بينما تتواصل المجازر الإسرائيلية الدامية بحق طالبي المساعدات في قطاع غزة، وارتقاء العشرات من المدنيين الأبرياء برصاص وقاذفات جيش الاحتلال، أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن اعتقاده بإمكانية التوصل إلى قرار لوقف إطلاق النار في القطاع خلال أسبوع تقريبًا، دون الحديث عن أي تفاصيل أخرى.
الرئيس الأمريكي وخلال تصريحات صحفية له بالبيت الأبيض، الجمعة 27 يونيو/حزيران الجاري، قال “غالبا ما أسأل عن غزة وقد تحدثت مع بعض الأشخاص المنخرطين في الملف.. هناك وضع مروع في غزة ونعتقد أنه بغضون الأسبوع المقبل سيتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار”.
تتزامن تلك التصريحات مع الحديث عن زيارة وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، إلى واشنطن، وزيارة أخرى مرتقبة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو خلال النصف الثاني من شهر يوليو/تموز المقبل، لبحث الملف الإيراني وحرب غزة، حسبما نقل موقع “أكسيوس” الأمريكي عن مسؤولين.
أعلن الرئيس الأميركي ترامب إن وقف إطلاق النار في #غزة قد يتحقق خلال أسبوع، واصفًا الوضع بأنه “مروع للغاية”. pic.twitter.com/NyNTKfYbsI
— نون بوست (@NoonPost) June 28, 2025
ورغم الثقة التي يتحدث بها ترامب بشأن اعتقاده التوصل لاتفاق الأسبوع المقبل، إلا أنه لا مؤشرات بشأن حدوث أي اختراق في مسار المفاوضات بين حماس و”إسرائيل”، حتى على مستوى الإدارة الأمريكية ذاتها، إذ أكد المتحدث باسم مكتب المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف، أنه ليس لديهم أي معلومات للكشف عنها بخصوص هذا الملف سوى تصريحات الرئيس فقط.
ويسعى الرئيس الأمريكي الذي انتهى لتوّه من التوصل لاتفاق تهدئة مفاجئ بين إيران و”إسرائيل”، ومن بعده التوسط لإبرام اتفاق سلام بين رواندا والكونغو الديمقراطية بعد صراع دام لأكثر من 30 عامًا، إلى تحقيق إنجاز جديد على المستوى الفلسطيني، يٌضاف لنجاحاته الدبلوماسية التي يؤمل نفسه أن تقوده لتحقيق حلمه في الحصول على جائزة نوبل للسلام.
السلام الاستراتيجي.. اتفاق على مقاس ترامب
وفقًا لما نشرته صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية، فإن ترامب قد أجرى اتصالا هاتفيًا مساء الاثنين الماضي، 23 يونيو/حزيران 2025، مع نتنياهو، بمشاركة وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، تضمن الاتفاق على ضرورة إنهاء الحرب في غزة خلال أسبوعين.
جاء هذا الاتصال بعد الضربة الأمريكية النوعية على المنشآت النووية الإيرانية الثلاثة، حيث ناقش الرئيس الأمريكي المفعم بنشوة الانتصار إيرانيًا سبل الدفع نحو ترتيبات سلام في الشرق الأوسط، وتوسعة رقعة اتفاقيات “أبراهام” لتشمل عدد من الدول العربية، على أن يبدأ التنفيذ بشكل عاجل وأن يكون إنهاء الحرب في غزة هو البداية.
“أمريكا التي أنقذت “إسرائيل”، ستنقذ نتنياهو الآن”.. هكذا لخص #ترامب دعمه لرئيس وزراء الاحتلال، في إطار خطة شاملة لما بعد ضرب #إيران تشمل إنهاء حرب غزة. pic.twitter.com/2KGlNOzgha
— نون بوست (@NoonPost) June 28, 2025
وكشفت الصحيفة عن بعض ملامح هذا الاتفاق الذي تمت مناقشته بين الجانبين، الأمريكي والإسرائيلي، وأبرزها:
– انتهاء الأعمال القتالية في غزة خلال أسبوعين.
– تولي أربع دول عربية (من بينها مصر والإمارات) إدارة قطاع غزة، بدلًا من حركة حماس.
– نفي ما تبقى من قيادة حماس إلى دول أخرى.
– الإفراج عن جميع الرهائن.
– استقبال عدة دول حول العالم عددًا من سكان غزة الذين يرغبون في الهجرة.
– توسيع اتفاقيات أبراهام سيشمل سوريا والسعودية ودولاً عربية وإسلامية إضافية للاعتراف بـ”إسرائيل” وتطبيع العلاقات معها.
– إعلان “إسرائيل” استعدادها لتسوية مستقبلية مع الفلسطينيين في إطار “حل الدولتين”، شريطة أن تقوم السلطة الفلسطينية بإصلاحات.
– ستعترف الولايات المتحدة بتطبيق سيادة إسرائيلية محدودة في الضفة الغربية.
ووفق ما ذكره مصدران دبلوماسيان للصحيفة، فإن الرئيس الأمريكي يمارس ضغوطا كبيرة على نتنياهو لإنهاء العمليات العسكرية في غزة، لافتين إلى أن هذه الضغوط بدأت قبل عملية “الأسد الصاعد” ضد إيران، واستُؤنفت فور انتهائها، فيما نفى مصدر ثالث علمه بوجود هذه الضغوط.
تأتي الضغوط الأمريكية في سياق ما يراه ترامب من أن حرب غزة تشكل عائقًا كبيرًا أمام مسار “السلام الاستراتيجي” الذي يسعى إلى إطلاقه قبيل الانتخابات الأميركية المقبلة، من أجل توظيفه سياسيًا ودعائيًا بما يعزز موقف حزبه، وعليه غازل نتنياهو بالعمل على تأجيل محاكمته في القضايا التي تلاحقه لإتاحة المجال له للتركيز على هذه الخطة السياسية.
استنادا إلى ما قاله مصدر مطلع على تلك المفاوضات، فإن ترامب غير مهتم بهدنة مؤقتة بل يريد وقفًا دائمًا لإطلاق النار، يقود إلى مفاوضات حول مستقبل اتفاقية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، ويدفع بعض دول المنطقة للدخول إلى “أبراهام” وفق ما نقلته مجلة “نيوزويك” الأمريكية.
مماطلة إسرائيلية معتادة
كعادة نتنياهو المنساق من ائتلافه اليميني المتطرف، فإن التسويف والمماطلة هي اللغة الوحيدة التي يجيدها رئيس الوزراء الإسرائيلي إزاء مناقشة هذا الملف، مكتفيًا بعقد جلسات أمنية مصغرة، ينبثق عنها جلسات أكثر صغرًا، في محاولة لامتصاص الضغوط الممارسة عليه.
يتمسك نتنياهو بحسب الإعلام العبري بمقترح ويتكوف كأرضية مشتركة لاستمرار عملية التفاوض، وهو المقترح الأقرب لصك الإذعان والاستسلام لحماس وبقية فصائل المقاومة، والذي وُصف بأنه اغتيال وتصفية ممنهجة للقضية الفلسطينية من جذورها.
وتشير هيئة البث الإسرائيلية إلى أن البون بين حماس وحكومة نتنياهو لا زال متسعًا، خاصة فيما يتعلق بمسألة وقف الحرب بشكل كامل، حيث تتشبث الحركة بهذا البند كشرط أساسي لا يمكن التخلي عنه للقبول بأي تسوية فيما يناور المحتل من أجل تجنيبه أي التزامات تدفعه للانسحاب ووقف إطلاق النهار نهائيًا والتخلي عن المكتسبات الميدانية التي حققها منذ بداية الحرب والتي يحاول من خلالها فرض تموضع جديد يعيد من خلاله هندسة القطاع وفق أجندته التوسعية.
بجانب الضغوط الخارجية التي يتعرض لها نتنياهو، هناك ضغوط أخرى لا تقل أهمية، تلك التي تشكلها عائلات الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة حيث دعت الهيئة الممثلة لهم إلى مشاركة واسعة في فعاليات ترفع شعار عودة المختطفين وإنهاء الحرب.
وترى هيئة عائلات الأسرى أن الوقت الحالي قد يكون الأنسب من أجل إبرام اتفاق شامل وعقد صفقة تبادل تٌنهي الحرب بالكلية، حيث ترى أن زمن الصفقات والهدن المؤقتة والجزئية قد ولّى بشكل كبير، وأن المطلوب حاليًا وتفرضه تطورات الميدان إعادة الجميع دفعة واحدة وغلق هذا الملف، معتبرة أن حسم هذا الأمر سيكون بمثابة الانتصار الكامل للكيان.
على المستوى الشعبي، فأظهر استطلاع رأي لصحيفة “معاريف” أن 59% من الإسرائيليين يؤيدون إنهاء حرب غزة والتوصل إلى اتفاق يعيد الأسرى مقابل وقف القتال والانسحاب، مقابل 34% يميلون إلى استمرار القتال، مستندين إلى قاعدة اليمين المتطرف التي تقول إن الضغط العسكري سيؤدي لعودة الأسرى.
وفي ذات السياق يرى 48% من الإسرائيليين أن استمرار الحرب في غزة خلفه دوافع وأسباب سياسية، في إشارة إلى مساعي نتنياهو إبقاء الوضع مشتعلا هربًا من الملاحقات القضائية وحفاظا على مستقبله السياسي، في مقابل 37% يعتقدون أن استمرارها يأتي لاعتبارات أمنية.
نموذج الشرق الأوسط الجديد
من الواضح أن الأمر أكبر من مجرد صفقة تهدئة في غزة، كما هو معلن، وأن الحراك يتجه صوب نموذج شرق أوسط جديد يحاول ترامب ونتنياهو صياغته بما يضمن التفوق الإسرائيلي الكاسح على حساب دول المنطقة.
هذا المشروع الذي بدأت إرهاصاته الأولى قبيل طوفان الأقصى، ثم اتضحت أكثر مع بدء حرب الإبادة ضد قطاع غزة، ومنها إلى تفكيك المحور الإيراني، في لبنان وسوريا والعراق واليمن، ثم استهداف المشروع النووي الإيراني وتقويض ترسانته الصاروخية، والذي يسعى الرئيس الامريكي اليوم لتتويجه باتفاق شامل يزج بضيوف جدد لحظيرة التطبيع المجاني.
نتنياهو وخلال خطابه في الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2024، رفع خارطة حدد فيها عدد من الدول التي قال إنها تهدد “إسرائيل”، ووصفها بأنها “دول ملعونة”، وهي: إيران وسوريا والعراق واليمن ولبنان، وهي الخارطة التي اعتبرها البعض حينها إعلان حرب من أجل تغيير الشرق الأوسط الجديد وتدشين النسخة المعدلة منها على المقاس الإسرائيلي.
وفي 17 ديسمبر/كانون الأول 2024 وبعد 9 أيام فقط من سقوط نظام بشار الأسد، وقف نتنياهو، على قمة جبل الشيخ في الجنوب السوري، ليقول “نحن هنا لدراسة الوضع لاتخاذ قرار بشأن الانتشار الإسرائيلي في هذا المكان المهم حتى يتم التوصل إلى ترتيب آخر يضمن أمن إسرائيل”.، وفي الخامس من مارس/ أذار 2025 عاد إلى هناك مرة أخرى ليعلنها صراحة: “لقد غيّرنا وجه الشرق الأوسط”.
غير أن هذا المشروع من شأنه أن يصطدم بعدة تحديات، لعل أبرزها معركة الميدان التي فشل الاحتلال في حسمها بعد رغم الفوارق الكبيرة في الإمكانيات والقدرات، فلا تزال المقاومة تلقنه يوميًا دروسَا قاسية في فنون القتال وتكبده خسائر فادحة في الأرواح وتبث حالة من الرعب في نفس المجندين.
أحاديث تدور في الكواليس حاليًا حول مساعي الوسطاء لإدخال بعض التعديلات على مقترح ويتكوف الأخير، الذي تتمسك به تل أبيب نصًا، بما يقرب المسافة نسبيًا بين المقاومة وحكومة نتنياهو، خاصة ما يتعلق بجزئية إنهاء الحرب بشكل كامل، وهو ما تميل له واشنطن، في ظل اعتراض بعض وزراء الائتلاف من اليمين المتطرف.
في الأخير.. يسعى كل من الرئيس الأمريكي وحليفه الإسرائيلي، جاهدين لاستثمار نشوة الانتصار على الجبهة الإيرانية – بحسب تقييمهما- لحسم معركة غزة، من خلال رفع سقف الضغوط الممارسة على المقاومة، بتلك الشروط المجحفة، بهدف ابتزازها، لإبداء المزيد من المرونة، ولكتابة الفصل الأخير في تلك الحرب بما يظهر كل من ترامب ونتنياهو في صورة القائدين المنتصرين، لتوظيف هذا المشهد لمصالحهما السياسية المستقبلية.
جولة صدام مرتقبة على طاولة المفاوضات بين الأمريكان والإسرائيليين من جانب، وفصائل المقاومة من جانب أخر، في ظل النقاط الملغمة التي تضمنها الاتفاق الأخير بحسب التسريبات، لتبقى الكرة في ملعب ترامب، قديس السلام كما يروج لنفسه، وقائد أوركسترا الحروب، فهل ينجح في إنهاء تلك الحرب أسوة بما فعله على الجبهة الإيرانية؟