أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة اكتشاف بعض المواطنين وجود أقراص مخدرة من نوع “Oxycodone” في أكياس الطحين التي يوزعها الاحتلال الإسرائيلي عليهم، عبر مراكز المساعدات التي تشرف عليها تل أبيب، والتي صارت معروفة بـ”مصائد الموت”، لكثرة الشهداء الذين يقتلهم الاحتلال أمامها.
المعروف أن هذه الأقراص المخدرة تشكل خطرًا على صحة من يتعاطاها، حيث يتحول مع الوقت إلى الإدمان عليها، ما يترتب عليه تدمير جهازه العصبي على المدى البعيد، إضافة إلى كل الأضرار المعروفة عن المخدرات.
ولكن خلف ذلك يقع خطر آخر لم ينتبه إليه المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، وهو خطورة هذه الأقراص على خصوبة الفلسطينيين وقدرتهم على الإنجاب.
فوفقا لـ دراسة أجرتها المكتبة الوطنية للطب “NLM” التابعة لمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية، فإن أقراص “Oxycodone” تقع ضمن المواد الأفيونية التي يمثل تعاطيها خطرًا على خصوبة النساء، حيث تقلل من احتمالية حدوث الحمل، وتحفز بطانة الرحم على رفضه، ناهيك عن الأضرار التي تصيب الغدد الصماء والغدة النخامية والتناسلية.
والأخطر من ذلك هو حدوث إجهاض بنسبة 50٪ إذا ما تعاطت المرأة تلك الأقراص في بداية الحمل، وقد يصل خطر الإجهاض إلى 150٪ إذا تعاطته المرأة خلال الأسبوع الثامن من الحمل، بحسب الدراسة.
هذه المعلومات تدفع بشدة باتجاه تفسير نية الاحتلال وضع الأقراص في طحين الفلسطينيين دون علمهم لتقليل خصوبتهم، للحد من نمو عدد السكان بالقطاع المتكدس بالبشر، والذين طالما اعتبرهم قنبلة في وجه طموحاته بالقضاء على الوجود الفلسطيني في غزة وفلسطين عموما.
ويعتبر التأثير الجنساني لهذه الأقراص جزءًا من ممارسات مختلفة للاحتلال الإسرائيلي هدفها القضاء على خصوبة الفلسطينيين ولاسيما بعد 7 أكتوبر، سنبينها في سطورنا التالية، كنمط من الحرب على السكان لا ينفصل عن حرب الإبادة ككل، بعد أن رفضوا الهجرة من أرضهم.
تفوق الفلسطينيين الديموغرافي.. تحدي الخصوبة
قبل الحديث عن ممارسات الاحتلال للقضاء على خصوبة الفلسطينيين وحرمانهم من الإنجاب، نمر أولا على تاريخ المشكلة الديموغرافية التي واجهت دولة الاحتلال منذ بداية تأسيسها، والتي دفعته إلى خوض حروب خصيصا لتقليل عدد الفلسطينيين أو طردهم من أراضيهم.
منذ صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم الأراضي الفلسطينية بين العرب واليهود، واجه الصهاينة مشكلة ديموغرافية، حيث وجدوا أن عدد العرب يفوقهم؛ إذ كان اليهود وقتها حوالي 660 ألفا في مقابل ما يقرب من مليون ونصف المليون فلسطيني، حسبما يذكر المفكر اليهودي الأمريكي نورمان فينكلشتاين في كتابه “غزة: بحث في استشهادها”.
وبجانب مشكلة التفوق العددي للفلسطينيين، يوضح فينكلشتاين أن توزيع السكان كان مشكلة أيضا، فالأراضي التي اقتطعت لصالح اليهود كان يسكنها عرب بجانبهم، ناهيك عن المناطق الفلسطينية التي يسكنها عرب فقط، ولذلك اتفق جميع قادة الصهاينة حينها، من اليمين إلى اليسار، على أن غالبية السكان في الأراضي الفلسطينية يجب أن تكون يهودية، لأن استمرار الفلسطينيين بالنسبة التي كانوا عليها وقتها في مقابل اليهود ستؤدي حتما إلى زوال إسرائيل.
وبسبب ذلك بدأت عمليات التطهير العرقي للفلسطينيين على يد العصابات الصهيونية عام 1947، بالتهجير القسري والقتل والتخريب، مع بدء ما عرف وقتها بالخطة “دالت”.
في عام 2001 جاء في وثيقة مؤتمر هرتزيليا الأول، الذي انعقد عام 2000، والتي حملت عنوان “ميزان المناعة والأمن القومي.. اتجاهات سياسة عامة – THE BALANCE OF NATIONAL STRENGTH AND SECURITY.. POLICY DIRECTIONS ” أن الفلسطينيين داخل إسرائيل (عرب 48) يضاعفون عددهم مرة كل عقدين، حيث تبلغ الزيادة السكانية السنوية بينهم 4.2٪ وهي من أعلى نسب الزيادة السكانية في العالم.
وتحديدا تبلغ نسبة الولادة في أوساط المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين (عرب 48) 4.6 مولود للمرأة الواحدة، بينما تنجب المرأة اليهودية في إسرائيل 2.6 مولودًا فقط، أي تنجب اليهودية -تقريبا- نصف ما تنجب الفلسطينية، ما يعني أن المواجهة الديموغرافية بين الفلسطينيين واليهود ستنتهي لصالح الفلسطينيين الأكثر إنجابًا.
أما في قطاع غزة والضفة الغربية فالفاجعة أكبر لإسرائيل، فقد بلغ معدل الخصوبة 6 أطفال في غزة و5.6 بالضفة عام 1997، بحسب تقرير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
هذا التحدي الديموغرافي أوصت الوثيقة بمواجهته بحزم وبتخطيط بعيد المدى لضمان تفوق العنصر اليهودي، باتخاذ إجراءات ضد الفلسطينيين، منها، منع تعدد الزوجات بينهم، وربط تقديم المساعدات بعدد محدد من الأطفال، والدفع بمنظمات دولية وإقليمية للترويج لتحديد النسل بين الفلسطينيين.
تلك الإجراءات لم تنفذها إسرائيل كلها، لكنها نفذت ما هو أصعب منها، من حصار وتجويع وقتل ممنهج، من خلال عمليات عسكرية متكررة، ما تسبب في خفض معدل الخصوبة من 6 أطفال إلى 4.5 عام 2013 بقطاع غزة، وفي الضفة قلّ إلى 4.1 في نفس العام.
ثم انخفض المعدل إلى 3.9 في قطاع غزة، و3.8 في الضفة الغربية، بحسب آخر مؤشر للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني الصادر عام 2022.
هذا الانخفاض له أسباب كثيرة، منها ما ذكرته منظمة اليونيسف، في تقرير لها، قبل 7 أكتوبر 2023، عن أن ربع نساء فلسطين معرضات للوفاة أثناء الولادة، بسبب الفقر وسوء الخدمات الصحية وضعف التغذية، لافتة إلى أن حصار الاحتلال سبب مباشر في ذلك. وهو الأمر الذي أكد عليه صندوق الأمم المتحدة للسكان، حيث ذكر أن حوالي 94 ألف امرأة فلسطينية تفتقر إلى خدمات الصحة الجنسية والإنجابية.
وفي المقابل ارتفع معدل الخصوبة في إسرائيل إلى 2.9 طفل لكل امرأة، وهذه النسبة تشمل العرب والدروز داخل إسرائيل، لكن معدل الخصوبة بين اليهوديات ارتفع إلى 3.6 طفل لكل امرأة، متفوقا لأول مرة على معدل الخصوبة عند النساء الفلسطينيات داخل إسرائيل، الذي لم يتجاوز 2.75 طفل، بحسب بيانات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي لعام 2024.
بعيدا عن فلسطينيي 48 داخل إسرائيل، تقترب هذه النسبة من معدل الخصوبة في قطاع غزة والضفة الغربية (3.9)، وهو من أعلى المعدلات في العالم، ولكن المزيد من تشجيع اليهوديات على الإنجاب، في مقابل التضييق على الفلسطينيات، قد يدفع النسبة إلى التعادل أو ربما تفوّق اليهود، وهو ما تعمل عليه إسرائيل على قدم وساق وبعنف خاصة بعد طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023.
بعد 7 أكتوبر.. حرب خشنة على خصوبة الفلسطينيين
إن كان التضييق والحصار وتضييق الحياة في غزة والضفة قد أدى إلى تخفيض معدل الخصوبة من 6 أطفال إلى 3.9 عام 2022، فالمتوقع أن تنهار هذه النسبة بعنف بعد ما يحدث في غزة منذ 7 أكتوبر 2023، حيث تشن إسرائيل حرب إبادة بمعناها العسكري على خصوبة الفلسطينيين.
وبالتأكيد لن يتضح الحجم الحقيقي لأثر الحرب على الفلسطينيين إلا بعد تمكين أجهزة الحكومة الفلسطينية من ممارسة أعمالها لعمل إحصاءات دقيقة، وهو أمر لن يحدث إلا بتوقف العمليات العسكرية الدائرة من ما يقرب من عامين.
تمارس إسرائيل حربها على الخصوبة في غزة عبر مستويين: الأول: منع الحمل من الأساس، والثاني: إن حدث الحمل، فالحامل لابد أن تتعرض لخطر الإجهاض، أو تواجه تعقيدًا في عملية الولادة إن وصلت إليها، ثم حصار الرضع بالجوع المؤدي للموت إن ولدوا أصحاء، أو بالموت المباشر إن ولدوا في احتياج إلى رعاية صحية خاصة وحضانات، بتدمير البنية الصحية الخاصة بهم أو وقفها عن العمل.
على المستوى الأول، تمثل الحرب في حد ذاتها مانعًا قهريًا لممارسة الأزواج لحياتهم الطبيعية، بعدما فقدوا منازلهم وأي أمان يسمح باجتماعهم، في ظل القصف الذي دمّر أكثر من 69٪ من المباني حتى مطلع عام 2025، ولا شكّ أن النسبة ارتفعت أكثر مع كتابة هذه السطور.
أما بالنسبة للنساء والرجال الذين كانوا قد لجأوا إلى الحقن المجهري وأطفال الأنابيب فقد دمر الاحتلال أحلامهم، بقصف منشآت التخصيب المجهري داخل المستشفيات التي طالها جميعا القصف الإسرائيلي.
ثم قصف الاحتلال مركز البسمة الطبي للتخصيب، أكبر وأهم المراكز من نوعها بغزة في أبريل 2024، ليدمر 4 آلاف من الأجنة، بالإضافة إلى ألف عينة من الحيوانات المنوية والبويضات التي كانت في طريقها للتخصيب والتحول إلى أجنة.
وذكرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة في تقريرها الصادر في مارس 2025 أن قصف المركز كان متعمدًا من الاحتلال لحرمان الفلسطينيين من الإنجاب.
الأمر الذي استدعى دموع الدكتور بهاء الغلاييني، قهرًا وكمدًا على أحلام آباء وأمهات كانوا في طريقهم لإنجاب 5 آلاف طفل:
الأمم المتحدة: إسرائيل تدمر عمدًا خصوبة الفلسطينيين
المستوى الثاني في حرب الاحتلال على الإنجاب والخصوبة في غزة يتعلق بالنساء الحوامل اللائي لم يكن حالهن مقبولا بالأساس قبل السابع من أكتوبر كما أشرنا سابقا، ولكن بعد طوفان الأقصى مارس الاحتلال ضدهن حملة شرسة ضمن حرب الإبادة عموما ضد الفلسطينيين.
النساء الحوامل في قطاع غزة تطالهن الهجمات إما بشكل مباشر، فيقتلن أو يتعرضن لجراح، أو لاستنشاق غازات سامة، الأمر الذي يؤدي إلى إجهاضهن أو إلى ولادة مبكرة، وولادة أجنة غير مكتملة تتعرض للموت في ظل عدم وجود مستشفيات وحضانات، بل وكثيرا ما يولد الجنين ميتا، بحسب تقرير للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، بعنوان “إجراءات الاحتلال الإسرائيلي لمنع الإنجاب في قطاع غزة”، والصادر في مارس 2024.
فمع بدء عمليات الاحتلال في غزة بعد 7 أكتوبر، كان القطاع يضم حوالي 50 ألف امرأة حامل، افتقدن إلى مراكز الإيواء والمستشفيات والمستلزمات الطبية في ضوء الحصار وقصف الاحتلال المتعمد للبيوت والمستشفيات.
والحالات الإنسانية هنا لا حصر لها، منها ما روته دينا هاني عليوة، وفقا للتقرير حيث قالت: “استنشقت غاز فسفور ألقي في شارع الوحدة، وكنت في الشهر الثامن من الحمل، فأصابني اختناق حاد وهربت إلى مدرسة الرمال الإعدادية، وبعد أسبوعين أتى موعد الولادة فذهبت إلى عيادة خاصة للاطمئنان على الجنين، ليخبرني الطبيب أن الجنين قد مات، بسبب استنشاق الغاز السام المنبعث من قنابل الاحتلال”.
وربما تكون حالة دينا أهون حالا من حالات أخرى تعرضت لإصابات أشد بكثير من مجرد تنفس غازات سامة، أدت إلى إجهاضهن.
ومن لم يصيبها الأذى المباشر نتيجة انعدام الحماية من القصف، لا تستطيع الحصول على الغذاء اللازم لإتمام الحمل، في ظل سياسة التجويع، بل والتعطيش، بقطع المياه ومنع الطعام، حتى أن كثيرات منهن لا تستطيع تناول وجبة واحدة يوميًا.
ومن تستطيع إكمال حملها وتصل إلى الولادة قد لا تجد مستشفى تلد فيه، أو تجده ولا تجد المستلزمات الطبية والرعاية اللازمة للولادة.
ورصد الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة IPPF في تقرير له بعنوان “No freedom without reproductive freedom for Palestinian women – لا حرية بدون حرية إنجابية للمرأة الفلسطينية”، أن الفلسطينيين يتعرضون على يد الاحتلال الإسرائيلي لحرمان ممنهج من الإنجاب، من قبل أحداث 7 أكتوبر، وزادت واستفحلت بعده، بعد تعمد الاحتلال قصف مراكز وعيادات الصحة الإنجابية، على رأسها المركز الذي كانت تديره جمعية تنظيم الأسرة الفلسطينية.
وحتى من تستطيع الوصول لمستشفى وتلد، لا تستطيع أن تمكث بالمستشفى أكثر من 3 ساعات بعد الولادة، لعدم وجود مكان يسعها، ما يشكل تهديدا خطيرا على الأم والجنين.
ومنهن من تضطر إلى الولادة في السيارات أو في الملاجئ المكتظة وغير الصحية، حيث يكون خطر الإصابة بالعدوى مرتفعًا، والمؤلم، بل شديد الألم، أن بعضهن اضطررن لإجراء ولادة قيصرية بدون تخدير، بحسب التقرير.
ولفت تقرير IPPF إلى أن هذا العذاب دفع بعض نساء غزة إلى الإجهاض المتعمد غير الآمن، ناهيك عن تعمد بعضهن منع الحمل ولو بأساليب غير صحية بتناول أي عقاقير تمنع الحيض أو تؤخره، لأن الحمل صار مغامرة مميتة للمرأة ولجنينها.
الأمر نفسه أكده تقرير للأمم المتحدة في مارس 2025، حيث أفادت لجنة تحقيق تابعة للمنظمة الأممية أن إسرائيل تدمر عمدا قدرة الفلسطينيين في غزة على الإنجاب، عبر مجموعة من الممارسات، منها القصف المتعمد لمركز الخصوبة الرئيسي بالقطاع، إضافة للمستشفيات التي تقدم الرعاية الصحية للحوامل.
وأكدت أن الهدف من التدمير هو منع الولادات في غزة والتأثير على الإنجاب، معتبرة تلك الممارسات من أعمال الإبادة الجماعية.
وقالت رئيسة اللجنة نافي بيلاي إن ما ترتكبه إسرائيل ضد نساء غزة وفتياتها، لا يقتصر على التأثير الوقتي المباشر، وإنما سيؤدي إلى تداعيات خطيرة على خصوبتهن وصحتهن الإنجابية مستقبلاً.
التقرير ذكر أيضا أن الأمر لا يقتصر على النساء الحوامل، لافتا إلى أن هناك جرائم اغتصاب وعنف جنسي تمارس تجاه الأعضاء التناسلية للفلسطينيين بأوامر من القيادات الإسرائيلية، وهو أمر يؤثر على القدرة الجنسية والإنجابية.
الاحتلال يعمل على خطته التي فضحها العالم، لأنه يعلم أن الولادة والإنجاب بالنسبة للفلسطينيين لا يمثل حلمًا شخصيًا غريزيًا كما في أي مكان بالدنيا، وإنما هو وسيلة إمداد القضية الفلسطينية بمقاومين يدافعون عنها، ويعملون على استمرارها حية، حتى تتحرر الأرض ويعود اللاجئ.
فالفلسطيني يعيش على أمل الميلاد، الميلاد الذي بشر به أمل دنقل في قصيدته “لا تصالح”:
وغدًا، سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً، يوقد النار شاملةً، يطلب الثأرَ، يستولد الحقَّ من أَضْلُعِ المستحيل.