ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ أن غادرتُ سوريا في سنة 2011، حظيتُ بفرصة السفر حول العالم، أولًا كطالب في مجال الهندسة المعمارية، ثم كأكاديمي وباحث. قادني عملي إلى برلين لدراسة تاريخ مدينةٍ مقسّمة، وإلى كوفنتري لبحث جهود إعادة الإعمار بعد الحرب.
ووُجّهت إليّ دعوات لإلقاء محاضرات في المكسيك والولايات المتحدة واليونان وفرنسا وأرمينيا والمغرب وقطر ومصر. لكن كان هناك مكان واحد لم أستطع الذهاب إليه، الوطن.
وفي كل مرة أكون فيها على متن طائرة تقترب من سوريا، أتابع خريطة الرحلة بحثًا عن لمحة من مدينتي، حمص، ويعتصر قلبي كلما رأيت مدى قرب المسافة. وكيف يمكن أن أكون قريبًا إلى هذا الحد من جغرافيا طفولتي، ومع ذلك عاجزة عن العودة؟
ظلت حمص حاضرة في ذهني حتى وأنا أعيش في راحة مدن عظيمة أخرى: باث، حيث أنجزتُ درجة الدكتوراه، ولندن، حيث عملت في شركة معمارية دولية، وأكسفورد، حيث أعمل حاليًا مُحاضرًا وباحثًا. لقد كان حضور حمص يلازمني يوميًا، وأتوق إلى أحيائها وسكانها. كنت أتابع حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي تنشر صورًا عن تراثها الثقافي وحياتها اليومية. وكنت أحدق في خرائط غوغل، وأقوم بتكبير صورة المدينة، وأذكر نفسي بشوارعها، وأمشي فيها افتراضيًا، وكأنني أسترجع زمنًا مفقودًا.
أحيانًا كانت الذكرى رقيقة، بل ومبهجة، وأحيانًا أخرى كانت كالسِّكين. من الصعب وصف الحزن الذي اجتاحني وأنا أشاهد بلدي يُدمَّر أمام عينيّ. فقد قُتل أكثر من نصف مليون إنسان بينما كنت أشاهد من بعيد، عبر هاتفي المحمول أو حاسوبي، عاجزًا عن التواجد مع أحبّائي في لحظات احتياجهم إليّ. إنه الشعور بالذنب المصاحب للحياة اليومية في المنفى، والذي يثقل كاهل ملايين اللاجئين حول العالم، ممن يعيشون ويموتون دون أن يُمنحوا حقّ العودة.
ثم، فجأة، في ديسمبر/ كانون الأول 2024، سقط نظام بشار الأسد، وانتهى عهد الديكتاتورية. وبعد بضعة أشهر، وجدت نفسي، أخيرًا، على متن طائرة متجهة إلى سوريا. لقد أصبح الحلم حقيقة. وبينما كنت أُحضّر حقائبي، أفكّر بكل من رحلوا عن الحياة، وجميع أولئك الذين ظلوا يعيشون في صمت تحت وطأة الاستبداد، وشعرت أن قلبي قد تحطّم إلى مليون شظية، وكنت أحاول أن ألمّ شتات نفسي المكسورة أيضًا. على متن الطائرة، تصفّحت الخيارات المتاحة على جهاز الأإستريو، واخترت ألبومًا لماكس ريختر بعنوان “إكزايلز”، وبدأت البكاء بينما كنت أستمع إليه.
لماذا غادرت؟ كنتُ الأول على دفعتي في قسم الهندسة المعمارية بجامعة حمص، فحصلت على منحة دراسية لمتابعة دراسة الماجستير والدكتوراه في المملكة المتحدة. وكان ذلك في ربيع سنة 2011، في الأشهر الأولى من الثورة، حين انتفض الشعب السوري ضد ديكتاتورية نظام الأسد.
وبينما كنت أجهّز أوراق سفري، كان الناس يهتفون في الشوارع طلبًا للحرية والعدالة والديمقراطية. وجاء قمع النظام وحشيًا، انتشرت الدبابات والقناصة في أنحاء المدينة، وقد قُتل أحد أصدقائي في شارعي لمجرد أنه شارك في مظاهرة سلمية.
عندما وصلت إلى المملكة المتحدة، كأي لاجئ أو شخص نازح قسرًا، كنت آمل أن تنتهي الحرب سريعًا. لكن سنة بعد سنة، بدت الحرب وكأنها تتخذ اتجاهات جديدة، مع تدخل قوى خارجية. وبدأت أتخيّل سوريا كطائر يطير بعيدًا عني، بينما أركض خلفه بأقصى ما أستطيع. ومرّت سنوات أخرى، وتحولت الثورة إلى حرب بلا ملامح، منسية.
وأصبح الألم والصدمة الفردية مجرد أرقام في الإحصاءات. وبينما كنت عالقًا في بلد أجنبي، كنت أرغب في أن أتفاعل مع ما جرى من تدمير لمدينتي وأماكن أخرى في بلدي. فبدأت أقرأ عن التاريخ المعماري لحمص، وأجري مقابلات مع من غادروا البلاد، ومع من بقوا فيها.
وفي هذه الروايات، وجدتُ سردًا مختلفًا عن سوريا، يرويه أولئك الذين كانوا في قلب ساحة المعركة، يعيشون في ما يُعرف بـ”عوالم الموت”. لقد تطوّرَت كتاباتي وأبحاثي لتُركّز على تدمير العمارة والمواقع التراثية الثقافية. ففي الحرب السورية، كما في غيرها، لا يُعدّ تدمير العمارة “ضررًا جانبيًا”، بل هو هدف بحد ذاته لِمَن يمارسون التدمير. وقد قلت بإن تدمير المعمار أصبح جزءًا من عقاب جماعي يُفرض على من يعارضون السلطة. فالمحو يتحوّل إلى أداة لتدمير هوية شعبٍ بأكمله، ولجعل عودة الناجين إلى أنقاضهم أمرًا بالغ الصعوبة.
وبدأتُ الكتابة عن حمص في المجلات الأكاديمية ووسائل الإعلام، وبعد بضع سنوات، حوّلت أبحاثي إلى كتاب بعنوان القتل المعماري: العمارة والحرب وتدمير المنزل في سوريا، والذي نُشر في سنة 2023.
ومنذ ذلك الحين، تم استخدام مفهوم “القتل المعماري” (مشتق من اللاتينية: “دوموس” وتعني المنزل، و”سايد” وتعني القتل) في سياقات جغرافية أخرى، مثل فلسطين؛ حيث تم تدمير أكثر من 90 بالمائة من الوحدات السكنية في غزة خلال أقل من سنتين.
لقد أدّى تدمير المنازل في حمص، وفي مناطق أخرى من سوريا، إلى تشريد ملايين الأشخاص. والسؤال الآن هو: إلى أين سيعود هؤلاء؟
لقد اعتدتُ مناقشة هذا الموضوع في سياقات نظرية، ضمن المؤتمرات والندوات والحوارات الأكاديمية. ومع تزايد الاهتمام بكتاباتي، تلقيت دعوات إلى مئات الفعاليات للحديث عن حمص وسوريا، والمشاركة في نقاشات حول “إعادة إعمار المدن” وموضوعات ذات صلة. وكانت هذه اللقاءات مجزية بحق، إذ أتاحت لي فرصة التعلّم من زملاء وباحثين من السودان وليبيا وفلسطين وأوكرانيا، ممن يدرسون حروبًا مختلفة، أحيانًا عبر أزمنة متعددة، والاقتراب من آلام الآخرين وربط نضالاتنا ببعضها البعض. من خلال هذا العمل، وجدت في المنفى شعورًا عميقًا بالمعنى والغاية. وكانت كلماتنا تُسمَع وتجد من يشعر بها، وكانت أقلامنا تقاوم الجرافات والطائرات المسيّرة، وتنتصر بتضامنها في وجه الديكتاتوريات والاحتلالات والاجتياحات.
ورغم كل ذلك، لم يكن شيء قادرًا على أن يجهزني فعليًا للعودة إلى حمص.
ومن الغريب أن يستيقظ الإنسان ذات يوم ليكتشف أن ديكتاتورية قد سقطت، فلطالما كتبتُ عن تدمير المنازل والمدن، ولم أكن أصدق أنني سأتمكن يومًا من العودة والسير بين أنقاض مدينتي. ومع ذلك، في أحد أيام هذه السنة، فجأة أصبح ذلك ممكنًا.
هبطت طائرتي في سوريا في 13 مارس/ آذار 2025 – بعد 13 سنة وثلاثة أشهر و24 يومًا من مغادرتي، وكان والداي في انتظاري في مطار دمشق يحملان باقة من الزهور. سأحتفظ بهذه الصورة في ذاكرتي إلى الأبد؛ حيث كانا قد قدما من حمص بسيارة أجرة، وكان السائق ينتظرنا على مسافة قريبة.
بينما كنا نغادر دمشق بالسيارة، بدأنا نرى أحياءً كاملة مهجورة ومُدمّرة. وعلى عكس حمص، لم يكن الدمار في دمشق في قلب المدينة، بل في ضواحيها. وعندما دخلنا إلى حمص، رأيت طفلين يقفزان داخل حاويات القمامة وخارجها، يبحثان عن مواد قابلة لإعادة التدوير والجمع. وكان كل شيء يبدو متقادمًا، وكأن المدينة بأسرها تحتاج إلى من يغسل عنها حزنها.
بالقرب من الجامعة كان هناك دوّار، كان يُعرف سابقًا بـ”ميدان الرئيس” نسبة إلى التمثال الذي يتوسطه لحافظ الأسد، والد بشار الأسد، الذي حكم سوريا من سنة 1971 حتى سنة 2000. لكن الرئيس لم يكن هناك بعد الآن، فقد أُزيل التمثال، وكتب أحدهم على قاعدته بالطلاء: “ميدان الحمار”. بينما بدأ آخرون يطلقون عليه اسم “ميدان الساروت”، نسبة إلى المُنشد والمعارض السوري الذي قُتل على يد قوات الأسد سنة 2019. أما الجامعة التي درستُ فيها، فقد تغير اسمها رسميًا من “جامعة البعث” – نسبة إلى حزب الأسد السياسي – إلى “جامعة حمص”، وكان التاريخ يُعاد كتابته لحظة بلحظة. وبينما كنا نمرّ بجانب الميدان – وسأدع لك حرية اختيار الاسم الذي تفضّله – أخذت أتفحّص الأكشاك الجديدة الممتدة على طول الشارع. كنت متشوقة للعودة إلى المنزل.
لم تكن الحرب ظاهرة فقط على المباني في هذا البلد المدمر، بل كانت واضحة أيضًا على الناس. في حياة والديّ، وفي وجهيهما وفي أعينهما وفي ملابسهما. لقد سلبت هذه الحرب الكثير من الكثيرين. أشعر بالذنب لأنني كنت بعيدا عنهما طوال هذه السنوات. كم أتمنى لو كان بإمكاني تعويضهما، لكن لا أحد يستطيع أن يعيدنا إلى الوراء. فما نملكه الآن هو المستقبل، ونحن نحاول استعادته.
وصلنا إلى شارعنا، وكان الأمر أشبه برحلة عبر الزمن، فشعرتُ أنني ألتقي بنفسي التي رحلت منذ سنوات. في الداخل، كان كل شيء كان كما تركته: نفس السجاد، نفس الأطباق، نفس الأرائك، نفس الطاولات، نفس الكتب، ولا تزال الثلاجة موجودة، والفرن أيضًا.
تنقلت بين الغرف، أجمع أغراضي القديمة؛ لم تعد لدي أي ملابس هنا، فقد كنتُ قد طلبتُ من أمي أن تتبرع بها لمن يحتاجونها في سنوات الحرب، وقد حوّلت عائلتي غرفتي إلى دكان؛ فقد كانوا بحاجة للاستعداد لأيام الحصار، فراحوا يخزّنون الزيتون والزيت والأرز والعلب الفارغة والزجاجات الفارغة والأكياس البلاستيكية الفارغة، وأي شيء قد يكون نافعًا.
زارني صديق في المنزل في تلك الليلة الأولى، واقترح أن يُريني المكان. كانت الساعة العاشرة مساءً، وكانت عائلتي قلقة بشأن خروجي في ذلك الوقت، وكنتُ قلقًا أيضًا. كان لدى صديقي دراجة كهربائية، فطلبتُ منه أن تقتصر جولتنا على الشوارع المجاورة، لكنه سرعان ما تجاوزها. كنتُ خائفًا جدًا وهو يجوب الأحياء المدمرة والمهجورة على دراجته، والتي بدت كمدن أشباح. توسلتُ إليه أن يعيدني إلى المنزل قائلًا له إنني بحاجة إلى بعض الوقت لأتأقلم مع المدينة وأفهمها من جديد.
وهكذا، شيئًا فشيئًا بدأت أعود إلى حمص، وكانت الأيام تمضي في نزهات – أحيانًا وحدي، وأحيانًا أخرى مع الأصدقاء، القدامى والجدد – التقطت صورًا لنفسي في المنزل مع والديّ، ووثّقت الطعام الذي أعدّاه لي، كما كنت أصوّر سابقًا المعالم والكنوز المعمارية التي ألهمتني خلال أسفاري. لقد أصبح المنزل متحفًا للذات المنفية، وبئرًا للحكايات التي كنت بحاجة إلى أن أعتز بها، والملاذ الذي تمنيت العودة إليه مرارًا وتكرارًا.

خرجت في أحد الأيام في نزهة مع صديق تعرفت عليه خلال سنوات إقامتي في الخارج، لم نلتق قبلها وجهًا لوجه سوى مرة واحدة فقط في إسطنبول؛ حيث كان يعيش مع عائلته، لكن صداقتنا تعمقت عبر الإنترنت. التقينا هذه المرة في حمص، وسألته عن مدة إقامته، فأخبرني أنه نقل كل شيء من إسطنبول واستقر هنا مجددًا، ثم ذهبنا معًا إلى المدينة القديمة، وزرنا جامع النوري، الذي طُلي باللون الأبيض قبل الحرب، مما غطّى واجهته الحجرية الأصلية. في عام 2020، أُزيل الطلاء أثناء أعمال الترميم التي قامت بها دائرة الآثار والمتاحف في حمص، مما أظهر جمال الحجارة السوداء التي تميز الطابع المعماري لحمص، كما كُشف عن الأعمدة والكتابات البيزنطية على قواعدها.
كان ذلك في شهر رمضان، وكان الناس صائمين، وكان الرجال داخل الجامع يستريحون أو ينامون أو يصلّون أو يقرأون القرآن، وكانت أجزاء من أسواق المدينة مفتوحة وتعج بالحياة؛ حيث أعاد أصحاب المحال فتح متاجرهم، وكان الناس يشترون مستلزمات العيد، ورغم أن جزءًا كبيرًا من المدينة القديمة قد دُمّر، إلا أن روحها كانت لا تزال حاضرة.
سرنا لساعات، وزرنا مساجد مدمرة مثل جامع البازرباشي، الذي يمكن أن تنهار قبته الجميلة في أي لحظة، وقد تُسرق حجارته، بينما لا يزال محرابه مدمّرًا. بالقرب منه، كان وقف ثلاثة أولاد يبيعون العطور، يستندون جميعًا إلى طاولة صغيرة يبيعون عليها ما يستطيعون، فتساءلت كم يكسبون في اليوم، وعندما توقفنا للحديث معهم، كانوا ودودين للغاية، أرادوا أن نجرب بعض العطور، وسألونا إن كنا نرغب في تصويرهم.
كانت بعض الشوارع لا تزال فارغة – حتى تلك التي لم تتعرض للدمار – بيوت مهجورة تنتظر عودة أهلها، لكن الحياة بدأت تظهر ببطء في شوارع أخرى، بينما تعيش بعض العائلات في مبانٍ مدمرة، ويمكنك من بعيد أن ترى ملابسهم المغسولة معلّقة، وكأنك تنظر إلى مشهد من لوحة سريالية.
ظهرت جداريات جديدة، وهي علامة واضحة على أن الناس بدأوا يستعيدون مدينتهم؛ كتب على إحداها: “من حمص، هنا فلسطين”. زرنا كنيسة السيدة مريم ذات الحزام المقدس، التي لا يزال الرصاص ظاهرًا على أحد تماثيلها في الفناء رغم ترميمها، ثم ذهبنا إلى كاتدرائية الأربعين شهيدًا، التي أبهرتنا بسحرها ورونقها، كما أُعيد افتتاح الحمّام العثماني، وأصبح فيه مقهى.
قرأت عن أبراج غاردينيا، وهو مشروع ضخم يضم فندقًا ومبنى سكنيًا بدأ بناؤه في عام 2009 قبل اندلاع الحرب، لكنه ظل غير مكتمل، أصبحت هذه الأبراج تُعرف بـ”أبراج الموت” خلال الحرب لأن قناصة النظام كانوا يجدون فيها أفضل المواقع التي يطلون منها على معظم أنحاء المدينة، وقد زرتها وتخيلت كل الألم والصدمات التي ارتبطت بها، فهذا هو المعنى الحقيقي لتحويل العمارة إلى سلاح.
بينما كنت أسير مع أحد الصحفيين ذات مرة، رأيت امرأة تقف في شرفة بأحد الشوارع المدمرة، فلوّحت لها وسألتها إن كان بإمكاننا زيارتها لإجراء مقابلة، فوافقت ودخلنا شقتها، وكانت تتكوّن من غرفتين فقط؛ الغرفة التي أجرينا فيها المقابلة كانت خالية تمامًا، بلا كرسي أو أريكة أو تلفاز أو طاولة أو حتى سجادة. أما الغرفة الثانية فكانت تحتوي على مراتب على الأرض، وقالت المرأة إنها تعيش منذ عامين، مستأجرةً مع زوجها وابنتها وحفيدتها واثنين من أبنائها.
كان الذهاب إلى حمص أشبه ما يكون بالذهاب إلى نهاية العالم، إلى نهاية الزمن؛ ففي هذه الأنقاض يكمن غياب وألم. لقد دخلت العديد من تلك الأبنية المدمرة، ووجدت صورًا عائلية، وملابس أطفال، وفواتير، وغرف نوم مطلية برسوم كرتونية، وأشجارًا لا تزال تُزهِر. أين هم أصحاب هذه الأشياء؟ أين هم الآن؟ هل ما زالوا على قيد الحياة؟ هل نزحوا داخل البلاد أم خارجها؟ متعلقاتهم ما زالت هناك، تنتظرهم وتنتظر عودتهم.
التقيتُ بعدد من المعماريين السوريين الشباب الذين يملؤهم الأمل بالمستقبل، إضافة إلى مجموعات وأفراد مختلفين يرغبون في أن يكون لهم دور في إعادة الإعمار المقبلة، وألهمتني طاقتهم وأعمالهم بشكل كبير، ودُعيت لتقديم جزء من أبحاث كتابي “العمران العربي: بين الدمار والإعمار” في جامعتي دمشق وحمص؛ حيث حضر كل فعالية أكثر من 100 شخص، ورغم أنني قدمت عملي مئات المرات أمام جماهير حول العالم، لكن هذه كانت أكثر مرة شعرت فيها بالتحدي؛ فهؤلاء هم الأشخاص الذين عاشوا الحرب، في حين أنني لم أكن أنا سوى شاهد عليها من بعيد.
في عرضي، حثثتُ الحضور على حماية ما تبقى من مدننا بدلًا من الاندفاع المحموم نحو البناء وإعادة الإعمار الذي قد يُدمر أكثر مما تحفظ، وتحدثتُ عن ضرورة الحفاظ على ذاكرة الحرب، أو ما يُطلق عليه البعض “التراث المُظلم”، الذي يُحوّل مواقع الصدمات والمعاناة والقتل والتعذيب إلى أماكن للحزن والتذكر والشفاء، وانتقدتُ مشروع إعادة الإعمار في دمشق، الذي أزال بساتين ومنازل قديمة ليُرسي أسس حيّ جديد فاخر، ماروتا سيتي.
كان الجمهور متفاعلًا وطرح العديد من الأسئلة، لكن الجلسة لم تَخْلُ من الانتقادات؛ فقد دافع أحدهم عن الحاجة إلى “ماروتا سيتي”، واعتبر الإخلاءات وتدمير الطبيعة الحضرية ضرورات مقبولة. وفي دمشق، وصف أكاديمي آخر حديثي بأنه شاعري ومفرط في الحنين إلى الماضي. وتساءل: “من يهتم الآن بحماية مواقع الحزن والصدمة؟” فذكرته بالجدل الذي أثير عندما قام مجموعة من المتطوّعين الشباب بطلاء جدران أحد سجون الأسد سيئة السمعة بعد الإفراج عن السجناء، في محاولة لتحويل الزنازين المظلمة إلى مساحة جديدة؛ فأثار ذلك غضبًا واسعًا؛ حيث رأى كثيرون أن ما جرى كان محوًا لأدلة على فظائع التعذيب والقتل التي حدثت هناك. قلت له: لا يزال هناك من يهتم بالحفاظ على هذه الذاكرة، لأنها جزء من سعينا نحو العدالة والحرية والديمقراطية.
لطالما أدركتُ محدودية دراسة بلدي عن بُعد، لكن عودتي إلى سوريا أظهرت لي وجود قنوات جديدة لتحويل بحثي إلى ممارسة عملية، وكشفت لي العودة إلى الوطن عن الفجوة بين النظرية والواقع، ومع أن الناس هناك يكافحون للحصول على أبسط مقومات الحياة من ماء وكهرباء وغذاء، إلا أنني لمست مدى أهمية هذا البحث، بل وضرورة ترجمته إلى واقع عملي.
تدور في ذهني اليوم أسئلة جديدة لم أستطع التفكير فيها خلال سنوات منفاي: كيف نبدأ بإعادة بناء بلدٍ مُدمّر؟ كيف نحمي ما تبقى من تراثنا الثقافي؟ كيف تبدو إعادة الإعمار العادلة والواعية؟ هل يُمكننا بناء مدن وقرى تُساعدنا في عملية التعافي، وفي تخيّل مستقبلٍ مختلف؟ تتزايد الأسئلة باستمرار؛ بينما يُكتب الآن تاريخٌ جديدٌ لسوريا.
المصدر: فاينانشال تايمز