فجرت حادثة شهيدات لقمة العيش في المنوفية (100 كم شمال القاهرة) والتي راح ضحيتها 19 فتاة في عمر الزهور، تتراوح أعمارهن بين 14 – 21 عامًا، نتيجة اصطدام ميكروباص كان يقلهن أثناء ذهابهن للعمل في إحدى المزارع، بسيارة تريلا (نقل ثقيل)، ينابيع الغضب لدى الشارع المصري الذي طالب بمحاسبة المتورطين في تلك الحادثة المروعة.
حالة حزن عارمة خيمت على منصات التواصل الاجتماعي جراء مشاهد التوابيت المروعة الحاملة لأشلاء الفراشات الصغيرات، وسط سخط واحتقان شعبي ملتهب، ومطالب بمثول الضالعين أمام الجهات الرقابية والقضائية، وتحميل وزير النقل الفريق كامل الوزير مسؤولية ما حدث، ومطالبته بتقديم استقالته وتقديمه للمحاكمة.
ليست هذه هي الحادثة الأولى التي تقع في عهد الوزير المقرب من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إذ شهدت ولايته منذ تقلده منصب وزير النقل في 2019 عشرات الحوادث التي راح ضحيتها الاف القتلى والمصابين، وسط مناشدات بإقالته فورًا، إلا أن الرئيس بدلا من الاستجابة لمطالب المصريين إذ به يرقيه ويكلفه بحقيبة الصناعة إلى جانب النقل، وسط أحاديث عن احتمالية تصعيده لرئاسة الحكومة مع أول تغيير وزاري محتمل.
إصرار السيسي على الإبقاء على الوزير رغم أخطائه الكارثية، وغض الطرف عن طوابير ضحاياه التي لا تنتهي، ومنحه كافة الصلاحيات دون رقابة، وتجاهل مطالب الشارع المصري، تكشف عن بعض ملامح الجمهورية الحديثة، الموكولة لأهل الثقة لا الكفاءة، وهو ما أوصل دولة الثالث من يوليو/تموز إلى ما هي عليه الآن، حيث الغرق في مستنقع عميق من الديون والازمات التي زجت بالملايين من أبناء الشعب المصري إلى مستنقع الفقر.
نزيف دماء لا يجف.. 33 ألف وفاة في عهد الوزير
تولى الفريق كامل عبد الهادي فرج الوزير (كامل الوزير) المولود عام 1957، والذي كان يشغل منصب رئيس الإدارة الهندسية بالمؤسسة العسكرية، منصب وزير النقل في 11 مارس/آذار عام 2019 ثم أوكلت إليه حقيبة الصناعة في 3 يوليو/تمًوز 2024، ليصبح وزيرا النقل والصناعة ونائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية.
تعهد الوزير منذ تسلمه المسؤولية بإحداث طفرة كبيرة في قطاع النقل ينجم عنها تراجعًا ملحوظًا في أعداد الحوادث وكلفتها البشرية من الوفيات والمصابين، وبالفعل استطاع أن يٌجري بعض التطورات التقنية واللوجستية في هذا القطاع الذي طالما عانى من الفوضى والارتباك نظرًا لحجمه وكثرة مشاكله.
لكن هذا التطوير الذي تكلف أكثر من 300 مليار جنيه ( 6 مليارات دولار) والذي استحوذ على نصيب الأسد من حجم القروض الخارجية، لم يحقق الهدف المطلوب منه، فلم تتراجع أرقام الوفيات وإن انخفضت معدلات الحوادث من حيث العدد، ففي عهد الوزير الجنرال شهدت الطرق المصرية نحو 33 ألف حالة وفاة بسبب الحوادث وأكثر من 318 ألف إصابة.
وتشير الأرقام إلى تراجع عدد حوادث القطارات من 2044 حادثة في العام 2018 قبل توليه الوزارة إلى 181 حادثة في العام 2023. كما انخفض مجموع حوادث القطارات من 7 آلاف و365 حادثة بين 2014 إلى 2018، إلى 2584 حادثة بين 2019 إلى 2023، لكن في المقابل زادت حالات الوفاة خلال ذات الفترة بنسبة أكبر 600%، من 267 حالة وفاة بين (2014 إلى 2018) إلى 1689 حالة وفاة بين (2019 إلى 2023).
أي أن معدل وفيات حوادث القطارات زادت من 4.4 حالة شهريًا خلال الخمس سنوات التي سبقت تولي الجنرال الوزارة، إلى 28 حالة شهريًا خلال فترة توليه المسؤولية، وفق ما أظهرته النشرة السنوية لحوادث القطارات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
الأمر ذاته بالنسبة لحوادث الطرق، والتي ارتفعت معدلات ضحايا بشكل كبير، من 3087 متوفي و11803 مصاب في عام 2018 حين تولى الوزارة إلى 5260 متوفي و 76362 مصاب في عام 2024، بما يعني ارتفاع معدلات الوفاة بنسبة تقترب من الضعف نسبيًا، و7 أضعاف زيادة في نسب الإصابات، وفقًا لأرقام الجهاز المركزي.
المٌحصن من الإقالة
في فبراير/شباط 2017 تولي هشام عرفات وزارة النقل في حكومة شريف إسماعيل، وكان قد أشرف على المشروع القومي للطرق الذي أحدث طفرة ملحوظة في البنية التحتية للطرق في مصر، واستمر في منصبه حتى 27 فبراير/شباط عام 2019 حين وقعت حادثة محطة رمسيس الشهيرة التي أودت بحياة 28 شخصًا وإصابة 52 أخرين.
حينها تقدم عرفات باستقالته كنوع من الإحساس بالمسؤولية وتقديرًا للموقف، بصفته الاعتبارية كوزير مسؤول عن القطاع بأكمله، ليأتي كامل الوزير بدلًا منه في هذا المنصب، إذ ليس من المنطقي أن يظل وزيرًا في منصبه بعد وقوع حادث بهذا الحجم، وهو العرف الذي اعتادت عليه الحكومات المصرية منذ عهد حسني مبارك.
وفي ظهر الجمعة 26 مارس/آذار عام 2021، أي بعد عامين على تولي الوزير المسؤولية، وقع حادث قطاري مركز طهطا بمحافظة سوهاج (جنوب)، وهو الحادث الذي أودى بحياة 19 شخصًا وإصابة أكثر من 185 آخرين، بعدما كانت الحصيلة الأولى تشير إلى وفاة 28 شخصًا قبل أن تٌعدل وزارة الصحية بياناتها لاحقًا.
توقع البعض حينها وبذات السردية أن استقالة الوزير مسألة وقت أسوة بما فعله سلفه الذي عٌين مكانه، لكن لم يحدث شيئ، لتقع حادثة تلو الأخرى ولا زال كامل الوزير في منصبه، بل على العكس، وبينما كانت المطالب تتصاعد بإقالته بسبب كثرة حوادث الطرق والقطارات إذ بالسيسي يوكل إليه حقيبة الصناعة في يوليو/تمّوز 2024، ومن هنا بدأ الحديث عن العلاقة القوية التي تربط الجنرال بالرئيس.
وقفز الوزير خطوات متسارعة نحو درجات الترقي الوظيفي منذ تولي السيسي الحكم، البداية كانت بعد تسلم السلطة مباشرة، من مدير سلاح المهندسين بالهيئة الهندسية إلى رئيسًا لأركانها في يوليو/تموز 2014، ثم وزير النقل والترقية إلى رتبة فريق في مارس/آذار 2019 وصولا إلى وزير الصناعة ونائب رئيس مجلس الوزراء العام الماضي.
وطالما تباهى وزير النقل بالمشاريع العملاقة التي أفرغ عليها خزانة الوزارة، واقترض بسببها نحو 20 مليار دولار من مؤسسات دولية، أبرزها القطار الكهربائي الخفيف (LRT، مونوريل العاصمة الإدارية، محور “تحيا مصر”، طريق “شبرا–بنها الحر”، إلا أن تلك المشروعات قوبلت بانتقادات حادة من قبل بعض المتخصصين الذين وصفوا بعضها بالاستعراضية التي تخدم فئة محدودة وتترك المناطق الأكثر حاجة دون تطوير حقيقي.
ولم يحظ وزير في عهد السيسي بالذي حظي به كامل، علاقة استثنائية من طراز خاص، لخصها الوزير في كلمة له خلال الندوة التي أعلن فيها الرئيس ترشيحه لوزارة النقل في مارس/أذار 2019 حين وصف السيسي بـ”الأخ والصديق والقائد والمعلم”، وأضاف “فيه كلام كتير هقوله إن شاء الله بعد نهاية خدمتي في مذكراتي عن هذا الرجل العظيم. أنا أعرف كتير جدًا عنه، يمكن كتير حضراتكم ماتعرفوهوش”.
جمهورية اللا حساب
في شتى أنظمة الحكم البرلمانية والجمهورية، ومن بينها مصر على وجه الخصوص، كانت الإقالة أو الاستقالة هي الحل الوحيد في مواجهة الحوادث ومؤشرات الفشل، كنوع من تحمل المسؤولية، ورغم أنه لا يوجد ما يدفع لذلك دستوريًا ولا قانونيًا، إلا أن العرف جرى على هذه الشاكلة، أن يتحمل المسؤول أيا كان منصبه ( وزير – محافظ – رئيس حي- وكيل وزارة.. الخ) تبعات الإخفاق في أي مجال.
وكان لهذا العرف بعدين أساسيين، الأول وهو البعد السياسي الناجم عن تحمل المسؤولية الاعتبارية والأخلاقية، بأن يترك المسؤول كرسيه فورًا، والثاني يتعلق بامتصاص الغضب والاحتقان الشعبي جراء هذا الفشل وتداعياته، وكأنها رسالة اعتذار من النظام إلى الشارع الذي لا يمكن تجاهل مزاجه العام.
وحدث هذا الأمر كثيرًا خلال العقود السابقة، أبرزها استقالة وزير الداخلية الأسبق أحمد رشدي بعد أحداث الأمن المركزي الشهيرة عام 1986، ثم استقالة وزير النقل إبراهيم الدميري بعد كارثة قطار الصعيد 2002، كذلك تقدم وزير النقل محمد لطفي منصور باستقالته عقب حادث تصادم قطاري العياط عام 2009، ليصبح ثاني وزير نقل يستقيل في عهد مبارك.
لكن في الجمهورية الحديثة الوضع مختلف نسبيًا، إذ يسعى السيسي لتدشين فلسفة واستراتيجية جديدة تجعل من التعيين والاستقالة قرارًا فرديًا بأيدي الرئيس، ولا لأحد سلطة في هذا الأمر، أيًا كانت هويته، بما فيها الشارع المصري، وعليه تعمدت السلطة الحالية ممثلة في رأس هرمها في السير عكس اتجاه المزاج الشعبي، بصلف وعناد يجيب عن الكثير من الأسئلة المسكوت عنها بشأن استراتيجية هذا النظام وتعاطيه مع هموم ومشاكل المصريين.
وعليه أصر السيسي على الإبقاء على وزير النقل رغم أخطائه الكارثية وأرقام ضحاياه المفزعة، الوضع ذاته مع وزير التربية والتعليم، محمد عبد اللطيف، الذي بُحت أصوات المصريين من أجل إقالته بسبب الشكوك حول صحة شهاداته ومؤهلاته، ومع ذلك تجاهل الرئيس تلك الصرخات، وعلى العكس تم تكريمه من قبل رئيس الوزراء الذي انبرى للدفاع عنه في سلوك يحتاج للكثير من المجلدات لتفسيره منطقيًا.
هناك زاوية أخرى قد تكشف النقاب قليلا عن دوافع السيسي في عدم إقالة المخطئين وعدم تحميل المسؤولين أي ذرة مسؤولية إزاء الفشل والحوادث التي تتكرر ليل نهار بسبب إخفاقاتهم، تتعلق بالخوف من معادلتين أساسيتين، الأولى معادلة الفشل – الإقالة، والثانية معادلة الإقالة – المحاسبة، بمعنى أن كل مسؤول أخطأ تتم إقالته، وكل من تمت إقالته يٌحاسب.
وفي ضوء تلك المعادلة فإن المحاسبة قد تطال رأس النظام، في حال خطأه، وكما أُقيل المسؤول الأصغر ( الوزير – المحافظ) فقد تنسحب الإقالة ذاتها على المسؤول الأكبر، ومن ثم محاسبته، وهي القاعدة التي لا يريد السيسي تدشينها في المشهد المصري مهما كانت كلفتها وتداعياتها، حتى لو كان الثمن الإبقاء على الفشلة والفاسدين والمخطئين.
وعلى مدار أكثر من عقد تقريبًا وفي ظل تلك القاعدة السلطوية، أهل الثقة لا أهل الكفاءة، ولا محاسبة لمسؤول بسبب خطأه، غاصت الدولة المصرية في عهد السيسي في أوحال مستنقع عميق من الأزمات والديون والمعاناة التي دفع -ولا زال المصريون ثمنها باهظًا، وزُج بالملايين منهم في أتون الفقر والعوز.