خلال مشاركتي في “المؤتمر الترويجي لمعرض الصين الدولي للاستيراد” في نسخته السابعة، الذي عٌقد في فندق فورسيزون بالقاهرة، الثلاثاء 23 أبريل/نيسان 2024 بناء على دعوة من سفارة الصين بالعاصمة المصرية، وقف نائب رئيس الغرفة التجارية المصرية، شريف يحيى، معلنًا أن المنطقة الاقتصادية لقناة السويس باتت وبشكل رسمي بوابة رئيسية لنفاذ الاستثمارات الصينية إلى العديد من دول العالم.
وأوضح حينها أن الصين في السنوات الأخيرة بدأت تغير نظرتها للسوق المصري، كونه الجسر الأهم للعبور نحو السوق الأفريقي الذي تنظر إليه بكين نظرة ثلاثية، اقتصادية سياسية أمنية، خاصة بعد التصعيد الذي خيّم على التنافس الاقتصادي الأمريكي – الصيني والذي انتقل من معركة الدبلوماسية الناعمة إلى حرب – لا عسكرية- خشنة.
بعد هذا المؤتمر بأقل من عام، وفي مارس/آذار 2025 خرج نائب رئيس مجلس الأعمال المصري الصيني بجمعية رجال الأعمال المصريين، مصطفى إبراهيم، بتصريحات مثيرة للجدل، حين قال إن الجمعية استقبلت وفود من الصين خلال الفترة الماضية – بمعدل وفد كل أسبوعين تقريبا- لدراسة إنشاء استثمارات صينية في مصر أو التوسع في مشروعات قائمة.
ومنذ بداية عام 2025 تجاوزت عدد الشركات الصينية التي بدأت مشروعات لها في مصر حاجز الـ 300 شركة، وسط تنبؤات بزيادة هذا الرقم لأضعاف بنهاية العام، في ظل التوجه الصيني الأخير بتكثيف التواجد في السوق المصري، وفي كافة المجالات، لتٌرسخ بكين مكانتها كأكبر شريك تجاري مع القاهرة، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو ٣٠ مليار دولار عام ٢٠٢٣.
تنامي الاستثمارات الصينية في مصر، رغم أنها خطوة مهمة في إنعاش الاقتصاد الوطني الذي يعاني أزمات خانقة خلال العشرية الأخيرة، لكنها أثارت الكثير من المخاوف لدى البعض، إذ أن الأمر بهذه الطريقة المعلن عنها وتلك القفزات المتسارعة في التوسع الاستثماري في الداخل المصري، يتجاوز فكرة المكاسب المادية السريعة والضيقة، ليحمل بين ثناياه العديد من المخاطر التي تهدد الدولة المصرية، اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا..
استثمارات لوجستية
منذ الوهلة الأولى لاستطلاع خارطة الاستثمارات الصينية في مصر يٌلاحظ أنها تمتد عبر مواقع استراتيجية متعددة، أبرزها وأكثرها أهمية المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، كنز الاستثمار الذي يٌسيل لُعاب القوى الإقليمية والدولية، لما ينطوي على تلك المنطقة اللوجستية، جغرافيًا، من قيمة كبيرة تضع المستثمرون في قلب خارطة الاستثمار العالمي.
واستحوذت الصين وحدها على 40% من المشروعات الاستثمارية التي نجحت المنطقة الاقتصادية لقناة السويس في جذبها خلال العامين الماضيين، والبالغة نحو 128 مشروعًا، بقيمة بلغت 6 مليارات دولار، كما أبرمت بكين نهاية 2023 اتفاقيات مستقبلية في منطقة “تيدا” الصناعية بمحور القناة تقدر بنحو 15.5 مليار دولار.
وتشير التقديرات إلى وجود نحو 2066 شركة صينية في مصر تعمل بقطاعات متنوعة تقدر استثماراتها نحو 8 مليارات دولار، فيما بلغت الواردات الصينية لمصر قرابة 17 مليار دولار سنويًا مقارنة بـ 500 مليون دولار إجمالي الصادرات المصرية للصين في ميل واضح للميزان التجاري لصالح الصينيين بنسب تتجاوز 30 ضعفًا.
ومن قناة السويس والتبادل التجاري إلى الزراعة حيث هناك تحالف مصري صيني لزراعة مليون فدان باستثمارات 7 مليارات دولار، ومنها إلى العلمين شمالا حيث تمول بكين وتبني البرج المعروف باسم “البرج الأيقوني” في العاصمة الإدارية الجديدة بمصر من خلال قرض قيمته 3 مليارات دولار عبر شركة “سيسك” الصينية.
وعن أهم 10 سلع استوردتها مصر من الصين خلال عام 2022، فجاءت الأجهزة الكهربائية في المقدمة بـ 2.6 مليار دولار، تلتها مراجل وآلات وأجهزة وأدوات آلية بقيمة 1.9 مليار دولار، ثم شعيرات تركيبية أو اصطناعية بقيمة 976.7 مليون دولار ثم لدائن ومصنوعاتها بقيمة 914.3 مليون دولار، ثم منتجات كيميائية عضوية بقيمة 868.5 مليون دولار، ثم سيارات وجرارات ودراجات بقيمة 554.3 مليون دولار، ثم حديد وصلب بقيمة 533.1 مليون دولار، ثم مصنوعات من حديد أو صلب بقيمة 432.7 مليون دولار، ثم ألياف تركيبية أو اصطناعية 428.7 مليون دولار، ثم أقمشة بقيمة 397 مليون دولار.
وفي المقابل جاء الوقود والزيوت المعدنية على رأس أهم عشر مجموعات سلعية صدرتها مصر إلى الصين خلال نفس الفترة بـ 1.3 مليار دولار، ثم القطن بقيمة 104.3 مليون دولار، ثم الفواكه بقيمة 76.8 مليون دولار، ثم الأغذية المحضرة للحيوانات بقيمة 62.3 مليون دولار، ثم الألياف النسيجية بقيمة 31.4 مليون دولار، ثم الجلود بقيمة 19.5 مليون دولار، ثم النحاس ومصنوعاته بقيمة 17 مليون دولار، ثم الألومنيوم ومصنوعاته بقيمة 15.5 مليون دولار، ثم المصنوعات من الحجر بقيمة 11.1 مليون دولار، ثم الأسمدة بقيمة 8.2 مليون دولار.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023 وافقت الصين على برنامج استثنائي استحدثته مؤخرًا مع بعض الأسواق الخارجية خاصة في أفريقيا، هذا البرنامج يتضمن مبادلة الديون المستحقة على تلك الدول بمشروعات تنموية بداخلها، وقد أبرمت بكين اتفاقًا رسميًا مع القاهرة بخصوص هذا الشأن، تحويل الديون إلى مشروعات واستثمارات بجانب الاستحواذ على بعض الأصول المملوكة للدولة، علمًا بأن الديون الصينية لدى مصر تتجاوز 9.4 مليار دولار بنهاية 2023/2024.
لماذا السوق المصري تحديدًا؟
لم يكن اختيار الصينيين لمصر كبؤرة استثمار إقليمي اختيارًا عشوائيًا، فالعقلية الصينية لا تتحرك إلا وفق دراسات جدوى وتقديرات تخدم على أجندتها التوسعية اقتصاديًا في صراع المنافسة على الاستحواذ على لقب “الاقتصاد الأكبر عالميًا، وعليه جاء السوق المصري ملبيًا لهذا التوجه الجديد من خلال مسارات ثلاثة:
الأول: مزايا السوق المصري الداخلية.. من حيث حجمه الاستهلاكي ( أكثر 114.5 مليون نسمة) وموقعه الاستراتيجي لاسيما في منطقة كالسويس تلك التي تعد أحد أهم ممرات التجارة العالمية، والامتيازات التنافسية للعمالة من حيث الجودة والمهارة والأجور، هذا بجانب التسهيلات التي تمنحها الحكومة المصرية للمستثمرين الأجانب، سواء في القروض والأراض الممنوحة أو في طريقة السداد والتخفيضات الضريبية.
الثاني: الهروب للأمام من معركة الرسوم الجمركية التي أشعلت الإدارة الأمريكية فتيلها مؤخرًا حين قفزت بالرسوم المفروضة على الصين لقرابة 145% قبل أن تخفضها مؤخرًا، تلك المعركة دفعت بكين للبحث عن أسواق ومسارات بديلة لهضم منتجاتها السنوية واحتواء خطوط الإنتاج التي لا تتوقف، وبالتالي كانت مصر اختيارًا لوجستيًا مهمًا.
الثالث: بوابة لتعزيز النفوذ داخل أفريقيا.. مصر هي الجسر الأكبر الذي تمر منه بكين نحو القارة الأفريقية، في ظل صراع النفوذ مع الولايات المتحدة في الاستحواذ على القارة السمراء وخيراتها ومواردها، حيث التزاحم بين البلدين الممتد لأكثر من 15 عامًا، كان التفوق فيها للصينيين بنسب كبيرة.
ويُقدّر حجم التجارة بين الصين وأفريقيا بـ282,1 مليار دولار عام 2023، بزيادة نسبتها 1,5% على أساس سنوي، كما تُعتبر أكبر شريك تجاري للقارة الأفريقية، إذ تجاوز حجم التجارة الثنائية 166,6 مليار دولار في النصف الأول من عام 2024، فيما تسابق بكين الزمن لتعميق تغلغها داخل القارة، مستفيدة من الثروات الطبيعية والمواد الخام التي تضع القارة على رأس أكبر قارات العالم امتلاكا للثروات والمعادن النفيسة اللوجستية،
ومن ثم تحاول الصين استثمار حجم ديونها على الدول الأفريقية والتي تتجاوز 120 مليار دولار، من خلال توسعة حضورها الاستثماري في القطاعات اللوجستية المحورية، المعادن والتكنولوجيا والطاقة والبنية التحتية، إذ أبدت بكين استعدادها أكثر من مرة لتمويل مشاريع داخل القارة السمراء بقيمة 50 مليار دولار خلال السنوات الثلاثة المقبلة.
تنامي النفوذ الصيني.. مخاوف مشروعة
إلى جانب الامتيازات الاقتصادية الناجمة عن الاستثمارات الصينية في مصر، إلا أن التنامي في هذا المسار، رأسيًا عبر التوغل في قطاعات بعينها بشكل لافت، وأفقيًا من خلال التوسع في معظم المجالات، يحمل الكثير من المخاوف، الأمر الذي دفع الكثيرين للمطالبة بوضع الاستثمارات الصينية تحت ميكروسكوب التقييم مرة أخرى وفق معايير أكثر انفتاحًا وشمولية:
تحويل مصر لسوق استهلاكي.. هناك تخوف من تعامل الصين مع مصر كتعاملها مع الولايات المتحدة وأسواق أسيا، حيث إغراق تلك الأسواق ببضائعها التي تلبي كافة الاحتياجات، وبأسعار أرخص بكثير من نظيراتها الوطنية في تلك البلدان، الأمر الذي يحول اقتصاديات تلك الدول إلى أسواق استهلاكية لاستيعاب المنتج الصيني.
وفي المقابل يتعرض المنتج الوطني لصدمة مدوية تٌخرجه بعيدًا عن ساحة المنافسة بشكل كبير، خاصة في ظل فوارق الإمكانيات بين التنين الصيني ومصر على سبيل المثال، حيث يدخل الصينيون السوق المصري بتقنيات متقدمة وأدوات إنتاجية متطورة وتمويل ذاتي وهي الشروط المواتية لتحقيق انتشار اقتصادي كبير تمنح المنتج الصيني الأفضلية، مستفيدًا من السوق الجماهيري المصري العريض الذي يعد الأكبر في الشرق الأوسط.
ومن ثم وفي حال المضي قدمًا في هذا المسار دون تقنين أو إعادة ضبط وفق آليات واستراتيجيات تجعل من تلك الاستثمارات شراكة اقتصادية لا أسواق استهلاكية، فإنه في غضون سنوات عدة ستخرج مصر عن معادلة الاقتصاد الإقليمي بشكل حرج، وتتحول إلى مجرد سوق لا أكثر، وهو ما سيزيد وضعها تأزمًا في ظل التنافس الاقتصادي المحموم بين دول المنطقة والبحث عن موطئ قدم في خارطة الاقتصاد الذي لا يحترم إلا الأقوياء.
الإضرار بالصناعات المصرية.. يقول علماء الاقتصاد إن كل منتج يتم استيراده من الخارج يقضي على فرصة وطنية داخلية، ويهدد صناعة محلية، ويقوض النمو الوطني، ويزيد من معدلات البطالة والتضخم، وفي الحالة الصينية فالوضع مقلق، فبحسب الأرقام فهناك فجوة كبيرة في الميزان التجاري بين البلدين، فبينما تستورد مصر من الصين بقيمة 17 مليار دولار سنويًا لا يتجاوز حجم صادراتها حاجز الـ 500 مليون دولار، بما يعني أن كل دولار تدفعه الصين لمصر جراء استيراد سلعة مصرية تعوضه 30 دولارًا صادرات للسوق المصري.
وخلال الآونة الأخيرة رصد اقتصاديون ورجال أعمال تراجعا لافتا في منظومة بعض الصناعات المحلية مثل المنسوجات والأثاث بسبب الاعتماد على المنتج الصيني، الأرخص سعرًا، والأسرع في التنفيذ، مما يجعل من المنافسة مع الشركات الصينية مسألة صعبة، والفجوة بين الطرفين بعيدة للغاية.
كما لوحظ كذلك استفادة المصانع الصينية من المواد الخام المصرية، حيث يتم شراءها بأسعار زهيدة للغاية، ثم تورد للصين ليُعاد تصنيعها ثم إعادتها للسوق المصري في صورة سلع ومنتجات بأسعار مرتفعة، وهو ما حدث مع القطن والأخشاب وبعض المواد الخام من المعادن والثروات التعدينية.
وكانت غرفة صناعة الأخشاب التابعة للغرفة التجارية المصرية قد أبدت تخوفاتها أكثر من مرة من مزاحمة الاستثمارات الصينية للمنتج المصري في مجال الأخشاب والأثاث، إذ إن هذه المصانع تمتاز بأنها كثيفة الإنتاج وتعتمد على أخشاب ذات جودة ضعيفة، ومن ثم أسعار أقل نسبيًا من نظيراتها المصرية، بما يمنحها التفوق والإقبال عليها.
وبحسب شهادات خمسة من أصحاب الورش المتخصصة في صناعة الأثاث في مصر، فإن المنتج الصيني رغم قلة جودته – مقارنة بنظيره المصري، لكنه يحظى بقبول شعبي في السوق المحلي، حيث يلعب على وتر السعر الذي يمثل معيار التفضيل الأكبر لدى قطاع كبير من المصريين.
وأوضحوا أنه مع ارتفاع أسعار الخشب جراء قفزات الدولار الجنونية شهدت أسعار الأثاث طفرات هائلة فاقت في كثير منها قدرات الشريحة الأكبر من المصريين، وعليه شهدت الصناعات المحلية عزوفًا نسبيًا من المستهلك المصري الذي وجد في المنتج الصيني الرخيص ضالته، ومن ثم بدأ التحول أكثر نحو التصدير، غير أن العائد لم يكن على المستوى المأمول، ما دفع كثير من الصنايعية لترك عملهم ومصانع وورش عدة أغلقت أو غيرت نشاطها.
ويحذر أصحاب الورش الصناعية في حديثهم لـ “نون بوست” من تداعيات هذا المسار، على مستقبل الصناعات الوطنية التي تمثل عصب الاقتصاد المصري وأحد أهم ركائزه كالمنسوجات والأثاث، فضلا عن ارتداداته العكسية على معدلات البطالة بين الشباب وتفاقم معدلات التضخم وهو ما يهدد الاقتصاد الوطني على المدى البعيد، فغياب المنافسة هناك معول هدم واجب التصدي له على حد قولهم.
توتير العلاقات مع الولايات المتحدة.. تنامي النفوذ الاقتصادي الصيني في مصر كبوابة لترسيخ حضورها في أفريقيا ربما يضع القاهرة في مواجهة ما مع واشنطن الساعية هي الأخرى لتعزيز نفوذها داخل القارة السمراء، وهو ما قد يكون له تداعياته على العلاقات بين الحليفين، ليس على المستوى الاقتصادي وفقط.
وتنظر الولايات المتحدة في الغالب لأي تحركات صينية في أفريقيا نظرة ريبة وقلق في ظل صراع النفوذ بين القوتين، ومساعي كل منهما للهيمنة على نصيب الأسد من موارد القارة وثرواتها التعدينية التي تذهب كافة التقديرات أنها ستكون لاعبًا أساسيًا في حسم الصراع التكنولوجي مستقبلا، لما تمتلكه من معادن استراتيجية نفيسة.
ومن ثم فإن أي ساحة من المرجح أن تستغلها بكين لتعزيز نفوذها الإفريقي من المحتمل أن تكون مسرح مواجهة مع واشنطن التي لن تترك الصينيين يلعبون فيها بأريحية مطلقة، وهو ما أثار مخاوف البعض من الهرولة الصينية لتعميق حضورها في معظم مفاصل الدولة المصرية وفي قطاعاتها اللوجستية.
محصلة لما سبق.. قد يكون الاستثمار الصيني حلمًا وهدفًا لمخططي الاقتصاد في مصر، وفي أي دولة في العالم، كونه مطلبًا جماهيريًا ونخبويًا، نظرًا لتداعياته وامتيازاته الجيدة، لكنه الاستثمار المشروط ببنية تحتية وقدرة ومرونة على تحويله إلى شراكة اقتصادية لا تبعية، وأن يتم توظيفه بما يخدم الصناعات الوطنية لا أن يقضي عليها، وأن يكون دفعة نحو التقدم والنهوض لا أن تتحول الدولة إلى سوق كبير للبضائع الصينية، وهي المعادلة التي تحتاج لإعادة نظر وتقييم مختلف وفق معايير مغايرة تمامًا.