ترجمة وتحرير: نون بوست
لم يكن الخط الفاصل بين التعبير السياسي والجريمة الجنائية في المملكة المتحدة أكثر هشاشة مما هو عليه اليوم، وكما يتضح من من خلال عدسة التضامن مع فلسطين، فإن مدى تعدي بريطانيا على الحريات الأساسية يصبح واضحًا بشكل مؤلم.
فالحظر المستمر لحركة حماس يُستخدم كأداة وحشية لقمع التعبير عن المعتقد السياسي والتضامن العاطفي والغضب الأخلاقي، لا لقمع الأعمال الإرهابية، وبذلك تكون الدولة البريطانية قد رسخت نظامًا يجرّم الفكر ويزدري التعاطف ويعاقب المعارضة. إن حظر حركة المقاومة مجرد البداية؛ حيث نسمع الآن دعواتٍ متصاعدة لحظر مجموعة “فلسطين أكشن” الناشطة لسعيها لوقف آلة الإبادة الجماعية التي تمُد قوات الاحتلال الصهيوني.
لقد أصبح من الواضح تمامًا أنه من الضروري فعل شيء ما لتعطيل خطوط الإمداد التي تدعم دولة الفصل العنصري الاستعمارية الاستيطانية بالكامل من قبل الحكومات الغربية الحريصة على حماية بؤرتها الاستعمارية في الشرق الأوسط. في هذا السياق، قدمت منظمة “كايدج انترناشونال” طلبًا إلى وزير الداخلية البريطاني يدعو إلى إلغاء تصنيف حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وهي خطوة ضرورية لتغيير الخطاب العام حول الجماعات والمنظمات التي تتعرض للتشهير والتشويه بشكل مبالغ فيه، وتوثق مذكرة “كايدج” نمطًا مقلقًا: يتعرض الناس في الجامعات والمستشفيات وأماكن العمل وحتى المدارس الابتدائية للمضايقة أو الإيقاف أو الترحيل بسبب الكلام أو الأفعال التي تُفسّر باعتبارها تعبيرات عن دعم لجماعة محظورة. إن اتساع نطاق التشريع يعني عدم وجود نهج منطقي للنقاش والحوار المشروعين لأن التشريع يخلق بيئة من التجريم المفرط.
لنكن واضحين: لم يُقبض على الأفراد الذين وُجهت إليهم اتهامات في هذه القضايا وهم يخططون للعنف، ولم يُتهموا بتقديم دعم مادي لأي منظمة مسلحة، جريمتهم الوحيدة، إن صح لنا أن نسميها كذلك، كانت التعبير عن الحزن أو التضامن أو النقد السياسي، أو طالبة تتحدث بانفعال عن حرب غزة فتُلغى تأشيرتها، وطفل يرتدي علم فلسطين يُستجوب، وطبيبة تغرّد دعمًا للمقاومة الفلسطينية يتم إيقافها عن العمل، النمط واضح لا لبس فيه.
وبموجب المادة 12 من قانون الإرهاب لعام 2000، يُعدّ التعبير عن دعم منظمة محظورة جريمة. إن غموض القانون ليس عيبًا بل ميزة؛ وهذا الغموض تحديدًا هو ما سمح بتجريم الضمير، وغالبًا ما يُستدل على ما يُعتبر “دعمًا” من خلال أكثر القراءات تحيزًا: مقال أعيد نشره، أو تعليق عابر، أو شارة على سترة. كلٌّ هذا يُعاد تصوره من خلال منظور أمني كفعل متطرف محتمل.
ومع ذلك، وكما يُظهر الطلب المقدم من قبل منظمة “كايدج إنترناشونال”، فإن المعاناة لا تقتصر على المتهمين فقط، لأن المجتمعٌ حوّل الشك إلى عقيدة راسخة؛ حيث يُعزل الأطفال في المدارس لمجرد ترديدهم شعار “فلسطين حرة”، ويواجه الأكاديميون في الجامعات إجراءات تأديبية لدراستهم أدبيات المقاومة، ويتعرض المهنيون المسلمون في أماكن العمل للتشهير والإيقاف عن العمل والاستجواب، وقد فوضت الدولة فعليًا المعلمين ومديري الموارد البشرية ومسؤولي الهجرة ليكونوا حكامًا يحددون أحقية القبول السياسي.
لم يظهر هذا الذعر الأخلاقي من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة لنظام مكافحة الإرهاب الذي فرضته المملكة المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، وهو نظام لم يوضع لضمان الأمن، بل لتأديب المعارضة. وكما تلاحظ الدكتورة صوفي هاسبسلاغ في كتابها “حظر السلام“، فإن تصنيف الجماعات السياسية على أنها “إرهابية” يخدم وظيفة سياسية وليست قانونية، فهو يسمح للدول بإسكات المعارضة، وإغلاق باب التفاوض، وبناء ثنائية أخلاقية مصطنعة بين الجهات الفاعلة الشرعية وغير الشرعية.
في هذا الإطار، تُصنف حماس جماعة إرهابية، بينما يُحتفى بالميليشيات الأوكرانية المسلحة كمقاتلين من أجل الحرية. إن هذا التناقض ليس مجرد ازدواجية في المعايير، بل هو جوهر بنية سلطة الدولة.
إن خبث هذا القمع يكمن في مدى انتشاره؛ حيث تشمل الحالات التي جمعتها منظمة “كايدج” الطلاب الأجانب وأطباء هيئة الخدمات الصحية الوطنية وأطفال المدارس الابتدائية والمعلمين، وقد كانت استجابة المؤسسات في كل الحالات – سواء كانت مدارس أو مستشفيات أو جامعات – استجابة مفرطة في الامتثال، لا يوجد مجال للفروق الدقيقة ولا مساحة للسياق؛ فأصحاب العمل والإداريون يتصرفون بشكل استباقي حرصً منهم على تجنب الجدل، وغالبًا ما يكون ذلك دون دليل أو عدالة إجرائية. والنتيجة هي تأثير مخيف يمتد إلى ما هو أبعد من الهدف الأولي؛ حيث يصبح التضامن أمرًا خطيرًا ويتحول الحزن إلى أمر مثيرٍ للفتنة.
إن التحدث عن حماس بأي شكل من الأشكال سوى الإدانة، في ظل الإطار القانوني الحالي، هو دعوة للتحقيق، ولكن كما يعلمنا التاريخ، غالبًا ما يكون “إرهابيو” اليوم هم رجال دولة الغد؛ فقد تم حظر نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي ذات يوم، وتطلب إشراك شين فين في مفاوضات السلام إسقاط صفة “الإرهابي” عنه. وكما تقول هاسبسلاغ، فإن وقف إطلاق النار اللغوي – الاعتراف بالصراع، وإزالة إطار الإرهاب، والتمييز بين الأفعال والجهات الفاعلة – أمر ضروري للمضي قدمًا في أي مسار.
بدلاً من ذلك، رسّخ نظام الحظر البريطاني مكارثية ثقافية، حيث لا تقتصر مراقبة الخطاب السياسي بشأن فلسطين على الدول، بل تمتد إلى المؤسسات التي تدّعي حماية الخطاب الديمقراطي، مثل قضية “م”، الطالبة الفلسطينية التي استغلّ السياسيون ووسائل الإعلام تعليقها العفوي لصحفي حول 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فأُلغيت تأشيرتها الدراسية، ليُعلن قاضٍ لاحقًا أن تصرفات وزارة الداخلية انتهكت حقوقها في حرية التعبير والإجراءات القانونية الواجبة. هذا التراجع مُرحّب به، لكن الضرر قد وقع، فقد عاشت شهورًا في خوف، تُطاردها وسائل الإعلام، ويُشيطنها السياسيون، وحرمت من إكمال تعليمها.
أو مثل الأطفال: صبي في التاسعة من عمره يبكي بعد استجوابه بسبب ملصق، وطالب يُعزل لارتدائه ألوان العلم، ومراهق يُقارن بشميمة بيغوم لتساؤله عن عنف الدولة. هذه ليست حوادث معزولة، إنها أعراض مجتمع سمح لأجهزته الأمنية بتجريم التعاطف والفضول.
وربما يكون الشكل الأكثر قمعًا لتجريم التعاطف الذي شهدناه مؤخرًا هو الدعوة إلى تصنيف منظمة “فلسطين أكشن” كمنظمة إرهابية. فـ”فلسطين أكشن” حركة احتجاج سلمية تتبنى أسلوب العمل المباشر، وقد تصدرت الجهود الرامية إلى وقف تصدير أسلحة العنف الصهيوني من المملكة المتحدة، ما أسهم في إنقاذ أرواح فلسطينية. وتعكس الدعوات الأخيرة لحظرها وتصنيفها كمنظمة إرهابية بوضوح مدى تواطؤ الحكومة البريطانية مع الإبادة الجماعية الجارية، واستعدادها لاستخدام كل الوسائل الممكنة لتجريم أي شكل من أشكال المعارضة.
إن أسلوب العمل المباشر ليس أمرًا جديدًا على المملكة المتحدة، ولو كان كير ستارمر في السلطة خلال فترة نشاط حركة السوفراجيت، فلا شك لديّ في أنهم كانوا سيصنفون أولئك الناشطين الأوائل كإرهابيين، أو ربما بما هو أسوأ من ذلك. فإلحاق الضرر بمعدات تُستخدم في ارتكاب أبشع الجرائم بموجب القانون الدولي يجب أن يُفهم كفعل ضروري، لا كجريمة، وبالتأكيد ليس كعمل إرهابي.
وفي صميم الأزمة الحالية يكمن سوء فهم جوهري، أو ربما تشويه متعمّد، لمعنى التعبير عن التضامن. فالتضامن يعني المطالبة بمساحة للنقاش السياسي، والتأكيد على أن السلام لا يمكن أن ينشأ من الصمت، وأن العدالة لا تُنتزع من خلال القمع. وكما تُشير عن حق منظمة كيج الدولية، فإن القانون الدولي يوفر آليات واضحة لملاحقة جرائم الحرب. ولسنا بحاجة إلى أدوات قمعية غليظة تختزل السياسة في تهم جنائية.
وتجد الحكومة البريطانية نفسها الآن في حالة انتهاك لالتزاماتها بموجب قانون حقوق الإنسان لسنة 1998، من خلال قمع حرية التعبير والرأي. فإستراتيجية “بريفنت”، التي تزعم أنها تهدف إلى حماية الأمن القومي، لم تكن في واقع الأمر سوى أداة للمراقبة القائمة على التمييز العرقي وفرض التوافق الأيديولوجي. وقد تآكل الحق في الاعتراض، لا سيما في قضايا السياسة الخارجية، تحت ستار مكافحة الإرهاب.
وعلى بريطانيا أن تواجه هذه الحقيقة بجدية، كما يجب أن تُقرّ بأن نظام الحظر الذي تتبناه، والقوانين الخاصة بمكافحة الإرهاب التي يستند إليه، لا تصلح للغرض المنشود، ولم تكن كذلك في أي وقت. وفي هذا الإقرار؛ عليها أن تعي حجم الثمن المدفوع، ليس فقط على صعيد الأفراد الذين دمرت حياتهم هذه السياسات، بل على صعيد المبادئ التي تزعم أنها تقوم عليها ضمن نظام ليبرالي قائم على الحقوق.
إن التحدث باسم فلسطين لا ينبغي أن يكون عملًا شجاعًا، بل ينبغي أن يكون نابعًا من الضمير. وقد آن الأوان لأن تصغي بريطانيا، لا بريبة، بل بتواضع.
المصدر: موندويس