ترجمة وتحرير: نون بوست
أثار زهران ممداني صدمة في البلاد بفوزه الساحق في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لمنصب عمدة مدينة نيويورك، متغلبًا بسهولة على خصمه أندرو كومو، وهي النتيجة التي خالفت تمامًا توقعات المحللين واستطلاعات الرأي. لن يجعله هذا الانتصار في موقع مؤثر في اليسار الأمريكي في السنوات المقبلة فحسب، بل سيدفع الكثيرين إلى التأمل في الطرق التي تميز بها ممداني عن التقاليد السائدة في إدارة الحملات الانتخابية للحزب الديمقراطي.
كان ذلك واضحًا بشكل خاص في موقفه من قضية إسرائيل وفلسطين، إذ إن محاولات كومو ووسائل الإعلام الموالية للمؤسسة الحاكمة لتأجيج المخاوف من مواقف ممداني قد فشلت، وهو ما يُعد جرس إنذار بشأن مدى تغيّر القاعدة الانتخابية للحزب الديمقراطي.
لقد تركزت حملة ممداني في المقام الأول على تكاليف المعيشة مثل الإيجارات والنقل، لكن كومو بذل جهدًا كبيرًا لتحويلها إلى استفتاء على آراء ممداني بشأن إسرائيل وفلسطين، وقد انساقت وسائل الإعلام التقليدية وراء هذا الطرح.
وفي كل المناسبات، سواء خلال ظهوره في برنامج ستيفن كولبير الحواري، أو في بودكاست “ذا بولورك”، أو حتى في المناظرات الانتخابية، تعرض ممداني لوابل من الأسئلة المتكررة حول إسرائيل. لم تكن آراء ممداني الراسخة حول هذا الموضوع سرًا، فقد قال بدقة إن إسرائيل ترتكب الفصل العنصري والإبادة الجماعية، وأيّد حركة المقاطعة وغيرها من طرق الاحتجاج.
هيمنت إسرائيل على كل النقاشات المتعلقة به، وغالبًا ما تمحور الحديث حول فرضية أن مدينة فيها نفوذ كبير لليهود مثل نيويورك سترفض تلقائيًا موقف ممداني الداعم لفلسطين.
على سبيل المثال، خلال أول مناظرة بين المرشحين لمنصب عمدة نيويورك، كان ممداني المرشح الوحيد الذي صرّح بأنه لن يزور أي دولة أجنبية إذا فاز بمنصب العمدة، على عكس معظم منافسيه الذين تعهدوا بزيارة إسرائيل. وعلى الفور، استغلّ مقدمو المناظرة الفرصة للضغط على ممداني وسؤاله عمّا إذا كان يعترف بـ”حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية”.
لم يُوجَّه هذا السؤال لأي مرشح آخر. وربما الأهم من ذلك، لم يُسأل أحد من المرشحين عمّا إذا كان يعتقد أن فلسطين لها الحق في الوجود من الأساس، ناهيك عن حقها في الوجود كـ”دولة عربية”. ولم يسأل أحد أندرو كومو عن سبب انضمامه إلى الفريق القانوني الذي يحاول منع مثول بنيامين نتنياهو أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
إن حقيقة أن المرشح المسلم الوحيد لمنصب العمدة تم استهدافه بسبب آرائه حول قضية فلسطين وإسرائيل، تعكس مدى التحيز الذي لا يزال موجودا في البيئة السياسية الأمريكية تجاه العرب والجنوب آسيويين، وكل من يحاول الوقوف إلى جانب فلسطين.
لكن ممداني كان مستعدًا بإجابة مثالية. حين طرح عليه المُحاور سؤالًا يحمل نوايا سيئة، أجاب: “أعتقد أن لإسرائيل الحق في الوجود كدولة يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية… أعتقد أن كل الدول يجب أن تقوم على المساواة في الحقوق”. وبدلاً من أن يرضخ للفرضية التي يطرحها السؤال، والتي تفترض أن من حق أي دولة أن تتبنى طابعًا قانونيًا وسياسيًا قائمًا على التمييز العرقي، استند ممداني إلى مفهوم الحرية والحقوق العالمية للجميع.
وقد لاقى هذا الخطاب صدى واسعًا لدى الأمريكيين، وخصوصًا الشباب والملونين، الذين يرون ما يعنيه ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين، ويتذكرون نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والجنوب الأمريكي في عهد قوانين “جيم كرو”.
وبالمثل، عندما سأله تيم ميلر على منصة “ذا بولورك” عمّا إذا كان مرتاحًا لاستخدام عبارات مثل “عولمة الانتفاضة” أو “من النهر إلى البحر”، لم يتردد ممداني أو يتراجع عن دعمه لتحرير فلسطين، بل شرح بهدوء وجهة نظره بشأن نضال الفلسطينيين من أجل الحرية.
لم يمنع ذلك شخصيات مثل ديفيد فروم أو جوناثان تشايت من اتهامه بمعاداة السامية، لكنه أيضًا لم يمنح وسائل الإعلام التصريح المثير الذي كانت تحلم به.
Huge respect to the art team for sifting through thousands of photos of this invariably smiling and neighborly man to find the one where he looks like Jafar from Aladdin pic.twitter.com/RDqEXmLon3
— Christopher Hooks (@cd_hooks) June 24, 2025
لقد ظهر انضباط ممداني في عملية التواصل بوضوح منذ اللحظة الأولى وحتى نهاية حملته، وقد لعب ذلك لفائدته. لكن لم يكن نجاحه بفضل الرسائل السياسية الجيدة فقط، فقد أدرك ممداني ما لم يدركه مهاجموه: أن تشويه سمعة شخص بسبب مواقفه المؤيدة لفلسطين لم يعد فعالًا كما كان من قبل، لا سيما إذا كان مرشحا عن الحزب الديمقراطي.
تتزايد الأدلة التي تؤكد هذا التوجه. أظهر استطلاع أجرته جامعة كوينيبياك في وقت سابق من الشهر الجاري أن التعاطف مع الإسرائيليين وصل إلى “أدنى مستوى له على الإطلاق”، في مقابل “أعلى مستوى من التعاطف مع الفلسطينيين” منذ ديسمبر/ كانون الأول 2001. وعلى عكس ما قد يرغب به البعض في التيار المؤيد لإسرائيل، فإن السبب بسيط: الناس لا يحبون الإبادة الجماعية.
وكشف استطلاع أجرته جامعة ماريلاند في مارس/ آذار الماضي أن 56 بالمائة من الناخبين الديمقراطيين يعتقدون أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب في غزة، فيما يرى 44 بالمائة أن ممارسات إسرائيل تشكل إبادة جماعية أو شيئًا قريبًا منها. ولعل اللافت في النتائج أن النظرة السلبية تجاه إسرائيل تزايدت بين الديمقراطيين في جميع الفئات العمرية دون استثناء.
ووفقًا لمركز بيو للأبحاث، فإن 71 بالمائة من الديمقراطيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و49 عاما لديهم نظرة سلبية عن إسرائيل في 2025، وكذلك 66 بالمائة من الديمقراطيين ممن يبلغون 50 عاما أو أكثر.
ومن الواضح تمامًا أن دعم القضية الفلسطينية لم يعد عبئًا على الناخبين الليبراليين في الولايات المتحدة. ولم يكن رفض ممداني التنازل عن هذا الدعم مجرد موقف مبدئي وأخلاقي فحسب، بل كان أيضًا خيارا سياسيًا ذكيًا، يتماشى مع مشهد إعلامي وسياسي جديد لم يتمكن خصومه من إدراكه.
رغم ذلك، سيكون من الخطأ القول إن ممداني فاز في التصويت بسبب مواقفه القوية المؤيدة لفلسطين. يحمل خصمه كومو سجلا سيئا للغاية: اتهامات بسوء السلوك الجنسي وسوء الإدارة في مجال الصحة العامة والعنصرية واللامبالاة تجاه المدينة. الشهرة وحدها لا تكفي للفوز بالسباق، خاصة إذا كان اسمك مرتبطًا بهذه الأمور.
وفي المقابل، أدار ممداني حملة استثنائية ركزت بشكل شبه حصري على أزمة تكاليف المعيشة، واتسمت بنبرة وأسلوب متفائلين. وقد نجح في بناء تحالف موحد ضد كومو؛ وقد لعب التقدمي اليهودي الأمريكي براد لاندر دورا بارزا في هذا السياق واتخذ موقفًا جديرًا بالثناء ضد السلطوية التي يمثلها ترامب. على الأرجح، كانت هذه العوامل أكثر تأثيرا بكثير من آراء ممداني الشخصية حول نظام الفصل العنصري الذي تفرضه إسرائيل على أكثر من 7 ملايين فلسطيني.
مع ذلك، لا يمكن القول إن هذه القضية لم يكن لها أي تأثير على نتيجة الانتخابات. رغم جهود ممداني الحثيثة (والناجحة عمومًا) لجعل هذه الحملة تتركز حول قضايا معيشية يومية، أصرّ أندرو كومو، وصحيفة نيويورك تايمز وآخرون، على تحويلها إلى استفتاء على ما وصفوه بآراء ممداني “الراديكالية” بشأن إسرائيل.
غالبًا ما يُقال إن النشطاء اليساريين هم من يجعلون من فلسطين اختبارًا أيديولوجيًا للترشح للمناصب، لكن الأشهر الماضية أثبتت أن هناك إجماعًا بين مؤيدي إسرائيل على أن أنه يجب على السياسيين دعم الوضع الراهن غير القابل للاستمرار في الشرق الأوسط.
فشلت محاولات فرض هذا الإجماع على زهران ممداني، ولم تؤدِ إلى إضعاف فرصه في الفوز في نهاية المطاف. ومن الواضح الآن أن دعم فلسطين لم يعد يشكل عائقا كبيرا أمام الناخبين الديمقراطيين كما كان يُعتقد سابقًا.
كتب آبي سيلبرشتاين في صحيفة هآرتس عشية الانتخابات التمهيدية، أن المؤسسة الحاكمة لا تخشى انتخاب عمدة معادٍ للسامية، بل تخشى من عمدة “يرمز إلى الانهيار المتواصل للتيار المهيمن المؤيد لإسرائيل داخل الحزب الديمقراطي، وربما في السياسة الأمريكية بشكل عام”.
في الواقع، يبدو أن المؤسسة الحاكمة محقة في مخاوفها. لن يكون عمدة نيويورك وزيرا للخارجية بحكم الأمر الواقع، ولن يُشرف على إنهاء الصراعات الخارجية، لكن من المهم أن تكون أكبر مدينة في البلاد، والتي تضم أكبر عدد من اليهود في العالم، تحت قيادة شخص يؤمن بأن الفلسطينيين واليهود يستحقون الحرية وتقرير المصير على قدم المساواة.
من المهم أيضًا أنه مع استمرار تحوّل المزاج العام داخل الحزب الديمقراطي وخارجه نحو موقف أكثر تأييدًا للفلسطينيين، أن يعبّر وجه سياسي مثل ممداني عن هذا التحوّل. قد تكون محاولات قمع هذه الرؤية حققت نجاحا على المدى القصير في السابق، لكن خلال العقد أو العقدين المقبلين، من المرجح أن نرى في الساحة السياسية سياسيين من أمثال ممداني، أكثر مما نرى أمثال سكوب جاكسون.
عاجلًا أم آجلًا، سوف يتعين على سياسات الحزب الديمقراطي تجاه فلسطين أن تنسجم مع هذا الواقع.
المصدر: ذا نيشن