أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمس الاثنين أمرًا تنفيذيًا استثنائيًا يقضي بإنهاء العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، في خطوة اعتبرها البيت الأبيض دعمًا للاستقرار ومقدمة لعملية سياسية في البلاد.
وبحسب نص القرار، يستثني المرسوم بشار الأسد، وشبكته من المسؤولين الأمنيين والعسكريين، ومتهمين بانتهاكات حقوق الإنسان، ومهربي المخدرات، وأفراد مرتبطين ببرامج الأسلحة الكيميائية، أو بتنظيم “داعش” وتنظيمات تابعة له، أو بوكلاء لإيران في المنطقة.
كما تضمن القرار تخفيفًا للقيود المفروضة على تصدير أنواع محددة من السلع إلى سوريا، وتيسيرًا في التعامل مع برامج المساعدات الخارجية. وشمل كذلك مراجعة تصنيفات أمنية سابقة، منها إدراج هيئة تحرير الشام والرئيس السوري الحالي أحمد الشرع على لائحة “الإرهابيين الدوليين”، إضافة إلى مراجعة تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب.
وكان ترامب قد أعلن في مايو/أيار الماضي، خلال زيارته إلى السعودية، نيّته رفع العقوبات المفروضة على سوريا، بموجب الرخصة العامة رقم 25 والتي تبعها ر إصدار وزارة الخزانة الأميركية ترخيصاً عاماً يخفف بعض القيود المالية المفروضة على سوريا.
في هذا التقرير، نعرض تاريخ العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا منذ عام 1970، ونستعرض أبرز محطاتها، بما في ذلك المراسيم الخمسة الصادرة عام 2004، والأشخاص الذين شملهم قرار رفع العقوبات، مع رصد شامل للتحديثات الأخيرة على القائمة السوداء.
جذور العقوبات الأميركية
أولًا: المرحلة التأسيسية (1979)
تعود جذور العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا إلى عام 1979، حين أدرجت واشنطن دمشق على قائمة الدول الراعية للإرهاب، على خلفية دعمها المعلن لجماعات مثل “حزب الله” اللبناني. مثّل هذا التصنيف نقطة الانطلاق لنظام عقوبات توسّع لاحقًا ليصبح من أكثر أنظمة العزل الاقتصادي تشدداً في العلاقات الدولية الحديثة.
جاء القرار الأميركي في سياق إقليمي متوتر، عقب استقرار حكم حافظ الأسد إثر انقلابه الداخلي عام 1970. وكان الدعم السوري للفصائل الفلسطينية، إضافة إلى تموضعها الاستراتيجي إلى جانب الاتحاد السوفياتي، من أبرز الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى اتخاذ هذه الخطوة.
اقتصر نطاق العقوبات في هذه المرحلة على حظر المساعدات الأميركية، وتقييد الصادرات الدفاعية، وفرض رقابة على المواد ذات الاستخدام المزدوج. لكنها شكّلت الأساس الذي بُني عليه نظام العقوبات اللاحق، حيث تحوّلت من أدوات ضغط رمزية إلى منظومة إكراه اقتصادي متكاملة.
ثانيًا: مرحلة التوسع التشريعي (2003)
قانون الطوارئ ومحاسبة سوريا
بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، وسّعت إدارة الرئيس جورج بوش الابن أدواتها العقابية في الشرق الأوسط، وكان من بين أهدافها النظام السوري. ففي مايو/ أيار 2004، وقّع بوش الأمر التنفيذي رقم 13338 تطبيقاً لقانون “محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية” الصادر عام 2003، وهو ما مثّل تحوّلاً نوعياً في بنية العقوبات الأميركية.
نصّ القانون على فرض حظر شبه كامل على الصادرات الأميركية إلى سوريا، باستثناء الغذاء والدواء، كما فرض قيودًا مشددة على القطاع المصرفي، واعتُبر المصرف التجاري السوري جهة “مثيرة للقلق” في مجال مكافحة غسل الأموال، ما أدى إلى قطع علاقاته مع النظام المالي الأميركي. وبهذا، انتقل الضغط الأميركي من مقاطعة محدودة إلى خنق مالي مباشر.
استندت هذه الإجراءات إلى اتهامات متعددة، أبرزها دعم الإرهاب، والتدخل في الشؤون اللبنانية، والسعي لامتلاك أسلحة غير تقليدية. ورغم أن حجم التبادل التجاري بين البلدين لم يكن كبيراً—حيث لم يتجاوز 300 مليون دولار سنوياً عام 2004—إلا أن العقوبات حملت طابعاً سياسياً ورمزياً أقوى من تأثيرها الاقتصادي المباشر، ورسّخت سياسة العزل بوصفها نهجاً دائماً تجاه النظام السوري.
في السياق ذاته، أعلنت الولايات المتحدة في العام نفسه حالة طوارئ وطنية بشأن سوريا، مستندة إلى قانون السلطات الاقتصادية في حالات الطوارئ الدولية (IEEPA)، ما منح البيت الأبيض صلاحيات استثنائية لفرض العقوبات عبر مراسيم تنفيذية دون الحاجة لموافقة الكونغرس. شكّل هذا الإعلان الإطار القانوني الذي استُخدم لاحقًا لتوسيع العقوبات بوتيرة متسارعة.
المراسيم التنفيذية الخمسة
توالت بعد ذلك سلسلة من المراسيم التنفيذية، وعددها خمسة، عمّقت النهج العقابي ضد النظام السوري ووسّعت نطاق العقوبات بشكل متدرّج حتى بلغت مستوى شبه شامل على الشكل التالي:
- المرسوم التنفيذي 13399 (25 أبريل 2006): وسّع دائرة العقوبات لتشمل الأفراد والكيانات المتورطة في أنشطة تُهدد استقرار المنطقة، خصوصاً المرتبطين بالإرهاب.
- المرسوم التنفيذي 13460 (13 فبراير 2008): استهدف أنشطة متعلقة بتطوير أو نقل أسلحة غير تقليدية، وأدرج شخصيات على صلة بتلك البرامج.
- المرسوم التنفيذي 13572 (29 أبريل 2011): فرض عقوبات على مسؤولين سوريين متورطين في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان منذ بداية الاحتجاجات.
- المرسوم التنفيذي 13573 (18 مايو 2011): وسّع العقوبات لتشمل نطاقاً أوسع من المسؤولين والشبكات الداعمة للنظام بعد تصاعد القمع.
- المرسوم التنفيذي 13582 (17 أغسطس 2011): فرض حظرًا شاملًا على التعاملات الاقتصادية مع الحكومة السورية، بما في ذلك صادرات النفط والاستثمارات.
شكلت حالة الطوارئ الوطنية التي أعلنتها الولايات المتحدة عام 2004، إلى جانب اللوائح التنظيمية المصاحبة، الإطار القانوني الذي استندت إليه المراسيم الخمسة السابقة. ومع توقيع القرار التنفيذي اليوم، يكون قد تم إنهاء هذه الحالة بالكامل، إلى جانب إلغاء المراسيم واللوائح ذات الصلة، ما يمثل تفكيكًا جذريًا لبنية العقوبات الأميركية على سوريا.
إعادة تشكيل قوائم المعاقَبين
بالتزامن مع توقيع الأمر التنفيذي، نفّذ مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية خطوة واسعة النطاق تمثلت في إزالة 518 فرداً وكياناً من “قائمة المواطنين المحددين بصورة خاصة والأشخاص المحظورين” (SDN List)، ممن كانوا خاضعين للعقوبات بموجب برنامج العقوبات الأميركي المفروض على سوريا.
لكن هذه الخطوة لم تكن إنهاءً كاملاً للمحاسبة، بل جاءت مقترنة بإعادة تصنيف 139 فرداً وكياناً بموجب الأوامر التنفيذية المتعلقة بسوريا وإيران ومكافحة الإرهاب، في إطار إعادة تنظيم أدوات الضغط بما يواكب السياسة الأميركية الجديدة.
إعادة التصنيف بموجب الأمر التنفيذي 13894:
بلغ عدد الأفراد والكيانات الذين أُدرجوا مجددًا بموجب الأمر التنفيذي 13894 (بصيغته المعدّلة) ما مجموعه 133 شخصاً وكياناً، موزعين على ثماني فئات بحسب طبيعة تورطهم وعلاقتهم بالنظام السابق:
- سؤولون سابقون في نظام الأسد: إدراج 47 شخصاً لتوليهم مناصب حكومية في النظام السابق.
- أشخاص تصرفوا نيابة عن مسؤولين سابقين: إدراج شخص واحد لتصرفه بالنيابة عن شخصية من النظام.
- أشخاص هددوا السلام أو الاستقرار في سوريا: إدراج 3 أشخاص لتحمّلهم مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة عن أعمال تهدد وحدة الأراضي أو السلام في سوريا.
- أشخاص متورطون في أنشطة تتعلق بالكبتاغون: إدراج 11 شخصاً لدورهم في إنتاج أو انتشار مادة الكبتاغون بشكل غير مشروع.
- مقدمو دعم مادي للنظام السابق: إدراج 6 أفراد و13 كياناً بسبب تقديمهم دعماً مادياً أو مالياً أو تقنياً للنظام السوري أو لخدمته.
- مقدمو دعم لأشخاص مشمولين بالعقوبات: إدراج شخصين وكيان واحد بسبب دعمهم لأشخاص سبق حظر ممتلكاتهم.
- أشخاص مملوكون أو خاضعون لأشخاص خاضعين للعقوبات: إدراج 7 أفراد و40 كياناً باعتبارهم خاضعين لسيطرة أو ملكية مباشرة من قبل أشخاص مدرجين سابقًا.
- أفراد من عائلات مشمولين بالعقوبات: إدراج شخصين من أقارب أشخاص مدرجين بموجب المواد من (أ) إلى (د).
إضافة إلى ذلك، شمل التصنيف:
- فرداً واحداً وكيانين بموجب الأمر التنفيذي 13224 (بصيغته المعدّلة)، الخاص بمكافحة الإرهاب:
- الكيانان تم إدراجهما لكونهما مملوكين أو موجّهين أو يعملان نيابة عن أشخاص مشمولين بالعقوبات.
- الشخص المُدرج هو قائد أو مسؤول ضمن جهة خاضعة للعقوبات.
- فرداً واحداً وكيانين بموجب الأمر التنفيذي 13902، المتعلق بقطاع النفط الإيراني، بسبب أنشطتهم الداعمة لهذا القطاع المحظور.
كما تم تصنيف العديد من الأسماء بموجب المادة 1(أ) (1) (ب) من الأمر التنفيذي 13894 (بصيغته المعدّلة) بصفتهم مسؤولين حكوميين سابقين في نظام بشار الأسد:
قوبل توقيع القرار بترحيب واسع في أوساط السوريين في الخارج، وخصوصاً بين النشطاء والفاعلين السياسيين المرتبطين بالجاليات السورية في الولايات المتحدة.
كتب محمد علاء غانم، رئيس الشؤون السياسية في المجلس السوري الأميركي، وبروفيسور علم الاجتماع في جامعة هارفارد، منشوراً قال فيه: “يسرّنا الإعلان عن توقيع الرئيس دونالد ترامب للتو على مرسوم رئاسي يلغي المراسيم التنفيذية الخمسة التي بُني عليها الكثير من العقوبات المفروضة على سوريا، وأن عملنا الدؤوب في الأشهر الماضية قد أنتج إنجازًا تاريخيًا”.
من جهة أخرى، عبّر السيناتور الجمهوري الأميركي لينزي غراهام عن دعمه الكبير للقرار، قائلاً: “لقد اتخذ الرئيس ترامب قراراً صائباً برفعه العقوبات عن سوريا، لا سيما وأن الاتجاه الذي نحَت فيه الحكومة السورية الجديدة يبدو واعداً، خاصة مع استمرارها في التقدّم، وهو ما لمسته شخصياً خلال لقائي بوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني.”
بين الحماسة الشعبية والدعم السياسي الأميركي، يُعاد رسم المشهد السوري بخطة ثابتة. لكن نجاح المرحلة المقبلة يتوقف على قدرة الحكومة السورية الجديدة على تحويل هذا الانفراج إلى استقرار حقيقي، وإعادة بناء الداخل، واستعادة الحد الأدنى من الثقة الدولية تجاه دمشق.