يخوض المزاج الوطني العام، منذ تحرير سوريا، سجالًا محتدمًا عنوانه “الوطنية”، تتقاطع فيه ولاءات تُفرط في تمجيد سلطةٍ نالت شرعية تلقائية بمجرد سقوط نظام الأسد، مع شكوك تتجاهل، أحيانًا عن عمد، ما قد يبدو جوانب قليلة لكنها مضيئة، يمكن أن تعزز الثقة بمرحلة يُؤمَل أن تكون انتقالية.
في محاولة أولية، يسعى هذا المقال إلى تفحص الأسباب النفسية والاجتماعية التي دفعت سوريين وسوريات إلى هذا الاصطفاف الحرج في توقيته والحادّ في صراعه، اصطفاف أعاد إنتاج ثنائية صدامية في الوعي الجمعي السوري، من خلال مقاربة تستند إلى أثر الحرمان والفقد في تشكيل مواقف وطنية متناقضة.
الولاء والنقد كـ”هوية”
يعدّ الولاء السياسي أحد أوجه هويات الفرد المتعدّدة، ويُعرّف بأنه التمجيد غير المشروط وغير النقدي للسلطة، إذ يبدي أتباعه تفانيًا في العمل في سبيل الأهداف التي حدّدتها الدولة لنفسها أو لمواطنيها، بغضّ النظر عن الضرر المحتمل الذي قد يُلحقونه بالآخرين من المواطنين، وهو ما سُمّي اصطلاحًا بـ”الوطنية العمياء”.
وكما في أوقات الصراع، ينخرط أنصار “الوطنية العمياء” في أوقات التعافي في تطويع ولائهم كسلاح سياسي وأخلاقي، يزجّ المجتمع في نفق الاستخفاف بمن ابتعدوا عن وطنهم لأسباب مختلفة، أو يتّهمونهم بأنهم في طريق الابتعاد والتخلّي عن “وطنيتهم”.
يميل أصحاب هذا الاتجاه، بدرجة أعلى، إلى رؤية جماعتهم معصومة من الخطأ، فهم لا يكتفون بتجاهل انتقادات تصرّفات مجموعتهم ذات الولاء، بل يعتبرون هذه الانتقادات أيضًا غير وطنية بطبيعتها.
ولدحضها، يسعون إلى صياغة ونشر سرديات عبر تقديم ما يشبه “المعلومات” التي تمنحهم شعورًا بأن احتياجاتهم “قد تمّ تلبيتها” أو “سيتمّ تلبيتها”، وبأن القادة والنظام الجديدين “جديران بالثقة”، و”يمكنهما أن يكونا بمثابة بديل للنظام السابق أو الحالي”.
ولعل أبرز السرديات التي تغازل عاطفة الشعوب تتمحور حول ستة مواضيع، هي: وصف الوضع الراهن وما يعتريه من تهديدات مختلفة، وصياغة هوية “الأمة”، وتحديد أهدافها وأعدائها الخارجيين، ووصم الأعداء الداخليين بالخيانة، والكشف عن وسائل الإعلام التي تعارض نهج “الأمة”، وإسقاط الأنظمة القانونية التي تمنع تحقيق أهدافها، وتحسين الوضع الاقتصادي، والعودة إلى عظمة الأمة، وحماية نقائها.
في سوريا، بات لافتًا صعود مفهوم “الأمة” في سرديات الموالين الجدد، الذي أسقط معه مفهوم “الدولة” السورية المنتظرة، وشكك بـ”وطنية” كل من ينادي بها.

وأمام الولاء الأعمى، تتجلّى ملامح نقد عدمي لا يقلّ غلوًا وراديكالية عن الولاء، يرى في نفسه كل تجليات الفطنة و”اليقظة” لتحقيق المساواة والعدالة، فيتجاهل كل ما قد يستحق الإشارة إليه بأنه “تغيير إيجابي”، وينتقي القرارات والسلوكيات التي تبرّر انتقاداته تجاه السلطة ومواليها.
يميل أنصاره إلى التعبير عن مواقفهم في ثلاثة أنماط شائعة، وهي: السخرية والنيل من الأشخاص أو الجهات الاعتبارية من خلال التشكيك في أخلاقهم وكفاءتهم، أو التشكيك عمومًا، أو انعدام الثقة السياسية، فبينما يظلّ المتشكك منفتحًا على المعلومات وقد يطرح أسئلة بحثًا عن “الحقيقة”، يعتقد الساخر أنه قد وجدها بالفعل، أما انعدام الثقة فهي أكثر من مجرد سخرية.
في هذا السياق، كثيرًا ما تصبح السخرية هوية اجتماعية “جذابة”، تستقطب الأشخاص من ذوي التقدير السلبي المنخفض للذات، فتجعلهم يعتبرون كل ما هو “آخر” عنهم “ساذجًا” و”جاهلًا بالحقيقة” حول السياسة، فيمارسون نوعًا من “السخرية الأنيقة” في التفاعل أو في الكلام.
ورغم واقعية النقد الذي يسعى أنصار هذا الاتجاه إلى إثبات حقيقته، فإنه أصبح يجسّد حالة من الجهوزية النفسية للتشكيك بمعظم مفرزات المرحلة الجديدة، والسقوط في فخ النيل من اعتبار “الدولة”، الكيان السيادي الثابت فوق كل سلطة.
في السياقات الانتقالية، قد يتسبّب انعدام الثقة السياسية أو التشكّك في خلق حافز للاستجابة لمطالب المواطنين، بخلاف السخرية السياسية التي تمثّل تهديدًا للديمقراطية، إذ تقلّل من شأن مطالب أصحابها، فتبدو أقرب إلى “ردود أفعال” منها إلى “بدائل جادة”، مما يعطّل مساعيهم نحو المساءلة المنشودة.
كما قد يتعاظم الولاء الداخلي لكلٍّ منهما تجاه مجموعته الأم تدريجيًا ضد المجموعة الأخرى، وهو ما قد يُثير ردود فعل عكسية حدّ التطرف، تؤدي إلى مضاعفة المواقف، والدخول في دوامة لا متناهية من ردود الأفعال، عنوانها “الإحباط” لدى المجموعة الناقدة، ويقابلها “التمادي والتفاخر” لدى المجموعة الموالية.
ولعل حادثة الفتاة “ميرا”، التي أطلت بزيّ ديني تسير باستسلام وراء زوجها، قد حنّطت لحظة فارقة في استعجال الموالين والناقدين إلى صدام جديد، وأثارت شهيتهم لاتهامات لا تخلو من استهداف للدين، دون أن يمنحوا أنفسهم الحق في التثبّت من حيثيات الواقعة، التي ما لبثت أن تكشّفت حقيقتها خلال ساعات.
وبرغم تضادّ الرؤى، تكمن بينهما سمات هوياتية تخلق هامشًا مشتركًا يدفع كليهما إلى تحزّب راديكالي منغلق على موقفه، إذ يميل كلاهما إلى “تفضيل التماثل الاجتماعي، والتحيّز تجاه الآخرين، والاستعداد لممارسة سلطة المجموعة لفرض السلوك، والجمود المعرفي، والعدوانية وعقاب الأعداء المفترضين، والاستبداد الأخلاقي”.
الولاء والنقد في مرآة الفقد
يحمل الأفراد، بعد انتهاء الصراع، ذخيرة نفسية مثقلة بالصدمات والخسارات بمختلف درجاتها، فيصبحون أكثر تركيزًا على معاناتهم الخاصة، وأكثر ميلًا إلى إلقاء اللوم على بعضهم البعض، وإلى نزع الصفة الإنسانية عن “الآخرين”، حيث يغلب انعدام الثقة والإقصاء، ويصبح التنافس غير البنّاء سمة للعلاقات فيما بينهم.
في هذه المرحلة، ينجذب الأفراد إلى من عاشوا تجارب وصدمات مشابهة، فتصبح هويتهم المرحلية أشبه بـ”غراء” اجتماعي يدفعهم إلى الانكفاء على بعضهم البعض حد الالتصاق، بما يضمن لهم توازنًا نفسيًا وسلوكيًا، ويمنحهم الشعور بالفرح أو السعادة والتعاطف بشكل يخدم توقّعاتهم.
يعود الجنوح نحو الانكفاء، في معظمه، إلى اختلاف الطريقة التي ينظر بها الأفراد إلى الأحداث والتجارب الشخصية المباشرة مع خسائرهم وصدماتهم واحتياجاتهم الأساسية ومدى إشباعها، إلى جانب المعلومات التي حصلوا عليها، والقيم الإنسانية التي يؤمنون بها، والتي توفّر جميعها فهمًا ممكنًا للأسباب النفسية للشعبوية، لدى الموالين والمشكّكين.
في هذا الصدد، تصبح الاحتياجات والقيم مفتاحًا لفهم ولاءات الجماهير؛ فعندما لا تُلبَّ احتياجاتهم يشعرون بحرمان شديد وإحباط وتنافر، فيصبحون أكثر ميلًا للبحث عن أصوات استبدادية سلطوية، لإشباع احتياجاتهم وقيمهم المُحبَطة من خلال وسائل حقيقية أو رمزية (السرد)، أو مزيج من كليهما.
في ألمانيا، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أثيرت إشارات استفهام حول تجاوب البلاد مع دعوات شخصية شعبوية كـ”أدولف هتلر”، فوجد أن شرائح كبيرة من الشعب الألماني شعرت بالارتباك إزاء التغيرات المجتمعية الهائلة التي شهدوها من حولهم، وسط اعتراض الشعب على الحرمان الاقتصادي، بينما بقيت بعض الفئات الاجتماعية في وضع “جيد”، فأصبحوا، كردّ فعل، متعطشين لـ”شخصية سلطوية”.
وهنا تبرز المفارقة في حجم الحرمان المتراكم الذي اختبره المجتمع وأنواعه، وفي عمق الانتهاكات التي مسّت منظومته القيمية الأساسية. ومن خلاله يمكن فهم انغماس فئات اجتماعية محددة في ولاء أعمى، وكأنه يلبّي احتياجاتهم الأساسية على نحو سريع، ورغم ذلك يبقى أثره باهتًا أمام وطأة “الفقد/الخسارة” بكل مستوياته.
لا توجد أدبيات تناولت صراحة أثر الفقد على ولاءات الأفراد، لكن، ورغم خصوصية الحالة السورية وتعقيداتها التي تحتاج إلى دراسة تفصيلية عن أساس الولاءات وأسبابها، يبدو الحال واضحًا للفهم بعض الشيء إذا ما وُضع “الفقد” أمام “المكسب/المصلحة”.
يمكن للضرر (أو الفقد) أن يحفّز الأفراد على تطوير وعي سياسي وحقوقي، يجعلهم أكثر سعيًا للحصول على ما قد يعوّض الضرر أو ينصف الفقد. وكنتيجة، يصبحون أكثر حصانة أمام أي إعلام شعبوي، لامتلاكهم مصادر معلومات معنية بضررهم؛ كالمنظمات المدنية والمجتمعية، فيصبحون أكثر دراية بخطر التهديدات، وبأهمية التغيير السياسي والاجتماعي وبأصوله، وبالتالي أكثر ميلًا للمواجهة والنقد.
بينما تميل الفئات الأقل تضررًا والأكثر أمانًا في وضعها الاقتصادي والاجتماعي إلى أن تصبح عرضة لتأثير الإعلام الشعبوي، وهو ما قد يؤدي إلى تراجع وعيها السياسي وانتقائها للمعلومات على أساس المصلحة المباشرة، فتتلاشى دوافعها للمشاركة السياسية، ويصبح التغيير الاجتماعي بالنسبة لها أمرًا ثانويًا.
ورغم أن مصالحها المباشرة لم تُمس، إلا أنها بقيت، حتى سقوط النظام، عرضة للشعور بالغموض المستمر وبالتهديد وبانعدام اليقين، وسط انعدام فرصها بتوعية سياسية حقيقية جعلتها تحت وطأة “فقاعات الخوف” والصدمات النفسية، تدفعها نحو الانغلاق عن الرأي الآخر وتجنّب المشاركة السياسية أو النقد.
في هذا الصدد، شكّل الفضاء السوري الافتراضي مجالًا ممكنًا لرصد تفاعلات فئات اجتماعية كانت في حالة كمون سياسي، بمنأى عن أي فقد أو تهديد حقيقي طوال سنوات الصراع، أصبحت اليوم تبادر بالتعبير عن مواقف تصعيدية تنطوي على إسكات كل من لا يشاركها الولاء، وتظهر ولاءات غير مسبوقة.
ولعل عبارة “أين كنتم من 14 سنة؟!” دليل بارز يجسّد محاولة خلق معنًى لبقائهم في سوريا من خلال إضفاء بعدٍ أخلاقي أو نضالي، ورغبة في أن يُنظر إليهم كمكوّن تحمّل العبء، مقابل من غادر أو نجا، فيستحق، كنتيجة، أن يُحتسب كـ”رصيد وطني” يضفي على معاناتهم اليومية طابعًا “نضاليًا” مشروعًا.
عدالة على المحك
تعكس الولاءات الوطنية خللًا بنيويًا في الوعي السياسي للجمهور، وبدرجة أعلى لدى جمهور الداخل، كونه عاش طويلًا في عزلة متكاملة الأركان، منقطعًا عن الحراك المدني، غير مدرك لدور المجتمعات المدنية التي ظهرت ونشطت في الداخل والخارج، والتي كانت تسعى لتشكيل مساحات عامة بديلة، مستقلة عن السلطة.
ورغم ميوله في تأييد السلطة الحالية، إلا أن تمجيده لها يبدو مفتقرًا إلى البوصلة، ويجري بمعزل عن إدراك حقيقي لطبيعة توجهات السلطة الراهنة، التي تتسم بانفتاح بالغ يتّسع لأي نوع من الاستثمار، أو شراكة، أو حتى تجنيس محتمل لمقاتلين أجانب.
في حين أن أنصار النقد العدمي يطالبون حكومة لا يعترفون بشرعيتها بمباشرة صلاحيات الحكومة الانتقالية، وبمحاسبة المتورطين/ات في دم السوريين/يات، وضبط الفلتان الأمني، وغيرها من الملفات السيادية.
إن هذا التناقض بين الانتقاد والمطالبة يكشف جانبًا من الارتباك في الإدراك السياسي لدى هذه الفئة أيضًا؛ فرغم انتقاداتها التي قد تعبّر عن حرصٍ مشروع، إلا أنها – في بعض تجلياتها – تغفل أن تفويضها المؤقت لا يعني إطلاق يدها، ولا يرقى بها إلى مستوى الحكومة المنتخبة، وإنما خطوة نحو الدولة السورية الممكنة.
لكن الفجوة الحاصلة بين الفريقين تتطلب مصالحة من نوع آخر، تتمثل في اعتراف الطرفين بالمعاناة، والإقرار بأن الجميع تعرض لتهديدات حتى لو كانت غير متكافئة إلى حد بعيد، كخطوة أولى نحو بناء مستقبل مشترك ومقبول للطرفين.
يشير عدد كبير من الدراسات إلى أن الثناء بكل أشكاله الولائية، كما البنسلين، يمكن أن يسبب خللاً وظيفيًا في بعض الأحيان، “قد يؤخر أو يعيق نمو الأفراد المستقلين”، والدول المستقلة، وقد يعرقل من مساعيها في تحقيق عدالة انتقالية.
في مجتمعات ما بعد الصراع، قد يتسبب الولاء الأعمى في تسييس المساءلة القضائية وتطويع العدالة في خدمة “المنتصر” سياسيًا، وغالبًا ما تُستثنى الانتهاكات التي ارتكبها “الطرف المنتصر” من التحقيق والمحاسبة، مما يفضي إلى عدالة انتقائية تُعزز الإفلات من العقاب.
وعلى نحو غير مباشر، قد يتسبب الولاء الأعمى أيضًا في اختلاق روايات رسمية مغلوطة، تعيد صياغة سرديات رديفة للصراع، وقد تنافسها، بطريقة تُبرّئ الذات الجماعية وتُهيمن على المجال العام، وتعرقل فرص تحقيق ذاكرة جماعية حقيقية.
في حين يقوّض النقد الذي يركّز على الانتهاكات التي ارتكبها طرف واحد ويتجاهل الأخرى مبدأ الشمولية، وهو جوهر العدالة الانتقالية، فحين يتم تصنيف الضحايا وفق انتماءاتهم السياسية أو الطائفية، تصبح عملية جبر الضرر أداة للتمييز بدلًا من أن تكون وسيلة للإنصاف، وإلا فإن العملية تفقد مشروعيتها الأخلاقية وتحوّل نفسها إلى إعادة إنتاج للصراع عبر أدوات قانونية.
كذلك، يُضعف النقد مع الوقت ثقة المجتمع باحتمالات تحقيق عدالة انتقالية ممكنة، وقد يؤدي إلى تعميق مشاعر الإقصاء، ويطيل من احتمالات تحقيق مصالحة طويلة الأمد، وقد يعيد مع الولاء الأعمى إنتاج مظلومية جماعية تحول دون بناء سلام مستدام.