مع انتهاء جولة المواجهة المباشرة بين إيران و”إسرائيل”، اتجهت الأنظار إلى “اليوم التالي” للحرب، إذ بدأ يتبلور سؤال محوري حول شكل المشهد الإقليمي وقواعد الاشتباك الجديدة التي ستنظم العلاقة بين الطرفين، في ظل اندفاعة أمريكية محمومة لإعادة هندسة الإقليم على نحوٍ يُكرِّس التفوقَ الإسرائيليَّ ويمنح “تل أبيب” حريةَ الحركةِ العسكرية في مساحاتٍ أوسع.
ومع أن النظام الإيراني خرج من المعركة واقفًا دون أن يسقط، فإن مفاعيل الضربة ما تزال قيد التقييم، لا سيما على صعيد القدرات الهجومية بعيدةِ المدى، في حين تبرز مسألة إعادة بناء الدفاعات الجوية بوصفها أولويةً إيرانيةً عاجلة، لما لها من دورٍ مركزيٍّ في استعادة التوازن واستعادة الردع.
على الجانب الآخر، تبدو “إسرائيل” في سباقٍ مع الزمن لتثبيت معادلة “حرية الحركة” في الأجواء الإيرانية، بعد أن تمكَّن سلاحها الجوي من تنفيذ ضرباتٍ مباشرةٍ داخل العمق الإيراني، متجاوزًا ما كان يُعَدُّ سابقًا خطوطًا حمراء.
وتطمح “إسرائيل” إلى ترسيخ هذا التفوق عبر استكمال استنزاف القدرات النووية والهجومية الإيرانية، الأمرُ الذي يضع طهران أمام اختبارٍ حقيقيٍّ: هل ستتمكن من ترميم صورة الردع وفرض معادلاتٍ جديدةٍ تمنع الانزلاقَ إلى جولاتٍ مفتوحةٍ من الاستباحة؟
“حرية الحركة”.. لا حصانة لأحد
بعد أيامٍ قليلةٍ على إعلان وقف إطلاق النار بين إيران و”إسرائيل”، خرج وزيرُ الحربِ الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بتصريحٍ يحمل دلالاتٍ استراتيجية، معلنًا تعليماته للجيش بإعداد “خطة تنفيذية ضد إيران”، تركز على ضمانِ التفوقِ الجوي، ومنع طهران من إحرازِ تقدمٍ في برنامجها النووي والصاروخي، والرد على ما وصفه بدعمها المستمر للأنشطة المعادية لـ”إسرائيل”.
حسب كاتس، مثَّلت العمليةُ العسكريةُ الأخيرة، التي أُطلق عليها اسم “الأسد الصاعد“، والتي استمرت 12 يومًا، مجردَ مقدمةٍ لـ”سياسةٍ إسرائيليةٍ جديدة” تقوم على قاعدة: “لا حصانة لأحد”.
وتضمنت التصريحاتُ تذكيرًا وتباهيًا بنجاحِ الجيشِ الإسرائيلي في “تحييد الدفاعات الجوية الإيرانية”، و”تدمير منشآتِ إنتاجِ الصواريخ”، و”تصفيةِ قياداتٍ أمنيةٍ وعلماءَ مرتبطين بالبرنامج النووي الإيراني”.
لكن هذا الخطابَ التصعيدي لم ينفصل عن التحليلاتِ الإسرائيلية التي تشير إلى أن وقف إطلاق النار، الذي أُعلن بوساطةٍ أمريكية، لم ينهِ المعركة، بل نقلها إلى مرحلةٍ أكثرَ تعقيدًا وخطورة. ففي تقريرٍ موسَّعٍ لصحيفة “معاريف” العبرية، تنقل المراسلةُ السياسية، آنا براسكي، تقييماتٍ أمنيةً تشير إلى أن السؤالَ في “تل أبيب” لم يَعُد “هل سيُستأنف القتال؟”، بل “متى وأين؟”.
على الرغمِ مما يبدو من هدوءٍ نسبيٍّ، تُواصل “إسرائيل” عدَّ وقف المشروعِ النوويِّ الإيراني “هدفًا قوميًّا أسمى”، بينما تُصرُّ طهران على استئنافِ برامجها دون خضوعٍ للابتزازِ العسكري.
وأكَّد رئيسُ الموساد، ديفيد برنيع، في تصريحٍ واضح: “سنبقى هناك كما كنا… ونعرف هذه المشاريع عن كثب”، وهو ما فسَّره مراقبون على أنه إشارةٌ إلى أن المعركةَ مستمرةٌ بأدواتٍ مختلفة.
وحسب الصحيفة، فإن وقف إطلاق النار لم يأتِ نتيجةً لتسويةٍ استراتيجيةٍ متوازنة، بل كان أقربَ إلى توازنٍ مؤقتٍ في المصالح، فقد سعت “إسرائيل” إلى تحقيق مكاسبَ تكتيكيةٍ نوعيةٍ بتدمير منشآتٍ نوويةٍ وقواعدَ عسكريةٍ إيرانية، في حين تجنبت طهران الانزلاقَ نحو مواجهةٍ مفتوحةٍ مع الولايات المتحدة.
ما يعزز هذا التقدير غياب أية بنودٍ واضحةٍ في الاتفاق تتعلق بوقف تطوير البرنامج النووي أو الصواريخ البعيدة المدى، فضلًا عن افتقاره إلى آلياتٍ رقابيةٍ أو قنوات اتصالٍ دائمة، ما يجعله قابلًا للانفجار في أيةِ لحظة، سواءً بصاروخٍ من لبنان، أو طائرةٍ مسيرةٍ من اليمن، أو حتى ضربةٍ في سوريا.
في هذا السياق، تكتسب الزيارة المرتقبة لرئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، إلى واشنطن أهميةً مضاعفة، إذ تتقاطع مع محاولة “تل أبيب” استثمار لحظةِ ما بعد الحرب لترسيخ معادلة “حرية الحركة” وضمان الغطاء الأمريكي لاستهداف أي تحرك إيراني نحو ترميم القدرات النووية أو الدفاعية.
ووفق الإذاعة الإسرائيلية الرسمية “كان”، فإن نتنياهو يسعى إلى الحصول على ضماناتٍ خطيةٍ من الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، تسمح لـ”إسرائيل” بتنفيذ عملياتٍ استباقيةٍ ضد إيران، شبيهةٍ بما تمارسه على الجبهة اللبنانية.
كما أشارت “كان” إلى أن نتنياهو يطمح بأن تتضمن الخطة الأمريكية لمرحلة ما بعد الحرب في غزة بندًا صريحًا يربط وقف الحرب بترتيباتٍ إقليميةٍ تعزز دور “إسرائيل” كفاعل عسكري حرّ الحركة، ومهيمن على البيئة الأمنية في المنطقة.
وبناءً عليه، تحاول “إسرائيل” اليوم تثبيت ما لم تستطع الحرب إنجازه بالحسم، والقائم على استنزاف القدرات الإيرانية النوعية ومنعها من استعادة المبادرة، في ظل توافر دعم أمريكي سياسي وعسكري، ما يعني فرض واقع إقليمي جديد عنوانه: “لا ملاذ آمن، ولا حصانة لأحد”.
ترميم الردع: سباق إيراني مع الزمن واستعداد لسيناريو الانفجار
تدرك إيران أن المواجهة مع “إسرائيل” لم تنتهِ فعليًّا، وأن ما تحقَّق عبر وقف إطلاق النار في 24 يونيو/حزيران ليس سوى هدنةٍ هشّةٍ في مسارِ اشتباكٍ أطول. ويبدو هذا الفهم واضحًا في سلوكها السياسي والميداني، الذي يتجه نحو ترميمِ قدراتها الدفاعية وتعزيزِ الردع، تحسبًا لجولةٍ قادمةٍ أكثر عنفًا وتعقيدًا.
في هذا السياق، أعلنت طهران عن “شكوكٍ جديةٍ” في التزام “إسرائيل” باتفاق وقف إطلاق النار، وأرسلت رسالةً رسميةً إلى الأمين العام للأمم المتحدة تطالب فيها بعدِّ “إسرائيل” والولايات المتحدة مسؤولتين عن الحرب، مع الدعوة إلى تحميلهما تبعاتِ العدوان، بما في ذلك دفع التعويضات.
وزير الخارجية، عباس عراقجي، شدد على أن ما جرى كان “عدوانًا ممنهجًا”، بينما أكد رئيس الأركان، اللواء عبد الرحيم موسوي، أن إيران لم تبدأ الحرب، لكنها “ردّت بكل قوتها”، وهي “جاهزة للرد مجددًا”.
اللواء موسوي نفسه أعاد التأكيد خلال مراسم تأبينية لشهداء العدوان أن “إسرائيل” هُزمت ولم تحقق أهدافها، وأن العدو كان يطمح لتفكيك النظام الإيراني لا مجرد تعطيل مشروعه النووي. وقال بوضوح إن “تل أبيب” طلبت وقف إطلاق النار لترتيب صفوفها، وأن الجولة القادمة ستكون أكثر شدة “إذا فُرضت على إيران”.
وفي خطابٍ تصعيديٍّ لافت، أوضح مستشار الحرس الثوري، إبراهيم جباري، أن بلاده أطلقت “200 صاروخ على تل أبيب” في أول ردٍّ على العدوان، مؤكدًا أن إيران تحتفظ بقدراتٍ لم تُستخدم بعد، وأن استمرار الحرب كان سيحوِّل الأراضي المحتلة إلى “حقولٍ مستهدفة”.
وحذّر من أن أي اعتداءٍ جديد سيعني انهيار الاستقرار الطاقي في المنطقة، بما يشير إلى إمكانية توسيع ساحات الاشتباك لتشمل المصالح الاقتصادية الدولية.
وفي قراءةٍ متقاربة، كانت قد نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية عن مسؤولٍ عسكريٍّ إسرائيلي قوله إن إيران بدأت بالفعل خلال الاشتباك بالتعافي، لا سيما على صعيد الدفاعات الجوية، إذ استأنفت إطلاق الصواريخ المضادة للطائرات، واستعادت جزءًا من منظومات الرصد.
وحذّرت الصحيفة من حربِ استنزافٍ طويلةٍ دون مسارٍ دبلوماسيٍّ واضح، في ظل إدراك “إسرائيل” أن إيران ما تزال تملك قدراتِ إطلاقٍ ضخمة، وخططًا لإنتاج آلافِ الصواريخِ الباليستية في خلال عقدٍ واحد.
وتجاوز السلوك الإيراني حدودَ التصريحات، إذ كشفت مصادر أمريكية عن رصد أجهزةِ الاستخبارات لتحركاتٍ إيرانيةٍ في الخليج، شملت تحميل ألغامٍ بحريةٍ على سفن، في مؤشرٍ قرأته واشنطن كتحضيرٍ محتملٍ لإغلاق مضيقِ هرمز، أحد أهم شرايين الطاقة العالمية.
وبينما لم يُؤكد نشر الألغام فعليًّا، فإن مجرد التحضير لذلك عُدّ رسالةً ردعيةً واضحة، خصوصًا بعد تصويتٍ رمزيٍّ في البرلمان الإيراني يؤيد إغلاق المضيق، في أعقاب استهداف الولايات المتحدة لمنشآتٍ نوويةٍ إيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان.
إلا أن أبرز التحديات التي تواجه إيران تكمن في إعادة بناء دفاعاتها الجوية، فالمعادلة لا تتعلق فقط بالحصول على أنظمةٍ متطورةٍ من موسكو أو بكين، بل بقدرتها على دمج هذه المنظومات وتشغيلها في بيئةٍ تتعرض لاختراقاتٍ سيبرانيةٍ وهجماتٍ استخباراتيةٍ مستمرة، وتُرصد بشكل دائم عبر أقمارٍ صناعيةٍ أمريكيةٍ وإسرائيلية.
وعلى الرغم من العلاقاتِ الاستراتيجية مع روسيا والصين، فإن التجربة الإيرانية مع حلفائها في ميدان التسليح ليست مثالية. فالمواقفُ المترددة، والحساباتُ المتشابكة، عطلت قبل وفي خلال الحرب الماضية وصولَ بعضِ المساعدات أو أنواعِ الدعمِ النوعي. وحتى الآن، لا يبدو أن إيران تملك شبكةَ إمدادٍ ثابتةٍ ومحمية تمكّنها من تجاوز هذه العقبات بسهولة.
في ظل هذه المعطيات، تبدو طهران في سباقٍ مزدوجٍ ما بين الحاجةِ إلى ترميمِ الردع، وإعدادِ سيناريوهاتِ التصعيد، دون الانجرار إلى فخِّ الاستنزافِ طويلِ الأمد. وهي معادلةٌ معقَّدة، سيكون لحسمها دورٌ كبيرٌ في تحديدِ طبيعةِ المرحلةِ المقبلة، لا بشأن العلاقةِ مع “إسرائيل” فحسب، بل بشأنِ معادلةِ الأمنِ الإقليمي بأسره.
سيناريوهات مفتوحة: استنزاف ممنهج أم قواعد اشتباك جديدة؟
تضع التطورات الأخيرة المنطقةَ أمام مشهدٍ إقليميٍّ مرشَّحٍ للانفجار، في ظل إصرارٍ إسرائيليٍّ متصاعدٍ على ترسيخ معادلة “حرية الحركة الهجومية”، ومواصلةِ الضربات تحت غطاءٍ أمريكيٍّ، ضمن استراتيجيةٍ تستهدف منع إيران من استعادةِ المبادرة أو إعادةِ بناءِ قدراتِ محورِ المقاومة.
وتتجلى هذه الاستراتيجية في سلوكٍ هجوميٍّ شامل، تسعى من خلاله “إسرائيل” إلى تنفيذِ نوعٍ من “القصّ المنهجي” لقدراتِ الخصوم، ليس في إيران فحسب، بل على امتدادِ الجبهاتِ المتشابكة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن. وهي سياسةٌ تستند إلى تقويضِ البنى التحتية للمقاومة ومنعِ تشكُّل أيةِ بيئةٍ مواجهةٍ مجددًا.
في موازاةِ ذلك، قدَّم المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية تصريحًا لافتًا، رجَّح فيه أن تتمكن إيران من استئنافِ إنتاجِ اليورانيوم المخصَّب في غضونِ أشهر، على الرغم من الضرباتِ الأمريكية والإسرائيلية التي طالت منشآتها النووية. إن هذا التقدير، وكما جرت العادة، قد يُوظَّف سياسيًّا لتبريرِ ضرباتٍ إسرائيليةٍ إضافية، إذ يدخل ضمن مبرراتِ “بنك الأهداف” الذي سبق أن لوَّح به وزيرُ الحربِ الإسرائيلي يسرائيل كاتس.
وتكشف التطورات الميدانية طبيعة المرحلة القادمة، فقد أعلنت “إسرائيل” اغتيال أحد عناصر “فيلق القدس” في ضربة استهدفت سيارة قرب العاصمة اللبنانية بيروت، في عملية تُظهر اتساع رقعة العمل الإسرائيلي ضد الحضور الإيراني في المنطقة، وتلمح إلى أن الاستهدافات القادمة قد تطال قيادات ومواقع حساسة في ساحات متعددة.
هذا السلوك الإسرائيلي، الذي يعيد إلى الأذهان نمط “المعركة بين الحروب” المتبع ضد “حزب الله”، يعكس توجهًا نحو استنزاف دائم، يُجنب “إسرائيل” الدخول في حرب شاملة، لكنه يبقي المنطقة على صفيح ساخن.
وتزداد خطورة هذا النمط في حال اتجهت “تل أبيب” إلى اختراق المجال السيادي الإيراني مجددًا، فبينما قد تُحتوى الضربات في ساحات خارجية، فإن استهداف منشآت أو شخصيات داخل إيران يُرجح أن يُقابل برد مباشر، لا سيما في ظل التصريحات الإيرانية الصارمة بشأن “كسر قواعد اللعبة” إذا تم تجاوز خطوطها الحمراء.
وفي حال قررت إيران الرد، وكشفت عن استعدادها للمواجهة المفتوحة، فإن “إسرائيل” قد تجد نفسها مجبرة على إعادة النظر في نمط استراتيجيتها، خاصة إذا انقلبت معادلة الردع وتحولت الضربات الوقائية إلى محفز لتصعيد لا يمكن ضبطه.
وأما إن لم تجد “إسرائيل” ردًا حاسمًا، فقد تواصل تطبيق استراتيجيتها بمنطق “الضربات المتتالية”، وتوسيع نمط الاستهدافات، ضمن بيئة إقليمية غارقة في التوتر، وغياب شبه كامل لأي إطار دبلوماسي قادر على ضبط التصعيد.