في خطوة قد تبدو مفاجئة، أعلن المجلس الإسلامي السوري قبل أيام حلّ نفسه استجابة لطلب الحكومة السورية الجديدة. وجاء هذا القرار ضمن التوجه العام للسلطة الذي رُسمت ملامحه في “مؤتمر النصر”، أواخر يناير/كانون الثاني 2025 بحل جميع الكيانات الثورية السياسية والمدنية ودمجها في مؤسسات الدولة الناشئة.
وبرّر المجلس قراره بأنه أنهى المهام التي وُجد من أجلها خلال الثورة ضد النظام المخلوع، ودخول البلاد مرحلة إعادة بناء مؤسسات الدولة، ومع هذا التحوّل، وما يحمله من رمزية، فُتح باب الأسئلة مجددًا حول مستقبل العلاقة بين السلطة السياسية والمؤسسة الدينية، خاصة في ظل المخاوف المتجددة من عودة نمط الهيمنة المركزية للدولة على الفضاء الديني.
في هذا السياق، لا يمكن النظر إلى قرار حل المجلس كحدث إداري معزول، بل ينبغي تأمّله بوصفه امتدادًا لمسار طويل من العلاقة المعقدة بين الدولة السورية والدين، منذ عهد البعث وحتى لحظة التأسيس الجديدة.
كما لا يمكن تجاهل الخلفية الطائفية والاجتماعية المشحونة، والتي يرى فيها كثيرون أن الحكم الجديد يحمل طابعًا سنيًا محافظًا، وهو ما يجعل هذا القرار أكثر من مجرد خطوة تنظيمية، بل محطة حاسمة في إعادة تعريف دور الدين في الفضاء العام السوري، وما إذا كانت الدولة الناشئة ستكرّس التعدد والحياد، أم ستعيد إنتاج السيطرة بصيغة جديدة.
في هذه المقالة، نستعرض معنى هذه الخطوة في السياق الحالي، والخلفية التاريخية لعلاقة المؤسسات الدينية الإسلامية بالسلطة السياسية وأهمية استقلالها، ثم نحلّل تداعيات دمج المؤسسة الدينية في جهاز الدولة على توازن السلطات واستقلال المؤسسات.
الدين والسلطة في التاريخ الإسلامي
شهد التاريخ الإسلامي – منذ العهد الأموي مرورًا بالعباسي فالعثماني – علاقةً معقدة بين العلماء (رجال الدين والفقهاء) والحكام، فعقب عصر الخلفاء الراشدين، الذي تميز بقرب العلماء من مركز الحكم في إطار الشورى والنصح، بدأت تظهر ملامح تمايز بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية.
في العصر الأموي (41-132هـ) ثم العباسي (132-656هـ)، برز العلماء كقوة اجتماعية مؤثرة تحظى بثقة عامة الناس، وكانوا يدركون أن مكانتهم مستمدة من استقلاليتهم وزهدهم وتقواهم، وخلّد التراث الإسلامي في هذا السياق مقولة شهيرة تنسب للإمام جعفر الصادق: “الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين فاتهموهم”. أي أن ميل العالِم نحو بلاط الحاكم يُفقده ثقة عامة الناس، لذلك تجنّب كثير من العلماء عبر العصور تولّي مناصب رسمية كالقضاء أو الإفتاء السلطاني، خشية أن يضطروا لمجاملة السلطان على حساب الحق.
بدأ أول تقويض لبنية الاستقلال الديني مع بداية العصر الأموي، حيث حاول الخلفاء فرض رؤيتهم على الفقهاء وتطويع الفتوى لخدمة الحكم. ثم تصاعد هذا النهج في العصر العباسي، ولعلّ أبرز محطاتها ما عُرف باسم “محنة خلق القرآن“، حين حاول الخليفة المعتصم بالله التدخل المباشر في العقيدة، وواجه صمودًا من علماء كبار أمثال الإمام أحمد بن حنبل، الذي رفض الخضوع، ليمثّل رمزًا للاستقلال والتضحية.
وفي إطار مقاومتهم لهيمنة الدولة وتوظيفها للدين في خدمة السياسة، أدرك العلماء المسلمون تاريخيًا أهمية إنشاء شبكات ومؤسسات تعليمية ودينية مستقلة مموّلة عبر نظام الأوقاف، مما رسّخ استقلاليتهم المادية عن الدولة. فقد انتبهوا مبكرًا لضرورة تأمين موارد ذاتية تكفل لهم حرية الكلمة والموقف، دون الارتهان لعطايا السلاطين المشروطة.
وازدهرت هذه التجربة في العصور السلجوقية والمملوكية، حيث أسس العلماء مؤسسات تعليمية وخيرية بتمويل مستقل، ساهم به المحسنون والتجار، بل وبعض الحكام والوزراء كذلك، وأشهرهم الوزير نظام الملك (ت 485هـ)، مؤسس المدارس النظامية في بغداد عام 459هـ والتي وفر لها موارد مالية لدعم الطلاب والعلماء، مما منحهم هامشًا واسعًا من حرية الكلمة والعمل.
إلا أن العهد العثماني مثّل نقطة تحول مركزية، إذ جرى إدماج العلماء في البنية البيروقراطية الرسمية من خلال منصب “شيخ الإسلام“، وتحول عدد من الفقهاء إلى جزء من الجهاز الإداري. ومع ذلك، احتفظ بعضهم باستقلالية جزئية، خاصة في لحظات الصراع السياسي، حين كانت الفتوى الجماعية قادرة على كبح جماح السلطة.
أما في العصر الحديث، فقد شهدت المجتمعات الإسلامية عملية تفكيك شاملة لاستقلال العلماء، خاصة مع نشوء الدولة القومية الحديثة بعد انهيار الخلافة العثمانية. فتم تأميم الأوقاف، وإغلاق المؤسسات العلمية المستقلة، وتحويل الفتوى والتعليم إلى وظائف حكومية ضمن وزارات الأوقاف ودور الإفتاء الرسمية.
ومع هذا التحول، تآكلت سلطة العلماء المستقلة تدريجيًا، وظهرت طبقة من “علماء الدولة” الذين باتوا يعكسون التوجه الرسمي للسلطة أكثر من تمثيل الضمير العام.
في هذا الإطار، تبرز تجربة المجلس الإسلامي السوري في العقد الأخير كتجربة استثنائية حديثة، أعادت استحضار النموذج التقليدي لاستقلال العلماء بهامش جيد، مستفيدة من تصدع السلطة المركزية لنظام الأسد خلال سنوات الثورة. لكن هذه التجربة اليوم يبدو أنها أُجهضت وأعادت التذكير بالنمط المألوف: مؤسسة دينية تحت مظلة الدولة، لا شريكة لها، ولا مستقلة عنها.
الدين والدولة في سوريا الأسد: من التأميم الناعم إلى الهيمنة المؤسسية
لِفهم القرار الأخير بحلّ المجلس الإسلامي السوري ودمج مرجعيته ضمن هيكل الدولة، لا بدّ من العودة إلى جذور العلاقة بين السلطة السورية والدين، كما أُعيد هندستها منذ عهد حافظ الأسد. فبعيدًا عن الشعارات القومية والعلمانية التي رُفعت في العقود الأولى من حكم البعث، مارست الدولة سياسة تأميم ناعم للدين، وخصوصًا الإسلام السنّي، لم تقضِ عليه، ولكن روّضته، وأخضعته لتوازنات الأمن والولاء، وعملت على إدماج مدروس للفضاء الديني ضمن المنظومة السلطوية، عبر الاحتواء والتطويع.
ففي سياق الأنظمة السلطوية في العالم العربي والإسلامي تسعى السلطة إلى هندسة المجال الديني بما يخدم استقرارها السياسي، لا بوصفه حقلًا مستقلًا، بل كأداة رمزية لإنتاج شرعية الحكم. وكما يشير الباحث الفرنسي ستيفان لاكروا (Stéphane Lacroix)، فإن هذه الأنظمة لا تكتفي بتعيين العلماء الرسميين في وظائف دينية، بل تُدرجهم ضمن منظومة مؤسساتية تُخضعهم لمنطق الدولة، فتُحوّلهم من مرجعية ضميرية إلى امتداد للسلطة. في هذا السياق، يُعاد تشكيل الخطاب الديني ليخدم السياسات الرسمية، وتُختزل المؤسسة الدينية في وظيفة بيروقراطية فاقدة للاستقلال، مما يُقوّض قدرتها على التأثير المجتمعي ويُضعف مصداقيتها بمرور الزمن.
في عهد الأسد الأب، لم تكن وزارة الأوقاف مجرد جهة تنظيمية، بل تحوّلت تدريجيًا إلى جهاز رقابة، يعيّن ويعزل، يراقب المنابر، ويضبط الخطاب، أما العلماء الذين احتفظوا بشيء من الاستقلالية، فقد أُقصوا أو حُوصروا. فأصبح الخطاب الديني يتمحور حول مفردات الطاعة، والوحدة، ورفض الفتنة، وغالبًا ما استُخدم لتبرير القمع تحت غطاء “المصلحة العامة”.
ومن أبرز الرموز التي عكست هذا التحول التدريجي في علاقة العلماء بالسلطة، كان الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي. ورغم أنه لم يكن منخرطًا تمامًا في جهاز النظام خلال الثمانينات، ولم يُعرف بمعارضته له في ذروة المواجهة بين النظام والجماعات الإسلامية، بل أصدر كتابات تنتقد الخروج على الحاكم وتُدين العنف باسم الدين. إلا أنه وفي السنوات اللاحقة، تعزّزت علاقته بالنظام، ليُصبح أحد أبرز الوجوه الدينية الرسمية المؤيدة له، ويُعرف بخطابه المحافظ الذي يكرّس الشرعية القائمة ويحذّر من أي حركة احتجاجية باعتبارها بوابة للفتنة.
وهكذا، لم يكن هذا التغيّر وليد تبدل في القناعات فقط، بل نتيجة منظومة ترهيب وترغيب أحكم النظام السيطرة من خلالها على المجال الديني.
تُظهر الدراسات الأكاديمية، لا سيما ما كتبه الباحث الفرنسي توماس بييريه (Thomas Pierret) أحد أبرز المنظرين لهذه العلاقة، أن النظام السوري لم يسعَ إلى علمنة المجال الديني بقدر ما أعاد تشكيله من الداخل، عبر بيروقراطية دينية تابعة له، تُنتج ما يُعرف بـ “التقوى الرسمية” (official piety) ففي هذا النموذج، يتحول الإمام إلى موظف حكومي، لا يملك حرية الموقف، وتتحول الفتوى إلى أداة ضمن خطاب الدولة، لا انعكاسًا لحاجات المجتمع.
ويشير بييريه إلى أن هذه الهندسة الدينية هدفت إلى شرعنة النظام عبر أدوات التدين الشعبي، دون السماح بنشوء خطاب ديني مستقل أو ناقد.
ومع انتقال السلطة إلى بشار الأسد، لم يتغير جوهر العلاقة، بل اتّسعت رقعة السيطرة عبر تقنيات أكثر حداثة. وكان قانون الأوقاف لعام 2018 علامة فارقة في تضييق الخناق على الفضاء الديني، عبر إعطاء الدولة اليد الطولى في التعيينات، والإشراف على التعليم الديني، ومراقبة الخطب والمجالس العلمية.
هذه الخلفية تجعل من الصعب قراءة أي خطوة حالية لإعادة تأطير الدين، دون استحضار هذا الإرث الثقيل من الترويض والاحتواء، حتى لو تم ذلك تحت عنوان توحيد المؤسسات أو بناء الدولة.
توازن هش في زمن الانتقال
في ظل التعقيد المؤسسي الذي تعيشه سوريا ما بعد النظام، قد يبدو توحيد المرجعيات الدينية خطوة منطقية لبناء دولة قوية، تملك أدواتها وتضبط خطاباتها الرسمية. لكن ما يغيب أحيانًا في هذا الطرح هو الفارق الحاسم بين “التوحيد التنظيمي” و”الهيمنة السياسية”. ففي السياقات الانتقالية، لا يُقاس نجاح الدول بقدرتها على مركزة السلطة، بل بقدرتها على احتواء التعدد دون سحقه.
فمع اندلاع الثورة عام 2011، استعاد الدين دوره المجتمعي كمصدر تعبئة ومقاومة. ظهرت لجان شرعية مستقلة، ومجالس إفتاء ثورية، ومساجد تحوّلت إلى ساحات احتجاج. لم يكن هذا التحول مجرد عودة للمقدس، بل تأكيد على أن الدين لم يندثر تحت هيمنة النظام، بل اختزن طاقته داخل المجتمع.
وُلد المجلس الإسلامي السوري في هذا السياق، كجسم يمثل العلماء الثوريين، مستقلًا عن السلطة القائمة، ويجسّد نموذجًا حديثًا لاستعادة استقلال المؤسسة الدينية. وقد شكّل هذا المجلس، كما لاحظ توماس بييريه (Thomas Pierret)، “نقطة مقاومة نادرة لمخططات النظام في احتكار الدين كليًا”.
حلّ المجلس الإسلامي السوري، ودمج مؤسساته في هياكل الدولة دون أُطر ضامنة للاستقلال أو التمثيل الحقيقي، قد يخلق خللًا في ميزان القوى بين الدولة والمجتمع. إذ تُصبح المؤسسة الدينية خاضعة بالكامل للسلطة التنفيذية، فيما تغيب الأصوات القادرة على ممارسة الرقابة الشرعية، أو لعب دور الإصلاح الداخلي.
هذا الوضع لا يهدد فقط استقلال العلماء، بل يهدد في عمقه استقرار الخطاب الديني ذاته. فحين تُقفل المسارات المؤسسية أمام الفتوى المستقلة والنقد الشرعي البناء، يبحث الناس عمّا هو خارج الإطار الرسمي، وقد يتجهون نحو خطاب ديني بديل، أقل انضباطًا، وأشد استقطابًا.
تحذير أساسي ينبغي الانتباه له: حين تبدأ الدولة باحتواء الدين، فهي في الحقيقة تتجه لاحتواء المجتمع. فالمؤسسة الدينية ليست مجرد جهاز فتاوى، بل هي في تقاليد المسلمين صمّام توازن، ومساحة تعبئة قيمية، وصوتٌ يحرس مقاصد الشريعة في وجه الحاكم إن حاد. حين تسكت هذه المؤسسة، ويذوب صوتها في صوت السلطة، فإن المجتمع يُفقد أحد أهم أدوات النقد الأخلاقي والسياسي.
وقد لاحظ المفكر وائل حلاق، في دراسته لنموذج الدولة الحديثة، أن “إلحاق المؤسسات الدينية بالدولة الحديثة يؤدي إلى تدجينها، ويجعلها جزءًا من المشكلة لا جزءًا من الحل”. وهذا ما يمكن أن يحدث اليوم في سوريا ما بعد الأسد، إذا لم تُفهم المؤسسات الدينية المستقلة كأصول شرعية واجتماعية لا كتهديدات أمنية فنحن نعيد إنتاج المعضلة.
إن قرار حلّ المجلس الإسلامي السوري لا يمثل فقط نهاية كيان ديني تشكّل في لحظة ثورية، بل يُعبّر عن إزاحة واحدة من آخر بقايا الاستقلال الديني في الفضاء العام السوري. فالمجلس، رغم ما وُجّه إليه من نقدٍ مشروع حول بعض مواقفه وتوازناته الداخلية، شكل طوال سنوات الثورة بما حمله من مرجعيات علمائية متنوّعة، ومن رؤية وطنية صوتًا عقلانيًا وشرعيًا يحاول التوفيق بين الدين والدولة والمجتمع في لحظة الانهيار، خارج هيمنة الدولة الأمنية أو التنظيمات المسلحة.
ولأن هذا المجلس تأسس خارج المنظومة الرسمية، فقد تميّز – كما يشير الباحث طارق يوسف – بأنه “أول هيئة دينية سورية تتبنّى خطابًا إسلاميًا وطنيًا غير حزبي، ورافض للارتهان السياسي، مما جعله جسدًا رمزيًا لتطلعات الثورة الأخلاقية والدستورية”. حلّ هذا المجلس يذكّر، إذًا، بسيناريوهات تفكيك النقابات والجمعيات المستقلة في عهد البعث، حيث كانت كل مؤسسة ذات استقلال تعبّر عن خطر محتمل في ذهن الدولة، لا شريكًا في بنائها.
دمج المؤسسة الدينية الثورية داخل جهاز الدولة، في ظل غياب ضمانات تشريعية واضحة لاستقلالها الإداري أو المالي، ينقل الفتوى والإرشاد الديني إلى حضن السلطة التنفيذية. وهذا يُنذر بعودة ظاهرة “المفتي الموظف”، الذي يتحرك ضمن سقف الوزارة، لا سقف الضمير أو الاجتهاد.
اللافت أن الدولة الجديدة، حتى الآن، لم تقدّم مشروعًا قانونيًا شفافًا يضمن استقلال المؤسسة الدينية ضمن هيكل الدولة، ولم تُطرح آلية واضحة لتمثيل العلماء في القرار الديني أو التشريعي، ما يفتح المجال لمخاوف مشروعة من ذوبان أصواتهم في بيروقراطية وزارة الأوقاف أو مجلس الإفتاء، وإنتاج جديد للفتوى الوظيفية التي تعكس هوى السلطة، لا اجتهاد النص.
تاريخيًا، كان تسييس الفتوى أحد أبرز مؤشرات انحدار الخطاب الديني في المجتمعات الإسلامية. فعندما يتحوّل العالِم إلى موظف رسمي، يُفرغ موقعه من دوره الأخلاقي والرقابي، وتفقد الأمة بذلك أحد أهم أدواتها في قول الحق والنصح العام. وهنا تصبح المنابر صدى للسلطة لا صوتًا للمجتمع، وتتحوّل النصيحة إلى مجازفة، والنقد إلى تجاوز، فيما يُؤجل الاجتهاد الحرّ إلى إشعار آخر.
هذا التحوّل لا يمسّ استقلال العلماء فقط، بل يقوّض شرعية الخطاب الديني بأكمله، ويُبعده عن وظيفته الإصلاحية لصالح وظيفة تبريرية تابعة للسلطة.
معضلة السُّنّة في لحظة إعادة التأسيس
رغم أن النظام الأسدي سعى تاريخيًا إلى ضبط الحقل الديني بمختلف أطيافه، فإن طبيعة هذا الضبط كانت انتقائية. فالطائفة العلوية، التي وظفها النظام لخدمة مشروعه، تمتعت بغطاء أمني وسياسي، لكنها لم تُقدَّم كمرجعية دينية رسمية، حفاظًا على صورة النظام كـ “علماني وقومي”.
أما المرجعيات المسيحية والدرزية، فقد وُضِعت ضمن إطار “التعددية المُراقَبة” controlled pluralism)) كما يصف الباحث الفرنسي فابريس بالانش (Fabrice Balanche)، حيث تُحتَرَم هذه المرجعيات رمزيًا، ولكن يُمنَع عنها التمثيل الديني أو السياسي الحرّ خارج إرادة الدولة.
بعد سقوط النظام، بدأت هذه المرجعيات غير السنية استعادة حضورها الأهلي بعيدًا عن وصاية الدولة. الزعامات الدرزية عادت للتعبير بحرية، والمرجعيات المسيحية فعلت الشيء نفسه في مناطقها، وحتى الخطاب العلوي شهد انتعاشًا أهليًا خارج الأطر الأمنية السابقة. وحدها المؤسسة الدينية السنية طُلب منها أن تذوب في مؤسسات الدولة الجديدة، من خلال حلّ المجلس الإسلامي السوري ودمجه ضمن الهيكل الرسمي.
هذا التباين في التعامل يُثير تساؤلات مشروعة: لماذا تُمنح بقية الطوائف فرصة إعادة بناء ذاتها، بينما يُعاد تطويق السُّنّة ضمن منطق المركزية؟ هل نُعيد إنتاج هندسة الخوف من الغالبية، ولكن هذه المرة باسم “التوحيد والتنظيم” لا باسم “هندسة الفضاء الديني”؟
قد يرى البعض في هذه الخطوة إجراءً إداريًا محايدًا، لكن في السياق السوري الحساس، حيث يُنظر لكل تفصيل من منظور طائفي أو سياسي، يصبح أي غياب للتكافؤ وقودًا لسرديات المظلومية.
لقد نبّه الباحث اللبناني رضوان السيد مرارًا إلى أن “السنّة في العالم العربي باتوا يُعامَلون بوصفهم الأكثرية التي يجب تطويقها، لا الأكثرية التي يجب تمثيلها بعدالة”، فإن التعامل مع السُّنّة ضمن هذا الفهم، قد يُعيد إنتاج الإقصاء في ثوب جديد.
الخطورة لا تكمن فقط في تأويل خطوة دمج المؤسسة الدينية السنية ضمن الدولة، بل في تداعياتها بعيدة المدى على السلم الأهلي وثقة المواطنين بمشروع الدولة الجديدة. ففي الوقت الذي تتحرر فيه المرجعيات الطائفية والدينية الأخرى، وتعيد بناء حضورها الرمزي والاجتماعي باستقلال نسبي، يُطلب من الأغلبية السنية – وهي التي دفعت الثمن الأكبر في مواجهة النظام – أن تُسلّم خطابها الديني للدولة، دون ضمانات واضحة لاستقلاله.
تتفاقم هذه المفارقة حين يُنظر إلى الدولة الوليدة، لا بوصفها دولة وطنية جامعة، بل كـ “دولة سنية محافظة”، وهي تسمية لا تخلو من التبسيط السياسي والخطورة الرمزية. فبدل أن تكون الدولة مشروعًا يطمئن الجميع – على اختلاف طوائفهم وأديانهم – يُعاد إنتاج صورة معكوسة لدولة أيديولوجية، ولكن هذه المرة بلون مذهبي مختلف. وهنا مكمن الخلل: حين تُدرج الهوية الدينية للأغلبية السكانية ضمن بنية الدولة دون فصل واضح بين الديني والسياسي، تتحوّل الدولة من كيان يضمن التعدد، إلى طرف منحاز ضمن التعدد.
إن أخطر ما يمكن أن يقع بعد سقوط “دولة الأبد الأسدي” هو أن تنشأ، من دون قصد، دولة جديدة تقوم على أساس أكثرية دينية ممأسسة، لا على مبدأ المواطنة والتعدد والحياد. فحين يشعر باقي المكونات أن الدولة صارت مرآة للأغلبية فقط، تنكسر ثقة الجماعة الوطنية، ويتحوّل الدين إلى أداة انقسام لا وعي جمعي. وعوض أن يكون الدين ضميرًا عامًا فوق السياسة، يُختزل في مؤسسة رسمية، ويُستخدم لترسيخ شرعية جديدة، لا تختلف في بنيتها العميقة عن النظام القديم، وإن اختلفت لغتها وشعاراتها.
ما تحتاجه سوريا اليوم ليس توحيد المرجعيات الدينية بالقسر، بل بناء عقد اجتماعي يعترف بتعدد المرجعيات مع حفظ وحدة الدولة. التوحيد لا يعني الإلحاق، كما أن التنظيم لا يبرر التمييز. وحده التكافؤ في التعامل مع الجميع كأطراف في بناء سوريا الجديدة، هو ما يمنع إعادة تدوير أشكال غير مرئية من الإقصاء، ويضمن أن تكون المؤسسة الدينية – السنية وغيرها – شريكة لا تابعة.
خاتمة: المجلس يغيب… لكن الأسئلة تبقى
حلّ المجلس الإسلامي السوري لا يعني فقط غياب هيئة دينية مستقلة، بل اختفاء أحد الرموز النادرة التي جسّدت خلال سنوات الثورة فكرة أن الدين يمكن أن يكون صوتًا حرًّا، لا بوقًا للسلطة ولا مجرد أداة للتمرد.
ومع انتهاء هذه التجربة، تُفتح أمام سوريا الجديدة أسئلة لم تعد تقنية أو مؤسسية، بل تتعلق بجوهر الدولة نفسها: هل ستتعامل مع الدين بوصفه ضميرًا أخلاقيًا عاما فوق السياسة ولعبة التجاذب؟ أم أنها ستعيده إلى موقع الخضوع، خشية من قدرته على التأثير؟
إن ما جرى لا يُقرأ فقط في دوائر العلماء أو طلاب الشريعة، بل في كل بيت سوري يتساءل: من يُفتينا بعد الآن؟ من يُذكّر السلطة إن أخطأت؟ ومن يُمثّل هذا المجتمع الذي يعدّ الإيمان جزءًا من هويته وثقافته قبل أي شيء آخر؟
ربما تنجح الدولة في توحيد المرجعيات، وتنظيم المؤسسات، واستيعاب الأصوات. لكن إن لم تُحفظ مساحة الاستقلال، وإن لم يُصن ضمير العلماء، فإن خسارة المجلس لن تكون رمزية فقط، بل إيذانًا بانكماش أوسع في المجال الديني والاجتماعي على حدّ سواء.
لقد أثبت التاريخ، في سوريا وخارجها، أن الدين لا يصمت إلى الأبد. فإن مُنع من أن يُقال داخل المؤسسات، سيُقال في الهامش. وإن خُنق في الخطبة، سيتسلل إلى المجالس، والكتابات، والمنصات. والمجتمع الذي لا يثق بمؤسسته الدينية الرسمية، سيبحث عن بدائل قد تكون أقل عقلانية، وأشدّ تطرفًا.
لهذا، فإن المسؤولية لا تقع على العلماء وحدهم، بل على الدولة والمجتمع معًا: أن يؤسّسوا لعلاقة جديدة، لا تُقصي، ولا تُؤمّم، بل تُشارك. علاقة تفتح الباب لمرجعيات مستقلة، لا مروّضة؛ تُصلح، لا تُوظّف.
المجلس قد رحل، لكن الأسئلة باقية. والجواب سيكون مقياسًا لما إذا كانت سوريا القادمة دولة لكل مواطنيها، أم نسخة ناعمة من الماضي… بحلّة جديدة.
ربما تنظر السلطة السورية الجديدة إلى هذه الخطوة باعتبارها إعادة ضبط للمشهد، ومنعًا للازدواجية، وبحثًا عن وحدة المرجعية. لكن التجربة التاريخية – من الأمويين إلى العثمانيين، ومن البعث إلى ما بعد الثورة – تشير إلى أن تأميم الدين لا يوحّد المجتمع، بل يُقصيه ويحرّكه في الظل.
المطلوب ليس التخلّي عن التنظيم، بل قبول نوع من الاستقلال التشاركي للمؤسسة الدينية. أن تكون هذه المؤسسة شريكًا نقديًا، ضميرًا حيًا، لا تابعًا إداريًا. أن تحتفظ بحق السؤال، لا أن تردّد الجواب نفسه في كل خطبة.
حلّ المجلس الإسلامي السوري، في غياب أي بديل مستقل أو شبه مستقل، يُعد خسارة لصوت الإصلاح الداخلي. والتاريخ علمنا أن الصوت الذي يُقصى لا يصمت، بل يتحوّل، غالبًا، إلى خطاب من خارج المنظومة… وأحيانًا ضدها.