في مصر، تاريخيًا، كانت الكوميديا الساخرة هي إحدى تجليات الغضب من سياسات النظام الحاكم، لاسيما الكوميديا السينمائية، والتي كانت هي المرئى الوحيد، والأول، الذي يشاهده الشعب المصري، فكانت أفلام كثيرة مثل الإرهاب والكباب، وعايز حقي، وظاظا، وسيد العاطفي، وغيرهم من عشرات الأفلام التي صُنعت إبان أنظمة عبد الناصر والسادات ومبارك، ولاسيما من بعد ثورة يناير عام 2011، حيث شهدت السينما المصرية في فترة بسيطة جدا، صناعة سينما ذات قضايا سياسية مباشرة، مثل فيلمي “صرخة نملة” و”18 يوم” وغيرهما.
بعد عام 2013، وبعد صعود سلطوية السيسي إلى الحكم، انكمشت صناعة السينما المصرية، ليست السينما السياسية المباشرة فحسب، بل حتى السينما الكوميدية ذات الطابع السياسي، وأصبحت الكوميدية مفرّغة من أي معنى سوى الابتذال، والابتذال فقط. فكيف أثر الاستبداد على انحدار الكوميديا في مصر، وكيف أصبح الضحك، مع منظومات التقنية والنيوليبرالية، طقوسا يومية ووظيفة للربح؟
اختفاء هوامش الضحك السياسي
شهدت السينما المصرية مساحات إبداعية كثيرة وكثيفة ومُتصاعدة منذ عهد عبد الناصر وصولًا إلى عهد مبارك، حيث كان الأخير يسمح بوجود هوامش واسعة للعمل السينمائي السياسي، الذي يتناول قضايا سياسية مصرية أو حتى قضايا عربية كلّية مثل قضية فلسطين، احتلالها وتحريرها، وانقسمت الأفلام إلى مباشرة تتناول قضايا حرجة مثل الفساد والتعذيب والفقر والاستبداد، مثل أفلام “هي فوضى” و”حين ميسرة” و “بنتين من مصر”، أو حتى أفلام ذات طابع سياسي مباشر، لكنها جاءت في تأطير كوميدي مباشر وذكي، مثل أفلام “سيد العاطفي” و”أصحاب ولا بيزنس” و”جاءنا البيان التالي” و”فيلم ثقافي” و”ليلة سقوط بغداد”.
أما في عهد السيسي، فلم يكتف من خلال سُلطويته، التي تدخلت في كل تفاصيل الحياة اليومية لدى المصريين، بالسيطرة على السياسة والاقتصاد والإعلام، بل امتدت سُلطويته لتشمل فضاءات صناعة السينما والدراما، من خلال شركات تابعة لأجهزة أمنية مثل “المتحدة” و”سنيرجي” وغيرهم.
في فبراير من عام 2022، تكلَّم السيسي صراحة، في إحدى خطاباته، عن صناعة السينما وأن فيلم كوميدي مثل “الإرهاب والكباب”، كان فيلمًا جعل من البلد، أي يقصد النظام الحاكم، كخصم للمواطن. لذا، كانت السيطرة على السينما ليست استراتيجية سياسية/أمنية عشوائية بل هو هدف سلطوي لمنع وجود أي هوامش نقدية لسياسات السُلطة التي يترأسها.
من هنا، تبدَّل مفهوم الكوميديا، فبدلا من كونه ناقدًا سياسات الفساد والهيمنة للسُلطة السياسية، بات يقدّم ضحكا دون أي هدف، ضحك من أجل التنمر على الجسد واللسان ولون البشرة، وعلى الفقر، دون الإشارة إلى مسببات هذا الفقر.
كما تفشّى الضحك على الإيحاء الجنسي، فتجد فيلم مثل ولاد رزق، في جزئه الثالث، كل ما فيه من ضحكٍ، هو إيحاء جنسي مباشر، يتحدث عن جسد المرأة والرجل، تحديدا أعضائِهما الجنسية.
هذا هو الضحك المقدم الآن في السينما، ضحك يخاف الاقتراب من السياسة، ضحك أقصى أمانيه أن ينال رضا راعي الترفيه السعودي، كي يأخذه وينقُله إلى مواسم الرياض التي يُدفع فيها آلاف الدولارات.
الضحك كطقوس.. الضحك كوظيفة
ارتبط الضحك على منصات التواصل الاجتماعي بصناعة “الميمز” على الصور والفيديوهات المأخوذة من الأعمال الفنية في السينما أو الدراما أو حتى من الصور المأخوذة من اليوميات الواقعية، لقاءات الشخصيات العامة والصور الشخصية وغير ذلك.
كانت صناعة “الميمز” ذات البُعد السياسي تحمل نقدًا سياسيًا لممارسات السُلطة، لكنه كان مرتبطًا بعمل سياسي واقعي، يناضل من أجل الإصلاح أو الثورة على تلك السياسيات غير المَرضي عنها.
لكن، مع تفريغ الحياة السياسية من أي مساحات لا ترضى عنها السُلطة، أصبح “الميمز” السياسي، على منصات التواصل الاجتماعي، روتينًا يوميًا، مثله مثل الطقوس الذي يؤديه أي إنسان بشكل مُتكرر، مثل الصلاة أو الذهاب إلى العمل أو تناول الطعام، فلم تعد صناعة “الميمز” بهدف التأثير السياسي، بل هدفا للضحك وجمع المشاهدات والتفاعلات، إذ فقدت أي بعد أو دور سياسي لها.
كذلك، أصبحت صناعة “الميمز” جزء من الشخصية الكاريزماتية على مواقع التواصل الاجتماعي، فالكوميديان على هذه المنصات يُصبح مُتمايزا عن غيره، إذ هو صانع للضحك، والضحك هي سمة أساسية داخل هذه المنصات -تحديدا بعد انتشار الريِلز-، ما يُعطيه قبولًا عاطفيًا، فالضحك بات سمة رئيسية لشريك الحياة.
الآن، الضحك جزء أساسي من الإنسان المثالي، واعترافا اجتماعيا لدى جمهور واسع، كما يزيد من شهرته ومن إعجاب الناس به. هنا، يصعب التخلّي عن صناعة الضحك المُستمر والمواكب للأحداث، من أجل عدم فقدان ما اكتسبه صانع الميمز من شهرة واعتراف وقبول، فتصبح صناعة الميمز ممارسة دائمة، مِهنة بلا مقابل مادي، لكن لها مقابل رمزي، حددته له المنصات متمثلا في الشهرة ونيل الاعتراف.
انتقالا من التقنية إلى فضاءات نيوليبرالية واقعية، فمنذ أعوام ظهرت وظيفة “الستاند آب كوميدي”، وقد نالت شهرة كبيرة في أوساط اجتماعية واسعة، وتمارس، بأن يقف الإنسان أمام الجمهور على مسرح كبير، كي يروي قصص شخصية أو غير ذلك من أجل الضحك.
في مصر، يوجد كثير من عروض “الستاند اب كوميدي”، لكن كلّها مفرّغة من السياسة، لتجنّب قمع السُلطة والدخول في غياهب عذاباتها التي لا تنتهي. فتكون كل الحكايات عن الواقع المعيشي والاجتماعي والسفر والرحلات والطبائع الإنسانية، وعجائبها، وكما الحال في الاستمرار بصناعة الميمز، هو ذاته في الاستمرار بصناعة الحكايات المُضحكة، وإعجاب الجمهور، وزيادته، وقدومه مرات أُخرى، ومُتكررة، ليدفع أموال من أجل تلك العروض. هكذا تدوّر النيوليبرالية عجلة الضحك في تلك العروض.
هكذا اُفرغ الضحك من عفويّته، وفضاءاته المكانية والزمانية المناسبة، فَعروض الضحك لا تتوقف، حتى وإن كانت هناك أحداث مُفجعة مثل الإبادة التي تحدث في فلسطين، لكن الكوميديان العربي، الفلسطيني تحديدا، لا يستطيع أن يتوقف عن صناعة الضحك، إذ هي ليست موهبة فحسب، بل هي وظيفة تُؤدى ضمن منظومة اجتماعية/اقتصادية لا تستطيع أن تتوقف، منظومة لا يهمّها سوى الربح، ولا تُراعي أي أحداث أو مواقف أخلاقية يجب أن تُتَخذ، وتُلبس مفاهيمها الناعمة لدى جمهورها، ونجومها، مفاهيم السعي نحو الفردانية، والبطل المتفرّد، ونيل الشهرة. تلك هي المفاهيم المُقدسة التي، في وقتنا الحالي، يحرّم انتقادها أو المساس بها.
هذا الإفراغ، انتقل إلى فضاءات وفئات اجتماعية أُخرى، فترى في الشوارع ما يُعرف ببرامج المقالب، فهي ليست كما كانت تُعرف من قبل بهدوءها وضحكها اللطيف، بل هي الآن تعتمد على العنف الجسدي والإذلال النفسي أمام الكاميرات.
المواطن المصري المُرهق نفسيا والمُستَبد سياسيا يلقى إهانات وعنف في الشوارع، على جسده وروحه، بهدف الضحك. صانعو تلك المقالب العنيفة لا يدركون مدى تأثيرها العنيف على هؤلاء المواطنين، لكن ما يدركونه هو ممارسة أي فعل، حتى إن كان عنيفا، من أجل الضحك، وكذلك كما هي عادة المنصات، نيل الشهرة والاعتراف، كما الربح من خلال هذه مشاهدات الجمهور. وكأن المُجتمع يضحك على نفسه، يُهين نفسه، طالما الاقتراب من أي فعل سياسي، سيعرّضه للإهانة من استبداد السُلطة السياسية.