في سابقة هي الأولى من نوعها منذ تشكيل “الحشد الشعبي” في العراق ومنذ إصدار قانونه من البرلمان عام 2016، لم يتسلم منتسبوه رواتبهم لشهر حزيران/ يونيو الماضي بعد أن امتنعت شركة (كي كارد) المتعاقدة مع شركة ماستر كارد العالمية عن صرف الرواتب إثر حديث عن ضغوط أميركية على الحكومة العراقية.
لم يكن تجميد رواتب مقاتلي “الحشد الشعبي” مجرّد خللٍ إداري عابر؛ بل إنّه تحوّل في ساعةٍ واحدة إلى أخطر إنذارٍ تتلقّاه المؤسسة التي وُلدت من رحم “فتوى الجهاد الكفائي” قبل أكثر من عقد. فالآلاف من المقاتلين الذين اعتادوا رؤية رسائل “كي كارد” منتصف كلّ شهر، وجدوا حساباتهم صفرًا بعد بيان مقتضب يُحيل سبب التوقّف إلى “اعتبارات مصرفية وضغوط دولية”.
وفي الكواليس، أخذت الأنظار تتجه إلى واشنطن التي عادت إدارتها الجديدة إلى البيت الأبيض وهي تحمل شعارًا مفاده: “يجب إنهاء السلاح خارج سلطة الدولة”، ولو اقتضى الأمر إغلاق صنبور الرواتب أولًا.
وفوجئ منتسبو الحشد الشعبي، للمرة الأولى منذ تأسيسه، بتوقّف رواتب حزيران/يونيو بعد أن امتنعت المصارف وشركتا «ماستر كارد» و«فيزا» عن صرفها، ما أثار موجة استياء واسعة في صفوفهم.
عضو اللجنة المالية النيابية، معين الكاظمي، حمّل الولايات المتحدة مسؤولية “ضغوط سياسية واقتصادية” مورست على الحكومة والبنك المركزي والمصارف العراقية، شملت – على حدّ قوله – شركات البطاقات الإلكترونية، فتسبّبت بتجميد المدفوعات.
وعلى الرغم من أنّ الرواتب تُصرف عادةً بين 20 و25 من كل شهر عبر مصرف الرافدين وشركة “كي كارد”، تأخّر صرفها عشرة أيام، في وقت تُجري فيه حكومة بغداد ووزارة المالية محاولات لتحويلها عبر مصارف أهلية لتفادي القيود الأميركية.
أعداد مقاتلي الحشد الشعبي
لا توجد إحصائية دقيقة لعدد مقاتلي الحشد الشعبي، فالأرقام السابقة كانت تتراوح ما بين 150- 160 ألف مقاتل، بيد أن نوابًا في البرلمان العراقي كشفوا عن تضخم أعداد الحشد بصورة كبيرة مع زيادة كبيرة في الميزانية المالية المخصصة لهم سنويا من الموازنة العامة للدولة.
من جهته، كشف النائب المستقل بالبرلمان سجاد سالم مؤخرًا عن زيادة مفاجئة في أعداد منتسبي الحشد تصل إلى عشرات الآلاف، مبينا أنه في عام 2014 تطوع العراقيون للانضمام إلى الحشد الشعبي حيث كانت هناك حرب ضد تنظيم داعش ووصل عددهم في حينها لنحو 60 ألف متطوع.
وتابع سالم أنه وبحلول عام 2021 كانت اعداد الحشد تناهز 100 ألف مقاتل، ثم 236 ألف مقاتل في عام 2023، متسائلا عن الزيادة التي تقدر بنحو 136 ألف مقاتل خلال عامين فقط، فيما أشار في الوقت ذاته إلى ارتفاع الموازنة المخصصة لهيئة الحشد من واحد تريليون دينار عراقي (الدولار يساوي 1320 ديناراً عراقياً وفقاً للسعر الرسمي) إلى ثلاثة تريليونات دينار.
في السياق ذاته، يضم الحشد الشعبي قرابة 67 فصيلًا مسلحًا يدين معظمهم بالولاء لإيران، حيث تشكل كتائب حزب الله العراقي وعصائب أهل الحق وبدر وسرايا السلام والنجباء وكتائب الإمام علي العمود الفقري للحشد فيما تبلغ نسبة المقاتلين الشيعة في صفوف الحشد نحو 85% من مجموعه إضافة إلى بضعة آلاف من المقاتلين السنة المحسوبين على الحشود العشائرية التي تتبع الحشد الشعبي أيضا.
ولا تخفي قيادات بارزة في الحشد الشعبي وجود مشكلة هيكلية فيه حاله حال الوزارات العراقية الأخرى، فضلًا عن وجود شبهات فساد فيما يتعلق بأعداد مقاتليه والموازنات المالية المخصصة له، وهو ما يؤكده رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، وفق قوله.
أزمة الوراتب واحتمالية الدمج
مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للبيت الأبيض، تكثفت ضغوط واشنطن على الحكومة العراقية من أجل حلّ الحشد الشعبي ودمج مقاتليه في المؤسسات الأخرى ونزع سلاحه وتسليمه للأجهزة الأمنية العراقية، وهو ما أكده إبراهيم الصميدعي مستشار رئيس الوزراء العراقي بالقول “في منتصف كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أن واشنطن دعت الحكومة العراقية لتفكيك الفصائل المسلحة بنفسها أو أن الأمر سيتم بالقوة”.
ومع استمرار مشكلة عدم صرف رواتب الحشد بعد قرابة 15 يومًا على إيقافها، قال معن الجبوري الذي عمل سابقًا مستشارًا في وزارة الدفاع العراقية “ثمة ضغط أمريكي وآخر محلي على الحكومة العراقية بخصوص الحشد الشعبي بشكل عام، ورواتبهم تحديدا، كونها الأداة التي من خلالها يستمر هذا الفصيل أو ذاك”.
وتابع الجبوري أن هناك فصائل مسلحة ضمن الحشد الشعبي هي المستهدفة من هذا الإجراء الأمريكي المتمثل بإيقاف صرف الرواتب، كما حصل مع حزب الله اللبناني، وبالمحصلة فإن واشنطن تضغط على الحكومة وتستهدف الفصائل القريبة من إيران، وأن عدد هؤلاء لا يمكن حصره داخل قوات الحشد الشعبي، حيث يوجد عشرات الآلاف من الأسماء الوهمية، وبالتالي القيادات تستلم رواتبهم.
كما أضاف الجبوري أن رؤية واشنطن تتمثل في أن أفراد ومنتسبي الحشد الشعبي غير معرّفين وأن أعدادهم غير معلومة على وجه الدقة، وهو ما تؤكده واشنطن في أن جزء من رواتب الحشد تذهب إلى جهات أخرى تضعها الولايات المتحدة على لوائح الإرهاب.
واختتم حديثه بالإشارة إلى أن المشكلة لا تتعلق بمصرف الرافدين وشركة “كي كارد” حيث تسعى بعض الأطراف لاستبدالهما بمصارف خاصة، مبينا أن المشكلة ترتبط في أصل وجود فصائل الحشد الشعبي وامتلاكهم السلاح خارج سلطة الدولة، حيث تسعى واشنطن لتحويل معظم أفراد الحشد إلى مؤسسات الدولة الأمنية أو غيرها من المؤسسات المدنية لمن يمتلك شهادة أكاديمية، فيما يُحال كبار السن إلى التقاعد، وفق قوله.
من جهته، يقول الباحث في الشأن السياسي رياض العلي أن هناك مشكلة حقيقة تواجهها الحكومة العراقية تتمثل في أن لجوءها لأي مصارف خاصة لصرف رواتب الحشد قد يعرض البنك المركزي العراقي ووزارة المالية الاتحادية لاحتمالية تعرضهما لعقوبات مالية أميركية أو لجوء واشنطن لتقنين إيصال الدولار الى العراق، حيث تتحكم واشنطن بواردات النفط العراقي التي توضع في الفدرالي الأميركي.
وفي حديثه لـ “نون بوست”، أوضح العلي أن رواتب مقاتلي الحشد لا تزال معلقة حتى الآن رغم إعلان جهات في الحشد وفي تحالف الإطار التنسيقي عن صرف جزء منها عن طريق مصارف خاصة، مبينا أن الضغوط الأميركية الحالية تبدو متصاعدة وغير قابلة للتفاوض، لا سيما بعد تراجع دور المحور الإيراني في الشرق الأوسط بعد انكفاء حزب الله اللبناني والهجوم الإسرائيلي- الأميركي على إيران وتدمير المنشآت النووية الإيرانية.
وعن احتمالية تفكيك الحشد الشعبي ودمج مقاتليه ضمن المؤسسات الرسمية العراقية المدنية منها والعسكرية، أوضح العلي أنه من المستبعد أن تتمكن حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني من فعل ذلك، خاصة أن هذه الفصائل تمتلك السلاح ومواقع مهمة ضمن المنظومة الامنية، إضافة إلى ما ستتسبب به هذه الخطوة من كشف عشرات الآلاف من المقاتلين الوهميين الذين أدرجت أسماؤهم في الحشد دون وجودهم فعليا على أرض الواقع.
وأكد استحالة إقدام الحكومة الحالية على هذه الخطوة بسبب وجود أحزاب وكتل سياسية شيعية تدعم الحشد بقوة فضلا عن التموضع الإيراني الذي لا يزال حاضرًا في العراق حتى الآن رغم تراجع دور طهران في بقية مناطق الشرق الأوسط كما في لبنان وسوريا.
وبالتالي، يرى العلي أن هناك احتمالية كبيرة لتعرض العراق لمزيد من الضغوط الاقتصادية وحتى العسكرية في حال لم تنفذ الحكومة العراقية مطالب واشنطن التي يبدو أنها مصرة على تنفيذها هذه المرة وخلال فترة زمنية لا تتجاوز الأشهر القليلة القادمة، مبينا أن الحكومة تدرك خطورة الوضع الحالي، لا سيما مع قرب الانتخابات التشريعية المقبلة التي من المقرر عقدها في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم وما تشهده الساحة السياسية العراقية من تجاذبات كبيرة وصلت حد التخوين.
ويذهب في هذا المنحى السياسي العراقي ومحافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي الذي قال في منشور له على “منصة X” إن إشكاليات صرف رواتب الحشد الشعبي تعني بداية عملية التفكيك والدمج التي يمكن أن نترقبها قبل موعد الانتخابات القادمة.
وتابع النجيفي أن جميع البدائل التي يتحدثون عنها مثل إنشاء منصات بديلة لتوزيع الرواتب أو التوزيع النقدي المؤقت ما هي إلا محاولات غير منطقية، حيث أن المنصات البديلة ومن يمول تلك المنصات كوزارة المالية أو البنك المركزي العراقي ستكون بدورها مهددة بالعقوبات الامريكية.
وأشار النجيفي إلى أن الحل الوحيد يكمن في تفكيك الفصائل واستبعاد الأشخاص المشمولين بالعقوبات ودمج الباقي بمنظومتي الجيش والشرطة كأفراد وليس كمجموعات وفصائل، لافتا إلى أن هذه العملية ستمضي سريعًا وتتزامن مع الانتخابات القادمة، وأن الحكومة العراقية تدرك هذا السيناريو، بيد أنها تفضل السكوت حتى يقتنع قادة الفصائل أن هذا هو الحل الافضل والأسلم، وفق قوله.
اشكاليات صرف رواتب الحشد الشعبي تعني انها بداية عملية التفكيك والدمج التي يمكن ان نترقبها قبل موعد الانتخابات القادمة .. فكل البدائل التي يتحدثون عنها مثل انشاء منصات بديلة لتوزيع الرواتب او التوزيع النقدي المؤقت .. كلها محاولات غير منطقية لان المنصات البديلة ومن يمول تلك المنصات…
— Athil Alnujaifi (@AthilAlnujaifi) July 5, 2025
تعقيدات كبيرة يشهدها الملف العراقي أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا في بلد لا يزال تحت الوصاية الأميركية وتعبث به سياسات ونفوذ دولة إقليمية سلبت إرادته السياسية وجعلته عرضة لمزيد من الضغوط والعقوبات الأميركية.