أخيرًا ينعم السوريون بحلمٍ طال انتظاره وسكن مخيلتهم كلّما سرحت بعيدًا، وطنهم عاد إليهم، وزيارته بعد أعوام الغربة والتهجير باتت ممكنة، أمّا الخراب والفساد اللذان أجهدا البلاد، فأضحيا مهمة جماعية يتقاسمها الشعب مع الحكومة لإعادة سوريا إلى ألقها، بعدما عكف نظام الأسد البائد لعقود على نهب ونهش خيراتها.
لكن السوريين الذين كانوا محرومون من أدنى مقومات الحياة، عقدوا آمالهم خلال الأشهر الثلاثة الماضية، على الحكومة الجديدة في تحسّن الظروف المعيشية والخدمات وعلى إعادة عقارب التطور بعدما توقفت عند 2011، وكانت الأعين متجهة نحو ما يُمكن أن تفعله أول حكومة سورية بعد سقوط الأسد.
بالفعل، شهدت الخدمات تحسّنًا جزئيًا، وانفتحت سوريا على العالم نسبيًا، وزالت بعض القيود التي تحدّ من قدرتها على النمو، لكن ما تغيّر يبدو نقطة في بحر التحديات، فالواقع يبدو أكثر تعقيدًا من الأهداف المعلنة للحكومة السورية والصعوبات أكبر من أن تزول بفترة زمنية قصيرة.
هذا التقرير يفكّك حصاد تلك الأشهر الثلاثة من الناحية الاقتصادية، ويسلط الضوء على التحديات التي ما زالت تقف عقبة أمام الحكومة السورية مع الإشارة إلى سُبل تجاوزها.
إنجازات اقتصادية
تبدو فترة 3 شهور قصيرة للإنجاز في عدّاد بلد منهك من أثر سنوات الحرب العجاف، لكن تمكنت خلالها الحكومة من اتخاذ بعض الخطوات في إطار إنعاش البلاد والتحسين التدريجي في الخدمات.
لعل الاختراق الأكبر الذي حققته الحكومة خلال الفترة الماضية هي بإزالة العقوبات الأمريكية التي فُرضت على سوريا من 4 عقود، والذي وُصف بأنه انتصار دبلوماسي محسوب لها، حيث يشكل هذا القرار نقطة تحوّل تاريخية كونه يفتح أبوابًا لطالما كانت موصدة في وجه تقدّم سوريا.
يمهّد رفع العقوبات لتحسينات جوهرية في قطاعات مختلفة كالطيران والنقل والزراعة والطاقة والتكنولوجيا كما “يمثل نقطة تحول أساسية وسينقل الاقتصاد السوري من التفاعل مع الاقتصادات النامية إلى الاندماج مع اقتصادات أكثر تطورًا، مما قد يعيد تشكيل علاقات التجارة والاستثمار بشكل كبير”، بحسب إبراهيم ناجي قوشجي، الخبير الاقتصادي والمصرفي.
دموع الفرح تغلب وزير الاقتصاد السوري أنثاء حديثه عن تأثير رفع العقوبات عن سوريا pic.twitter.com/vmXan76Bca
— نون بوست (@NoonPost) May 14, 2025
ومن جملة القرارات التي كان لها أثرًا إيجابيًا في القطاع الاقتصادي، بحسب ما قاله الباحث الاقتصادي فراس شعبو لـ”نون بوست”، كانت إعادة افتتاح بورصة دمشق وإعداد خطة تطوير تشمل تحديث البنية التقنية والتشريعية وزيادة عدد أيام التداول الأسبوعية فيها، بالإضافة إلى التشجيع على الاستثمار في المناطق الحرة والصناعية.
كما ذكر شعبو، الاتفاقيات التي تتصدّر إنجازات الحكومة الاقتصادية، وأبرزها اتفاقية الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية مع شركة “موانئ دبي العالمية”، التي بلغت قيمتها 800 مليون دولار، بالإضافة إلى اتفاقية أخرى وقعتها الهيئة مع شركة “Fidi Contracting” الصينية لتطوير مساحة تزيد على مليون متر مربع في منطقتين حرتين تقعان في حمص وريف دمشق.
الموانئ السورية على الخارطة الدولية.. استثمار أم امتداد للنفوذ؟#سوريا pic.twitter.com/yrE9Qhzut4
— نون سوريا (@NoonPostSY) June 28, 2025
أطلقت وزارة الاقتصاد حزمة إصلاحات ضريبية جذرية، شملت عفوًا عن المتأخرات الضريبية لآلاف المكلَّفين، وخفض رسوم التحصيل، وتوسيع القاعدة الضريبية ليغطي قطاعات جديدة؛ إجراءات يؤكّد الباحث شعبو أنّها أفضت إلى تخفيف القيود الجمركية على طيف واسع من السلع.
ومن الاتفاقيات التي تعدّ تاريخية في قطاع الطاقة السوري وتنقلها من دولة عاجزة على تأمين كهرباء لمواطنيها إلى مصدّرة للجوار، تلك التي وقعتها وزارة الطاقة السورية مع تحالف شركات دولية، بينها شركات قطرية وتركية وأمريكية بقيمة 7 مليار دولار، وتأتي أهميتها من كونها ستتيح توليد 5 آلاف ميغا واط من الكهرباء عبر 4 محطات غازية.
وفي خطوة إعلامية ضخمة، وقعت وزارة الإعلام السورية اتفاق مع شركة “المها” القطرية بقيمة 1.5 مليار دولار، بهدف إقامة مدينة إنتاج تجمع بين الإعلام والفن والسياحة باسم “بوابة دمشق”.
ويؤكد الباحث شعبو، أن هناك توجّه خاص من الحكومة لتطوير قطاع الزراعة وتربية الحيوان، وهي من أكثر القطاعات تأثرًا إيجابيًا، بالانفتاح الاقتصادي على سوريا.
لكن تبقى هذه الإصلاحات والخطوات محدودة الأثر، لأن التعافي يحتاج إلى وقت، ولا سيّما في ظل غياب التمويل الخارجي وتهالك البنية التحتية، حيث ما زالت الخدمات الأساسية لم تعد بشكل كلي، ولا يزال الفساد مستشريًا والإطار القانوني غامضًا، بحسب شعبو.
تحديات أمام الاقتصاد السوري
استلمت الحكومة السورية دفة القيادة مثل قبطان سفينة يحاول الإبحار وسط أمواج عالية. ينطبق هذا المثال على كل القطاعات في البلاد وخاصة الاقتصادية حيث كان الاقتصاد السوري برمته محموًلا على الفساد، طبيعة ونشأة وسلوكًا، وكان المحرك الرئيس للعمليات الاقتصادية وسبب علتها، وكان وظيفيًا ومتسقًا داخليا فيما يتعلق بالغاية النفعية للقوى الفاعلة في مركزي القرارين الاقتصادي والسياسي بحسب دراسة لمركز حرمون للدراسات.
يتفق الباحث شعبو مع هذا الرأي، قائلًا: “التحديات التي تواجه الحكومة السورية اليوم ليست نابعة من شخصها، بل من التركة الثقيلة التي ورثتها من نظام الأسد البائد”، مضيفًا أنها ورثت العقوبات، وانهيار العملة، وتدمير البنى التحتية، ونزوح الكفاءات، وكلها تحديات تقف أمام إنعاش الاقتصاد السوري.
عودة #سوريا إلى نظام SWIFT بعد أكثر من عقد من العزلة المصرفية.. خطوة قد تعيد ربط الاقتصاد السوري بالعالم. pic.twitter.com/o31331TsOT
— نون سوريا (@NoonPostSY) June 15, 2025
من ناحية أخرى، يعدّد الباحث الاقتصادي، عبد العظيم المغربل، أبرز التحديات التي يتعيّن على الحكومة السورية التعامل معها، في ورقة بحثية أعدها بعنوان ” الاقتصاد السوري: تحديات التحول نحو نظام السوق ومواجهة إرث النظام السابق”، وهي كالآتي:
- الحالة السياسية الهشة وعملية بناء الإطار السياسي للدولة: ورثت الحكومة السورية نظامًا سياسيًّا منهارًا إثر هروب بشار الأسد من البلاد إلى روسيا، بجانب وجود مطالبات باللامركزية الإدارية من قبل قوات سوريا الديمقراطية المتواجدة شرق الفرات، وبعض الفصائل الدرزية جنوب البلاد، بالإضافة إلى فلول النظام البائد.
- القطاعات الإنتاجية المتراجعة وسبل إعادة إحيائها: تعرّضت القطاعات الإنتاجية في سوريا، خاصة الزراعة والصناعة، لدمار واسع خلال الحرب، شمل تهجير الكفاءات وتخريب المنشآت وضغط على رؤوس الأموال دون أي دعم يُذكر. وبعد سقوط النظام، بدأت هذه القطاعات بمحاولات محدودة لتأمين الحد الأدنى من احتياجاتها، بانتظار التمويل لإعادة تنشيطها.
- البنية التحتية وإعادة الإعمار: تقدّر تكلفة إعادة الإعمار بـ400 مليار دولار، ونظرًا لهذا الرقم الضخم تراهن الحكومة السورية على مزيج من التمويل الخليجي والدولي، كخطة مشابهة لمشروع مارشال لإعادة إعمار البلاد، بتركيز مساعيها على جذب مشاريع استثمارية كبرى.
- الحياة اليومية: لا تزال معيشة المواطن السوري قائمة إلى حد كبير على التحويلات الخارجية والمساعدات الإنسانية، في ظل تضخم مرتفع وبطالة واسعة، وذلك بالتزامن مع تحوّل الإدارة الجديدة نحو اقتصاد السوق الحر، بعد عقود من هيمنة الاقتصاد المركزي الذي كانت تديره الدولة بشكل مباشر.
- فقدان الثقة بالعملة المحلية والقطاع المصرفي: تراجعت قيمة الليرة السورية أمام الدولار خلال سنوات الحرب ويجري اعتماد الدولار بدلًا من الليرة السورية مقياسًا ومعيارًا، وذلك نتيجة السياسات النقدية غير العقلانية والتي أدت لانتهاء الاحتياطي من العملات الأجنبية وطباعة كميات ضخمة من الليرة السورية، وغياب الثقة بالنظام المصرفي.
وعود حالمة
بعدما تخلّصت سوريا من أسوء كوابيسها بسقوط نظام الأسد البائد، ساد التفاؤل الأوساط السورية وتنفس السوريين المرهقين الصعداء بعدما تجددت آمالهم بتحسين ظروفهم المعيشية، ولا سيّما بعد الوعود التي قطعتها الحكومة السورية الانتقالية التي تبدو للوهلة الأولى أنها خيالية.
من أولى الوعود التي أطلقتها الحكومة بعد سقوط الأسد، كانت رفع رواتب موظفي القطاع العام بنسبة 400% وضمان صرفها دون تأخير، إلا أن الواقع المالي للدولة لم يحتمل ذلك، فتم تعديل الزيادة إلى 200%، وشهدت رواتب بعض الموظفين تأخيرات في الصرف، ما كشف فجوة بين الطموحات والإمكانات.
وكان قد أعلن وزير النقل السوري بدر يعرب عن إعادة إحياء مشروع “مترو دمشق” الذي سيمتد من منطقة القابون مرورًا بجامعة دمشق، وأوتستراد المزة وصولًا إلى منطقة السومرية في ريف دمشق الغربي، في وقت ما زالت فيه العديد من الطرق في سوريا مدّمرة وغير صالحة للعبور.
كما أكدت وزارة الاتصالات السورية، بعد إطلاق مشروع “كبل أوغاريت 2″، بالتعاون بين شركة “UNIFI” الأمريكية للاتصالات، و”الشركة السورية للاتصالات”، وهيئة الاتصالات القبرصية (CYTA) لتطوير معدات الكبل البحري القديم أن سعة الإنترنت الواردة إلى سوريا ستضاعف خلال شهرين، بينما ما زال وصول الإنترنت بطيئًا جدًا.
يعلّق الباحث شعبو على هذا الموضوع، قائلًا: “ترفع الحكومة سقف الأمل، وبالتالي تبالغ في قطع الوعود التي لا تتوافق مع الواقع المعيشي للمواطن السوري، إذ ما زالت البلاد في حالة عدم استقرار، يتجلّى في التخبّط الواضح في سنّ القوانين أو الالتزام بها”.
النجاح ممكن بشرط..
رغم أن التحديات تبدو معقدة وشائكة، إلا أن فرص التغلب عليها ليست مهمة مستحيلة، خاصة مع الظروف السياسية الجديدة والانفتاح التدريجي على العالم، “لكن قدرة الحكومة على النجاح في هذه المهمة تعتمد بشكل كبير على قدرتها على توفير بيئة سياسية مستقرة وشفافة، وإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة من جهة، وبين سوريا والمجتمع الدولي من جهة أخرى، وضبط الأمن وتحقيق العدالة الانتقالية والسلم الأهلي”، بحسب المغربل.
خبراء يطرحون البدائل.. ويتفقون رفع العقوبات وحده لا يكفي لتعافي الاقتصاد السوري.#سوريا pic.twitter.com/Msdm6lWR4d
— نون سوريا (@NoonPostSY) May 10, 2025
كما تلخص ورقة بحثية أعدها مركز عمران للدراسات، أبرز النقاط التي يجب على الحكومة أن تتعاطى معها لإنعاش الاقتصاد وتجاوز العقبات، وهي:
- استعادة الاستقرار النقدي وإصلاح السياسة المالية: عبر تثبيت سعر الصرف وما يتطلبه من ضبط السوق السوداء، وإصلاح النظام المصرفي وبالأخص البنك المركزي، كذلك العمل على جذب تحويلات المغتربين عبر القنوات الرسمية بما يعزز الاحتياطات الأجنبية من العملات الصعبة.
- دعم المجتمعات المحلية: لحمايتها من التضخم ومن انعكاسات التحول البُنيوي للتحرر الاقتصادي، وذلك عبر دعم منظومات التكافل الشعبية والرسمية، والحفاظ على برامج المساعدات العاجلة للأسر الفقيرة بالتعاون مع المنظمات الدولية، إلى جانب الحفاظ على سياسات دعم بالحد الأدنى للفئات الفقيرة والمهمشة اقتصاديًا..
- تفعيل التمويل الدولي: من خلال التفاوض مع مؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدولي، للحصول على قروض ميسرة مع ضمان استخدامها في مشاريع تعزز القدرات الإنتاجية للاقتصاد السوري.
- إعادة النظر في السياسات والإجراءات التي تؤثر على دخل السكان ونشاطهم الاقتصادي، عبر تصميم برامج تعافي مبكر موجهة لخلق فرص عمل للسكان وتقليل كلف مدخلات إنتاج الغذاء والخدمات.
- رسم خطة واقعية لإصلاح الاقتصاد السوري، التسرع في إصلاح القطاع العام سيؤثر على فرص البقاء، ولذلك لا بد من توفير برامج داعمة لتحول تدريجي لأولئك المُسرَّحين من مؤسسات الدولة، كذلك المقاتلين العائدين للحياة المدنية، لدمجهم في القطاع الخاص مع توفير بدائل وحوافز تمويلية، كمؤسسات التمويل الصغير وبرامج المنح الصغيرة.