ترجمة وتحرير: نون بوست
قبل أسابيع من اندلاع الحرب الأهلية المروعة في السودان، استقبل الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، أحد أغنى رجال الشرق الأوسط، في قصره الفاخر المطل على الخليج العربي، أحد مهندسي الفوضى في السودان.
يُعرف الشيخ منصور، وهو الشقيق الأصغر لحاكم الإمارات القوي، في الغرب بكونه جامعًا لليخوت الفاخرة والخيول الأصيلة، لكنه يشتهر أكثر بصفته مالك نادي مانشستر سيتي، فريق كرة القدم الإنجليزي الذي حقق نجاحًا كبيرًا. في السنة الماضية، حصل فريقه نيويورك سيتي الذي يملكه أيضا على موافقة لبناء ملعب كرة قدم بقيمة 780 مليون دولار في منطقة كوينز، ليكون الأول من نوعه في المدينة.
استضاف في فبراير/ شباط 2023 بشكل علني قائدا عسكريا سيء السمعة من صحاري غرب السودان، وهو شخص نفذ انقلابا على السلطة القائمة، وجمع ثروة طائلة من تجارة الذهب غير المشروعة، وتلاحقه اتهامات بارتكاب جرائم واسعة النطاق.
كان الرجلان يعرفان بعضهما جيدًا. استضاف الشيخ منصور الفريق أول محمد حمدان قبل ذلك بسنتين في معرضٍ للسلاح بالإمارات؛ وتجوّلا معًا بين الصواريخ والطائرات المُسيّرة.
- وعندما اندلع الصراع في السودان في أبريل/ نيسان 2023، قدّم الشيخ منصور الدعم لحمدان في هذه الحرب.
أقامت الجمعيات الخيرية الخاضعة لسيطرة الشيخ منصور مستشفى في السودان معلنةً أنها تقدم العلاج للمدنيين. لكن هذا الجهد الإنساني كان غطاءً لعملية إماراتية سرية لتهريب طائرات مسيّرة وأسلحة فتاكة أخرى إلى قوات الدعم السريع التي يقودها الفريق أول محمد حمدان، وذلك وفقًا لمسؤولين أمريكيين وأمميين.
لقد ظهرت أدلة كثيرة على ارتكاب قوات حمدان مجازر وعمليات اغتصاب جماعي وإبادة جماعية. وبينما تنفي الإمارات تسليح أي طرف في الحرب، اعترضت الولايات المتحدة مكالمات هاتفية منتظمة بين الفريق أول حمدان ومسؤولين إماراتيين بينهم الشيخ منصور بن زايد.
ساعدت هذه المعلومات الاستخباراتية المسؤولين الأميركيين على الوصول إلى استنتاج مفاده أن الشيخ المتواضع لعب دورًا محوريًا في جهود تسليح قوات الفريق أول حمدان، مما أدى إلى تأجيج صراع مدمّر تسبب في مجاعة وأكبر أزمة إنسانية في العالم.
ولم يردّ الشيخ منصور ولا الفريق أول حمدان ولا وزارة الخارجية الإماراتية على أسئلة مفصلة متعلقة بعلاقاتهم وأدوارهم في الحرب.
رغم امتلاكه أحد أشهر فرق كرة القدم في العالم، ظل الشيخ منصور (54 عاما) شخصية غامضة، وكثيرا ما أظهر قدرة على الاختفاء عن الأنظار مثل الحرباء، وبقي في الظل مقارنة بإخوته الأكثر نفوذًا أو شهرة.
مع ذلك، وُصف خلال مقابلات أُجريت مع أكثر من 12 مسؤولًا أمريكيًا وأفريقيًا وعربيًا بأنه يتصدر المساعي العدوانية التي تبذلها بلاده لتوسيع نفوذها في أفريقيا والشرق الأوسط.
في دول مثل ليبيا والسودان، يُقال إن الشيخ منصور احتضن أمراء الحرب والحكام المستبدين في إطار حملة إماراتية واسعة تهدف إلى السيطرة على الموانئ والمعادن الاستراتيجية ومواجهة الحركات الإسلامية وترسيخ مكانة الدولة الخليجية كقوة إقليمية كبرى.
- الفريق أول محمد حمدان، قائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية، داخل مقر القيادة العامة للجيش السوداني سنة 2019. اعترضت الولايات المتحدة مكالمات هاتفية أُجريت بشكل منتظم بين الشيخ منصور والفريق أول حمدان.

بينما يقود شقيقه، حاكم الإمارات المتشدد الشيخ محمد بن زايد، بلا شك سياسة البلاد الخارجية، يقول المسؤولون الذي حاورتهم نيويورك تايمز إن الشيخ منصور نجح بكل هدوء في الاضطلاع بدور مؤثر، إذ عزز القوة الناعمة للبلاد من خلال كرة القدم، وفي الوقت نفسه عمل على توطيد علاقاته مع قادة حركات مسلحة في عدد من دول العالم الأكثر هشاشة.
وقال أندرو ب. ميلر، الدبلوماسي الأمريكي السابق: “إنه الوسيط والمفاوِض الذي يتم إرساله إلى الأماكن التي لا تتمتع بالكثير من السحر أو الأضواء، لكنها بالغة الأهمية بالنسبة للإماراتيين. ويبدو أن هذا هو مجال تخصصه”.
وقد وصف ما لا يقل عن ستة مسؤولين آخرين الشيخ منصور وصفا مماثلا.
في الغرب، ظل الشيخ منصور إلى حد كبير بعيدًا عن الأضواء. نادرًا ما يلتقي بالدبلوماسيين الغربيين، ولا يتحدث إلى الصحفيين، ولا يحضر معظم مباريات فريق مانشستر سيتي الشهير الذي يملكه. وحتى عندما واجهت مشاريعه اتهامات دولية بالفساد أو بانتهاك حظر السلاح الدولي، فقد نجا من أي توبيخ علني.
غير أن هذا الشعور بالحصانة المطلقة بدأ يتصدع. في السنة الماضية، أقرّت الحكومة البريطانية قانونًا حال دون استحواذ الشيخ منصور على صحيفة مرموقة، خشية أن يؤثر ذلك على حرية الصحافة. كما كشفت محاكمات في الولايات المتحدة وماليزيا عن اتهامات بأن الشيخ منصور استفاد ماليًا من فضيحة “صندوق التنمية الماليزي“، إحدى أكبر عمليات الاحتيال المالي في العالم.
وقد أدى تفاقم الحرب الأهلية في السودان، والتي أودت بحياة أكثر من 150 ألف شخص وشرّدت أكثر من 12 مليونًا، إلى توجيه اتهامات للإمارات بتمويل إبادة جماعية. وقد دعا مشرّعون ديمقراطيون في الولايات المتحدة إلى حظر مبيعات الأسلحة الأمريكية للإمارات.
والآن، أصبحت جوهرة الشيخ منصور الرياضية تحت الحصار. تدرس لجنة بريطانية حاليًا سلسلة من الاتهامات الواسعة التي تفيد بأن نادي مانشستر سيتي ارتكب مخالفات جسيمة. اتّهمت رابطة الدوري الإنجليزي النادي بالتلاعب في سجلاته المالية لتمويل صفقات شراء نجوم كبار، ساهموا في تحقيق سلسلة انتصارات مذهلة، حوّلت النادي من فريق متعثر إلى ظاهرة رياضية عالمية.
ينفي نادي مانشستر سيتي هذه الاتهامات، لكن في حال ثبوتها، قد يتعرض الفريق لغرامات كبيرة، أو الطرد من الدوري، أو تجريده من العديد من ألقابه. تمثل هذه اللحظة أيضًا محطة حاسمة بالنسبة للشيخ منصور، الذي أصبحت تحركاته تحت الأضواء، وهو ما سعى طويلًا إلى تفاديه.
لم يردّ مانشستر سيتي على طلب للتعليق.
ومهما كانت نتيجة الحكم، فإن هذه القضية تثير احتمال أن تكون السرية الاستثنائية التي تمتع بها الشيخ منصور، والمدعومة بتدفقات مالية غير محدودة، على وشك أن تصل إلى نهايتها.
هذه هي قصة الشيخ الذي فضّل أن يبقى في الظل.
شيخ كرة القدم
في جيل أجداده، كان معظم سكان ما يُعرف اليوم بدولة الإمارات من مزارعي النخيل ورعاة الإبل وصيادي اللؤلؤ. لكن اكتشاف النفط في ستينيات القرن الماضي أدى إلى تحول مذهل، تركز في بدايته على إمارة دبي.
ظهرت المباني الزجاجية في قلب الصحراء، وأصبحت منحدرات التزلج تلتف داخل مراكز التسوق، ما حوّل المدينة إلى نموذج صارخ للبذخ في الدولة النفطية.
أما العاصمة أبوظبي الأقل انفتاحا، فقد تحوّلت إلى مركز مالي رائد وقوة عظمى طموحة في مجال الذكاء الاصطناعي. أصبحت المدينة مركزا عالميا للاستثمار إلى حد أنها تصف نفسها بـ”عاصمة رأس المال“.


عائلة واحدة تتربع على القمة
تُعد عائلة آل نهيان في أبوظبي، حسب بعض التقديرات، ثاني أغنى عائلة في العالم بعد عائلة والتون الأمريكية. وقد حكمت هذه العائلة الإمارات منذ الاستقلال سنة 1971، وتتركز السلطة داخلها ضمن مجموعة تُعرف باسم “بني فاطمة”، وهم ستة أبناء للزوجة المفضلة لمؤسس الدولة، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. يهيمن ثلاثة منهم على السلطة.
الأخ الأكبر، الشيخ محمد بن زايد (64 عاما)، وهو الحاكم الفعلي للبلاد لأكثر منذ عقدين من الزمن.
يأتي بعده الشيخ طحنون بن زايد (56 عاما)، والذي يُشار إليه غالبًا بلقب “الشيخ الجاسوس”، مستشار الأمن الوطني الذي يرتدي النظارات الشمسية ويحب تدريبات اللياقة البدنية ويلعب الشطرنج على يخته الفاخر، وقد ربطته علاقة ودية بمؤسس شركة ميتا، مارك زوكربيرغ، من خلال رياضة الجوجيتسو.
أما الشيخ منصور، الثالث في ترتيب أقوى أبناء زايد، فإنه يبقى بشكل كبير بعيدًا عن الأضواء.
الشيخ طحنون الذي يحب لعب الشطرنج على يخته الفاخر، برفقة شقيقه الشيخ منصور. تحكم عائلتهما الإمارات منذ سنة 1971.
بصفته نائبًا لرئيس الوزراء ونائبًا لرئيس الدولة، يسيطر الشيخ منصور على مؤسسات حيوية، من بينها المصرف المركزي الإماراتي وشركة النفط الوطنية ودائرة القضاء في أبوظبي. كما يترأس صندوق “مبادلة”، وهو صندوق الثروة السيادي سريع النمو الذي تبلغ قيمته 330 مليار دولار، ويستثمر في مجالات الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات والسياحة الفضائية.
يُعد الشيخ منصور شخصية محورية في مساعي بلاده لبسط النفوذ العالمي من خلال القوة الناعمة، بما في ذلك محاولات بناء إمبراطورية إعلامية. دخل الشيخ منصور في شراكات مع “بريتش سكاي برودكاستينغ” و”سي إن إن” لإطلاق قنوات ومواقع إلكترونية باللغة العربية. كما منح جيف زوكر، الرئيس السابق لشبكة “سي إن إن”، ميزانية قدرها مليار دولار لشراء مؤسسات إعلامية حول العالم.
يميل الشيخ منصور إلى البقاء بعيدا عن الأضواء، وغالبًا ما يُشاهد راعيًا لأنشطة إماراتية تقليدية مثل سباقات الهجن ومهرجانات التمور. تتميّز تصريحاته في الغالب بأنها باهتة وخالية من أي مضمون لافت.
لكن في عالم كرة القدم، أصبح الشيخ منصور عملاقًا حقيقيًا، إذ ساعد العائلة الحاكمة على إعادة تلميع صورتها بعد انتكاسة كبيرة. في عام 2006، أي قبل عامين من استحواذ الشيخ منصور على نادي مانشستر سيتي، تعرّضت الإمارات لضربة مدوّية حين فشلت محاولتها لشراء ستة موانئ بحرية في الولايات المتحدة بسبب ردّ فعل سياسي غاضب، رغم تحالفها الوثيق مع واشنطن عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001.
كانت تلك لحظة مفصلية دفعت حكام الإمارات إلى العمل على إعادة تشكيل صورتهم عالميا عبر الاستثمار في الثقافة والمجال الأكاديميوالرياضة، وتصدر الشيخ منصور هذا التحوّل على صعيد كرة القدم.بعد ساعات فقط من استحواذه على نادي مانشستر سيتي مقابل 330 مليون دولار، دفع مبلغًا قياسيًا لضم لاعب جديد، وكان الأول في سلسلة من التعاقدات الباهظة التي بلغت قيمتها ما لا يقل عن 3.5 مليار دولار، وحوّلت النادي إلى عملاق كروي.
سرعان ما حصد مانشستر سيتي أول بطولة دوري له منذ عقود، ومنذ ذلك الحين، فاز بلقب الدوري الإنجليزي الممتاز سبع مرات أخرى، إلى جانب أكبر لقب في كرة القدم للأندية، دوري أبطال أوروبا. وفي عام 2023، حقق النادي أرباحًا بلغت 100 مليون دولار من إجمالي إيرادات قاربت المليار دولار، ليصبح من بين أكثر الأندية الرياضية ربحا في العالم.
يعلّق النادي في ملعبه الرئيسي لافتة كُتب عليها: “شيخ منصور، مانشستر تشكرك”. كما يحمل الملعب اسم “طيران الاتحاد”، الناقل الوطني لدولة الإمارات.

مع تزايد البطولات، استحوذ الشيخ منصور على عدة أندية أخرى، من بينها فرق في ملبورن ومومباي ويوكوهاما. سيحمل الملعب الجديد لفريقه الأمريكي “نيويورك سيتي إف سي” اسمًا مشابهًا لملعب مانشستر: “حديقة الاتحاد“.
اتخذت دول خليجية منافسة خطوات مماثلة، فاستحوذت هي الأخرى على أندية بريطانية أو أوروبية.
لم يقتصر دور مانشستر سيتي على الجانب الرياضي، بل خدم أيضا أهدافا سياسية. دعا مسؤولو النادي الصحفيين في 2014 إلى إحاطات إعلامية قدّمها مستشارون يعملون لصالح الإمارات. وحسب صحفي حضر تلك الإحاطات، وإحاطة اطّلعت عليها صحيفة “نيويورك تايمز”، لم يكن النقاش يدور حول كرة القدم، بل انصبّ على محاولة ربط قطر -خصم الإمارات الإقليمي- بالإرهاب الدولي.
أما شغف الشيخ منصور الشخصي بكرة القدم فما زال غير مؤكد. منذ شرائه مانشستر سيتي قبل 17 عامًا، لم يشاهد الفريق في مباراة رسمية سوى مرتين، كانت إحداهما في “ستاد الاتحاد”.
خلال هذه الفترة، تحوّلت أولويات الإمارات نحو القوة الصلبة أيضًا، وكذلك أولويات الشيخ منصور.
الوسيط
شكّلت ثورات الربيع العربي عام 2011 نقطة تحوّل لعائلة آل نهيان. مع سقوط حكّام مستبدين في أنحاء الشرق الأوسط، ساورت العائلةمخاوف من أن تكون هي التالية.
أبلغ حاكم الإمارات الشيخ محمد بن زايد المسؤولين الغربيين أنه يخشى تصاعد نفوذ الجماعات السياسية الإسلامية مثل جماعة الإخوان المسلمين، وتعهد بوقفها عند حدّها.
تدخّلت الإمارات بقوة في دول مثل مصر وليبيا واليمن، لكن ذلك التدخل كثيرًا ما شمل دعم انقلابات عسكرية، وتسليح جماعات متمرّدة، ونسج تحالفات مع أمراء حرب. لإدارة تلك العلاقات المعقدة، كان لا بدّ من يدٍ ناعمة.
هنا جاء دور الشيخ منصور
بتكليف من شقيقه محمد، تولّى الشيخ منصور مهمة إدارة العلاقات مع “رجال أقوياء مثيرين للجدل وغير مرغوب فيهم ولكنهم ضروريون” في مناطق مختلفة، حسب وصف أحد كبار المسؤولين الأمريكيين السابقين.
في ليبيا، كان الرجل المفضّل هو خليفة حفتر، العميل السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إيه”، الذي وعد بملء الفراغ الذي خلّفه مقتل العقيد معمر القذافي وما نتج عنه من فوضى في البلاد. الأهم من ذلك أن حفتر كان يعادي الجماعات الإسلامية.
منذ 2015، لاحظ المسؤولون الأمريكيون أن الشيخ منصور كان يتواصل بانتظام مع حفتر ويتولّى بهدوء إدارة العلاقة، حسب عدة مسؤولين أمريكيين. قال أحدهم: “عندها أدركنا أن الإماراتيين وضعوا رهانهم على حفتر”.
تسبّب هذا التحالف في بعض المشاكل مع واشنطن، إذ تدفّقت الأسلحة الإماراتية على ليبيا في انتهاك لحظر السلاح الدولي، وظهرت أسلحة أمريكية سبق أن بيعت للإمارات، وفقًا لمسؤول أمريكي رفيع. وفي 2020، ذكر البنتاغون أن الإمارات موّلت على الأرجح جلب مرتزقة من شركة “فاغنر” الروسية للقتال إلى جانب حفتر خلال هجومه على العاصمة الليبية.
مع ذلك، لم تُوجّه انتقادات علنية حادة للإمارات التي كانت حينها قد حولت اهتمامها إلى دولة أخرى ذات أهمية استراتيجية: السودان.
كان الرئيس السابق عمر حسن البشير حليفًا لإيران، الخصم اللدود للعديد من الدول العربية في صراع النفوذ الإقليمي. وقد كُلِّف الشيخ منصور باستمالته إلى المعسكر الإماراتي، حسب مسؤولين سودانيين وأمريكيين. تُوِّجت سلسلة من الاجتماعات السرّية بزيارة رفيعة المستوى قام بها البشير إلى أبوظبي عام 2017.



سرعان ما بدأت مليارات الدولارات من المساعدات الإماراتية تتدفّق إلى السودان، وفقًا للإعلام الرسمي الإماراتي.
أبدى العديد من المسؤولين الأمريكيين استياءهم في تلك الفترة، إذ كان البشير مطلوبًا لدى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لدوره في الإبادة الجماعية في دارفور قبل نحو عقد من الزمن. أمّا بالنسبة للإمارات، فقد كان ذلك تحالفًا مجديًا، إذ أرسل البشير قوات إلى اليمن للقتال إلى جانب الإمارات والسعودية في حربهما ضد الحوثيين المدعومين من إيران.
كان ذلك أيضًا إيذانًا ببداية علاقة جديدة، إذ كان عدد كبير من الجنود الذين أُرسلوا إلى اليمن ينتمون إلى قوات الدعم السريع، وهو فصيل شبه عسكري تأسس قبلها بفترة وجيزة، يقوده الفريق أول حميدتي.
وسرعان ما أصبح حميدتي حليفًا مقرّبًا من الشيخ منصور.
قال جيفري فيلتمان، المبعوث الأمريكي إلى القرن الأفريقي بين عامي 2021 و2022: “كنّا نعلم باستمرار أن الشيخ منصور يقف خلف الكواليس في السودان”.
“غاتسبي” الخليج
حين لا ينشغل بالتعامل مع أمراء الحرب أو فرق كرة القدم، يُعرَف الشيخ منصور بتنعّمه في رفاهية لا يستطيع تحمّل تكاليفها إلا أصحاب الثروات الهائلة.
حسب العديد من المصادر، يمتلك الشيخ منصور عددًا من أكبر اليخوت الفاخرة في العالم، وهي عبارة قصور عائمة بديكورات داخلية مترفة. ووفقًا لتقارير في صناعة اليخوت، فإن أحدثها يُسمّى “بلو” وتُقدَّر قيمته بنحو 600 مليون دولار. تشير مصادر إلى أن اسمه مستوحى من ألوان نادي مانشستر سيتي، ويبلغ طوله 525 قدمًا، أي أطول بكثير من أي ملعب لعب عليه الفريق على الإطلاق.
قبل عقد من الزمن، لفتت ذائقته في اقتناء اليخوت انتباه المدّعين العامّين في الولايات المتحدة، الذين قالوا إنه اشترى يختًا آخر، هو “توباز”، من عائدات فضيحة “صندوق التنمية الماليزي” الشهيرة.
وقالت وزيرة العدل الأميركية السابقة لوريتا لينش سنة 2016 إن ما لا يقل عن 4.5 مليارات دولار من الأموال العامة الماليزية اختُلِست من خلال مخطط مالي معقّد، ووصفت القضية بأنها “أكبر قضية كليبتوقراطية” شهدتها الولايات المتحدة على الإطلاق. وقد أدّت سلسلة من المحاكمات الجنائية إلى إدانة وسجن رئيس الوزراء الماليزي نجيب عبد الرزاق، فضلًا عن اثنين من كبار التنفيذيين في وول ستريت، حُكم على أحدهما في مايو/ أيار الماضي.
كانت الأضواء الإعلامية قد تركّزت في البداية على حياة البذخ التي كان يعيشها جو لو، المستثمر الهارب المتهم بتدبير المخطط، من حفلات المشاهير في لاس فيغاس إلى العقارات في بيفرلي هيلز ولوحات بيكاسو ومونيه. غير أنّ التحقيقات امتدّت إلى نحو 12 دولة، وأسفرت في النهاية عن توجيه اتهامات خطيرة لمسؤولين إماراتيين بارزين، من بينهم الشيخ منصور.
وفي إحدى المحاكمات في نيويورك سنة 2022، قدّم المدّعون الأمريكيون أدلّة على أن السفير الإماراتي لدى واشنطن، يوسف العتيبة، تلقّى رشاوى بقيمة 40 مليون دولار. كما أكدوا أن ما يقرب من نصف مليار دولار دُفِع لخادم القبيسي، الرئيس التنفيذي لإحدى شركات الشيخ منصور.
ورغم أن المدّعين لم يحددوا المبلغ الذي قد يكون الشيخ منصور تلقّاه، فقد وصفوه بأنه “شريك متآمر” في عملية الاحتيال، وأدرجوه استنادًا إلى أقوال جو لو على رأس “هرم الرشاوى” في القضية.
كما عرض المدعون أدلة تُظهر أن 161 مليون دولار من أموال “صندوق التنمية الماليزي” استُخدمت في سداد قرض ضمن عملية شراء يخت الشيخ منصور “توباز” الذي بلغت قيمته 688 مليون دولار. في 2013، قضى الشيخ منصور إجازة على متن اليخت في جنوب فرنسا برفقة نجيب عبد الرزاق، رئيس الوزراء الماليزي السابق، حسب ما أفاد به مسؤول ماليزي في هيئة مكافحة الفساد خلال شهادته أمام المحكمة في يناير/ كانون الثاني الماضي.
وبعد عام، استخدم الممثل ليوناردو دي كابريو اليخت نفسه خلال كأس العالم لكرة القدم 2014 في البرازيل.

لم يواجه الشيخ منصور أي تهم تتعلق بفضيحة صندوق التنمية الماليزي، رغم أن شركتين من شركاته وافقتا في عام 2023 على سداد 1.8 مليار دولار لماليزيا، بعد اتهامهما بتسهيل عملية الاحتيال.
وقال مسؤولون إن يوسف العتيبة، الذي لا يزال السفير الإماراتي في واشنطن، يتمتع بحصانة دبلوماسية من الملاحقة القضائية.
أُدين القبيسي، الرئيس التنفيذي السابق لإحدى شركات الشيخ منصور، بالاحتيال في الإمارات، ويقضي حاليًا عقوبة بالسجن لمدة 15 عامًا. وفي مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال” سنة 2019، قال القبيسي إن الشيخ منصور جعله “كبش فداء”.
رفض الشيخ منصور والعتيبة ودي كابريو الإجابة على أسئلة حول صندوق التنمية الماليزي.
وأعرب عدد من المسؤولين الأمريكيين المعنيين بالقضية، والذين تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هوياتهم بسبب مناقشة مسائل قانونية، عن انزعاجهم من عدم تعاون الشيخ منصور ودولة الإمارات مع تحقيقاتهم.
قالت كلير ريوكاسل براون، التي ألفت كتابين عن فضيحة صندوق التنمية الماليزي: “هناك ما يكفي من الأدلة التي تشير إلى منصور، لكن من الواضح أن أحدًا لا يرغب في المساس به”.
يقول المنتقدون إن هذه الحادثة نموذج للامتيازات التي يتمتع بها المسؤولون الإماراتيون، الذين غالبًا ما تحميهم ثرواتهم الطائلة. وقد قارنتهم ستيفاني ويليامز، الدبلوماسية الأمريكية المخضرمة التي قادت بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا، بأبطال رواية “غاتسبي العظيم” الخيالية.
وقالت ويليامز، مقتبسةً عبارة من الرواية الأمريكية الكلاسيكية: “إنهم يأتون ويعيثون في الأرض فسادًا بأموالهم وإهمالهم، ثم يتركون الآخرين ليُنظفوا آثار الفوضى”.
العلاقة مع الخرطوم
عندما ساعد الفريق أول محمد حمدان الجيش السوداني في الاستيلاء على السلطة في انقلاب 2021، استشاط المسؤولون الأمريكيون غضبًا، فقد تلقوا تأكيدات بأن المدنيين سيحكمون البلاد وليس الجيش.
لكن الإمارات صادقت على الاستيلاء على السلطة، وسرعان ما استقبلت حمدان بشكل رسمي في أبوظبي.
كانت الإمارات في طريقها لتتجاوز الصين كأكبر دولة مستثمرة في أفريقيا، فقد ضخت الشركات التي تقودها عائلة آل نهيان مليارات الدولارات في المناجم الأفريقية ومراكز البيانات واحتياطات الكربون، تزامنا مع مساعي الدولة الخليجية إلى فطم اقتصادها عن النفط.
ولكن في عدد من الدول ذات الموقع الاستراتيجي، عملت الإمارات أيضا على تغيير أنظمة ودعم أخرى عبر توفير السلاح.
في عام 2021، أنقذ الشيخ محمد بن زايد رئيس وزراء إثيوبيا المحاصر، آبي أحمد، بتزويده بطائرات مسيرة ساعدت في تحويل دفة الحرب الأهلية الوحشية لصالحه.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية في السودان سنة 2023، انحازت الإمارات بقوة إلى حليف الشيخ منصور، الفريق أول محمد حمدان.
تنفي الإمارات دعمها لأيٍّ من طرفي الحرب في السودان، لكن مسؤولين أمريكيين قالوا إن الولايات المتحدة علمت منذ الأيام الأولى للصراع أن الإمارات تؤوي الفريق حمدان في أبوظبي وتُسلح مقاتليه في الميدان.
في البداية، سافر الفريق حمدان جوًا إلى الإمارات، حيث مُنح ملاذًا آمنًا، وسجّل خطابات مصورة لمؤيديه في السودان، حسب مسؤولين أمريكيين. بعد ذلك بوقت قصير، وضعت الإمارات مخططًا سريًا لتسليح قوات الدعم السريع التي يقودها حمدان، من قاعدة جوية صحراوية في شرق تشاد.



قال مسؤولون أمريكيون إن جاذبية الفريق أول لدى الإماراتيين لها ثلاثة أبعاد. كان حمدان مخلصًا لأنه قاتل مع الإماراتيين في اليمن، ومتعاونًا لأنه يعقد صفقاته التجارية في الإمارات من خلال بيع الذهب وشراء الأسلحة، كما أنه عدو شرس للجماعات الإسلامية.
وقال مسؤولون إن وكالات الاستخبارات الأمريكية توصلت عبر عمليات التنصت على المكالمات الهاتفية، إلى أن الفريق حمدان يتمتع بعلاقة مباشرة مع اثنين من حكام الإمارات: الشيخ محمد والشيخ منصور. كما حددت هوية مسؤول إماراتي يشرف على شبكة من الشركات الوهمية التي ساعدت في تمويل وتسليح قوات حمدان.
بمجرد أن اندلعت الحرب، بدا أن الشيخ منصور قد قطع علاقاته العلنية مع الفريق حمدان، لكن الصلة بينهما بقيت قائمة.
أرسلت الإمارات أسلحة إلى قوات حمدان عبر قاعدة جوية في تشاد، حيث كانوا يُديرون ظاهريًا مستشفى ميدانيًا بتمويل من جمعيتين خيريتين، كلتاهما تحت سيطرة الشيخ منصور أو إشرافه. لم تُجب أيٌّ من الجمعيتين الخيريتين على أسئلة حول هذا التقرير، لكن المسؤولين الإماراتيين وصفوا التلميح إلى أن المستشفى يُستخدم لأي غرض غير العمل الإنساني بأنه “متهور وضار”.
ليست الإمارات القوة الأجنبية الوحيدة التي تؤجج الحرب، فقد انحازت بعض الدول إلى خصم الفريق حمدان، الجيش السوداني المتهم أيضًا بارتكاب جرائم حرب.
على أمل الحد من التدخلات الأجنبية، واجه المبعوث الأمريكي إلى السودان، توم بيريلو، الشيخ منصور شخصيًا في 2024 بشأن دعمه للفريق حمدان خلال اجتماع في الإمارات، وفقًا لمسؤول أمريكي. رد الشيخ منصور على هذه التهمة قائلاً إن مسؤولية السلام تقع على عاتق أعداء حمدان.
“محاكمة القرن”
في أواخر 2023، وفي دفعة كبيرة لطموحات الإمارات في الاستحواذ على عدد من وسائل الإعلام العالمية، أبرم الشيخ منصور صفقة بقيمة 600 مليون دولار لشراء صحيفة “ديلي تلغراف” المقربة من حزب المحافظين.
لكن بعد أقل من ستة أشهر، عرقلت الحكومة البريطانية الصفقة بقانون جديد يقيد الملكية الأجنبية للصحف. قال أحد المشرعين إنه من المستحيل “الفصل بين الشيخ والدولة“، وأثارت وزيرة الثقافة خلال تلك الفترة، لوسي فريزر، مخاوف بشأن “حرية التعبير والرقابة على الأخبار”.
واجه الشيخ منصور انتكاسات أخرى منذ ذلك الحين.
في سبتمبر/ أيلول الماضي، بدأ مانشستر سيتي الدفاع عن نفسه في جلسة استماع بلندن، ما ألقى ظلالا من الشك على إنجازاته الكروية اللافتة.
اتهم الدوري الإنجليزي الممتاز مانشستر سيتي بانتهاك قواعده 130 مرة، بما في ذلك تحويل مئات الملايين من الدولارات من شركات إماراتية إلى خزائن الفريق، وإخفاء تلك المدفوعات في صورة صفقات رعاية.
وصفت وسائل الإعلام الرياضية البريطانية هذه الإجراءات بأنها “محاكمة القرن”. يُعتبر الدوري الإنجليزي الممتاز أكبر منتج ثقافي تصدره بريطانيا، مما يجعل النزاع مع نادي الشيخ منصور مكلفًا للغاية، وقد يكون له آثار سلبية كبيرة.


تتجاوز المخاطر حدود الرياضة. أثار مسؤولون إماراتيون مسألة التحقيق مع نادي مانشستر سيتي خلال محادثات مع وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، خلال زيارة قام بها للإمارات العام الماضي، وفقًا لمصادر مطلعة على الاجتماع. وقال إيدي ليستر، المبعوث البريطاني السابق إلى الخليج، إن القضية أصبحت “مشكلة مزمنة” بين البلدين.
وفي واشنطن، أصبح الاستياء المتزايد من الدور الإماراتي في الحرب الأهلية السودانية قضية مشتركة بين الحزبين في الكونغرس. في جلسة استماع للمصادقة على تعيينه في يناير/ كانون الثاني، انتقد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو الإمارات متهمًا إياها بدعم “إبادة جماعية” بقيادة الفريق حمدان. وضغط ديمقراطيون بارزون من أجل حظر مبيعات الأسلحة الأمريكية للإمارات حتى تتوقف عن تسليح قوات الدعم السريع.
تزايدت تلك الدعوات في مايو/ أيار بعد أن قصفت قوات الدعم السريع مستودعات وقود ومحطات كهرباء، وآخر مطار دولي يعمل في السودان، باستخدام طائرات مسيرة قال مسؤولان أمريكيان سابقان إن الإمارات هي التي زودت بها قوات حمدان.
تراجعت حدة الانتقادات خلال الفترة الماضية بعد أن زار الرئيس ترامب الإمارات.
حظي ترامب باستقبال فيه الكثير من البذخ في القصر الرئاسي الرخامي الفسيح بأبوظبي أثناء توقيعه على صفقة ذكاء اصطناعي بقيمة 200 مليار دولار مع الإمارات، ليضيفها إلى تعهدات إماراتية سابقة باستثمار 1.4 تريليون دولار في الولايات المتحدة.
قال ترامب للشيخ محمد بن زايد: “أنت رجل رائع، ويشرفني أن أكون معك”.
كان يجلس بجانبهما الشيخ منصور، الذي أعلن صندوق “مبادلة” الاستثماري التابع له أنه سوف يستثمر في مشروع للعملات المشفرة تملكه عائلة ترامب في صفقة بقيمة ملياري دولار يُتوقع أن تُدرّ أرباحا بمئات الملايين من الدولارات على عائلة الرئيس.
بعد أيام، تجاوزت إدارة ترامب الكونغرس وصادقت على صفقة أسلحة جديدة مع الإمارات بقيمة مليار دولار.

المصدر: نيويورك تايمز