مع ما تعيشه المنطقة العربية من هيمنة أمريكية إسرائيلية، أوضح تجلّياتها في حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، كما العربدة الإسرائيلية في التوسّع والقصف في بلدان مثل سوريا ولبنان، يطرح سؤال: أين المشروع العربي الذي من المفترض أن يواجه تلك الهيمنة؟
من هنا ننظر إلى مصر، ونحاول سؤال: ماذا تبنّى النظام المصري، منذ عهد السيسي، من مشاريع هُوياتية جامعة، سواء للدولة المصرية أو حتى للمنطقة كلّها؟ ومن ثم نرى كيف استفاد نظام السيسي من الهُويات المصرية عبر التاريخ، وكيف افتقر أيضًا هذا النظام لمشروع تنموي حقيقي وواضح؟
هويات في خدمة السُلطة
بعد ثورة يناير، واتساع مساحة الحريات الاجتماعية والفكرية والسياسية، طُرح نقاش عن هُوية مصر: هل هي إسلامية، وأي نوع من هذا الإسلام، أم هي فرعونية قديمة، أو عروبية ناصرية، أو حتى ليبرالية حديثة رعتها – وإن كانت هذه الرعاية شكلية – سلالة الباشا محمد علي؟
جاء السيسي إلى السُلطة، ولم يأبه كثيرًا بتشكيل – أو بمعنى أدق تفصيل – هُوية جديدة كاملة يُلبسها للنظام السياسي الذي يترأسه، بل عمِل من خلال أدواته الثقافية المتعددة على الاستفادة من تاريخ الهُويات المصرية المتعددة.
لم يستغنِ السيسي عن سردية الإسلام كدين وجداني لدى الشعوب العربية، وخاصة الشعب المصري، لكنه وبسبب انقلابه على الإسلام السياسي متمثّلًا في جماعة الإخوان المسلمين لم يكن يريد تلك النسخة الحركية من الإسلام، لذا سخّر كل ذرائعه الإعلامية والثقافية والفنية في عشرات البرامج والأعمال الفنية والدرامية، خلال سنوات حكمه المستمرة، لتشويه النسخة الإسلامية التي يتبنّاها الإسلاميون الحركيون.
فضلًا عن ذلك، بدأ هو في تفصيل نسخة إسلامية جامعة بين الدعوة والحكمة، متخذًا مؤسسات الأزهر والطرق الصوفية، وأبرز شيوخها مفتي الجمهورية السابق الشيخ علي جمعة، في تمثيلها للإسلام الصحيح ونبذ أي تمثيل حركي وسياسي للإسلام، كما أنّه من خلال أدواته القمعية فرّغ وقضى على أي مساحة لتلك الحركات.
بالتوازي مع هذه النسخة الإسلامية التي بدأ السيسي في تفصيلها، كانت هناك نزعة عروبية قومية، لا سيما في أولى سنوات حكم السيسي، من بعد عام 2013، إذ كانت اللافتات التي يرفعها المواطنون لتأييد السيسي مقسمة بين صورته وصورة زعيم القومية العربية جمال عبد الناصر.
استغل السيسي هذا التشبيه، ولم يفوّت احتفالًا سواء بثورة 23 يوليو 1952 أو حتى ذكرى وفاة عبد الناصر إلا وروّج لنفسه كزعيم ليس مصريًّا فحسب، بل زعيم عربي يحمل معه مشروعًا قوميًا للنهوض بالأمة العربية كلها، أو على الأقل النهوض بمصر من خلال إزالة الفقر عن شعبها وعودتها كقوة عربية مؤثرة في السياسة الإقليمية والدولية.
لم يترك السيسي بلد الحضارة القديمة، مصر الفرعونية، دون أن يستخدمها في خدمة سرديته نحو التفرّد والزعامة؛ إذ كان المشهد مهيبًا، موكب نقل المومياوات المصرية القديمة يوم 3 أبريل من عام 2021، إذ سُجّل كيوم تاريخي شهد نقل 22 مومياء ملكية من المتحف المصري بميدان التحرير إلى المتحف القومي للحضارة شرق القاهرة.
مشى السيسي وكأنه ملك من ملوك التاريخ المصري كلّه، القديم والحديث، على سجادة حمراء كفرعون مصري لا شريك له في زعامة الافتتاح كما في حكم مصر، ووقتها، ساد الجدل وسط فئات اجتماعية مختلفة حيال سؤال الانتماء: إلى أي هُوية تنتمي مصر؟ وقد علت الأصوات التي تمجّد فرعونية مصر لا عروبتها أو إسلامها، بما أنّ البلاد ورئيسها سطّروا يومًا تاريخيًّا لتمجيد فرعونية مصر.
لكن كل هذه السرديات لم تُكمل مشوارها، ولم يتبنَّ النظام السياسي أيًّا منها ويرعاها كهُوية للدولة؛ فلم يهتم النظام في مصر ببناء أو إعادة بناء هُوية عروبية أو إسلامية “مفصّلة” أو فرعونية، بل اكتفى بأن يستدعي كل واحدة منها في مناسبات عدّة.
مناسبة تجعل الرئيس ملكًا ويبث من خلالها مجد الدولة المصرية وأصالتها، تحضر من خلال موكب المومياوات، وأُخرى حين استدعاء القضية الفلسطينية ورفض تهجير الفلسطينيين وقضية السلام العادل وحل الدولتين والمؤامرات الخارجية، فيُستدعى ناصر وحقبته، كما ظهر في التسجيل المسرّب مؤخرًا، وفيه حديث عبد الناصر عن حلول السلام لا الحرب.
وسردية أُخرى تتمثل في الإسلام المعتدل والمفصّل، في مناسبات مثل 3 يوليو، ذكرى الانقلاب العسكري، أو حتى في محاربة التنظيمات الإسلامية المسلحة، أبرزهم تنظيم ولاية سيناء.
مشاريع التنمية لا سرديات الهوية
ما ركّز عليه نظام السيسي هو السعي لا نحو هُوية أيديولوجية تُحرّك وجدان المجتمع، بل على مشروع تنموي وجمهورية جديدة، بما تشمل من مشاريع اقتصادية وعمرانية وفرص عمل واستثمارات وغير ذلك.
هكذا كان خطاب السُلطة منذ يومها الأول وحتى الآن، خطاب النهضة القادمة التي تنتظر المصريين، فقد كرّر السيسي في كل لقاءاته هذه الوعود، وأعطى فترات زمنية قابلة للتجديد كي يرى المصريون آثار المشاريع التي تقوم بها الدولة، لكنه فيما بعد، تحديدًا منذ عام 2019، لم يعد يهتمّ بحثّ المصريين على الصبر، بل أخذت خطاباته في تجاهل حالة الإفقار التي يعيشها المواطنون، بل وبدأ يردّد سرديات ومواقفه البطولية في إنقاذ البلاد والعباد من المؤامرات التي كانت تُدبّر لمصر وشعبها.
خلال الأعوام الماضية، وصلت مصر إلى معدلات تضخّم كبيرة جدًا، ومنذ أن قفز واستقر الدولار الواحد إلى ما يساوي قرابة 50 جنيهًا، قفزت أسعار السلع والمشتريات، لا سيما المستوردة من الخارج، إلى أضعاف سعرها الذي كانت عليه، حيث بلغ معدل فقر المصريين 29.07% في آخر إحصائية أصدرها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعام 2020، كما أشار البنك الدولي إلى أن النسبة ارتفعت في عام 2022 لتصل إلى 32.05%.
هذا فضلًا عن عشرات المليارات المتراكمة من الديون الخارجية المتزايدة كل سنة، والتي تضيّع الموازنة العامة للدولة على دفع فوائدها، حتى بلغت 79% من إيرادات الميزانية هذا العام، كما لم يخفَ على أحد أنه منذ عامين حتى وقتنا الحالي، يزداد المصريون إفقارًا وبؤسًا، بل واتجهت فئات كثيرة لجلب الأموال من خلال التقنية عبر التطبيقات التي تربّح مستخدميها ضمن طرق وأدوات محددة.
هذا يرجع إلى أنّ المشاريع التنموية التي عملت عليها الدولة في مصر منذ عام 2014 لم تكن ذات فائدة على المواطنين، مشاريع بناء المدن الجديدة في القاهرة والعلمين وغيرهما من المناطق، كما استولت من حيث الملكية والإشراف على كل هذه المشاريع هيئات “سيادية” تابعة للقوات المسلحة المصرية.
كذلك غياب أي شفافية أو مسؤولية أمام البرلمان المصري حيال الميزانيات الضخمة والصناديق الخاصة والسيادية، بالإضافة إلى انعدام الكفاءات وتولي المسؤوليات لمن هم أقرب للسلطة لا لمن هم أهل الاختصاص والمعرفة، وكل هذا أدّى إلى حالة من إهدار مليارات الدولارات على مشاريع لم يرَ المصريون منها أي فائدة، حتى مشاريع الطرق والكباري ما زالت تُخطط بشكل فاسد وعشوائي، ما يزيد من تكرار الحوادث وإهدار الأرواح، فضلًا عن التلوّث البصري والتشوّه العمراني للمدن.
نهاية، عجزت سُلطوية السيسي على مستوى تحقيق المشاريع بشكل حقيقي، سواء مشروع يخص سردية هُوياتية للوجدان المصري أو مشروع تنموي حقيقي يُحسّن من حياة الناس في قطاعات الاستهلاك والثقافة والتعليم والصحة والمواصلات وغير ذلك.
لم تنجح تلك السُلطوية إلا في تحقيق سردية “الاستثناء”، أي قمع كل من يخالفها بحجج متداخلة ومتباينة، قمع مورس على كثير من المصريين بشكل مباشر وغير مباشر، ما أدّى إلى خلق حالة خوف وغضب وكبت وهجرة ويأس لدى فئات عريضة من المجتمع المصري.