للطاقة النووية بل برر الهجوم عليها، وزاده بمطالبتها بالمزيد من التفتيش لفحص نتائج ما بعد الحرب.
ختامًا، لا يفترض بسلوك الوكالة أن يكون مفاجئًا، فخلال العامين الأخيرين ثبت أن المنظمات الأممية والأذرع القانونية المنبثقة عنها صمّاء وعمياء وعرجاء حين تتعلق المطالب برقبة الدول الغربية أو أثيرتها “إسرائيل”، لكنها زرقاء اليمامة في حدة بصرها، أذنٌ تمشي وترقص في رهافة سمعها، وريحٌ مرسلةٌ في انطلاقتها إذا ما كانت البوصلة موجّهةً نحو الآخر، الجنوب، الذي لا يحضر إلا كمذنبٍ أو عاصٍ تحق محاسبته.