أثارت الحملة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة ضد إيران في شهر يونيو /حزيران الماضي، العديد من التساؤلات حول موقع حلفاء إيران في المعادلة الإقليمية الجديدة، خصوصاً وأن الفصائل المسلحة العراقية، وتحديداً الموالية لإيران، والتي يندرج جزء كبير منها ضمن هيئة الحشد الشعبي، حاولت إنتاج تموضع استراتيجي جديد، يوازن بين هيكليتها الإدارية كجزء من الحشد الشعبي، وبين ارتباطها العقائدي كجزء من (محور المقاومة) الذي تقوده إيران في المنطقة.
ويمكن القول بأن القرار الإيراني بعدم تشغيل الساحات الإقليمية خلال المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، وفر للحكومة العراقية فرصة ضبط سلوك هذه الفصائل، وجعلها ملتزمة بخيارات الدولة العراقية بعدم الانخراط في هذه المواجهة، إلاّ أنه من جهة أخرى أفرزت هذه المرحلة، وتحديداً بعد إعلان وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل العديد من الديناميات الداخلية التي بدأت تفرض نفسها في سياق المعادلة السياسية الجديدة في العراق.
تدرك القوى السياسية العراقية، ومنها القوى السياسية (الشيعية) التي تمتلك أجنحة مسلحة، أهمية إعادة تنظيم نفسها سياسيًا من أجل الإعداد للانتخابات البرلمانية المقبلة التي ستجري في نوفمبر / تشرين الثاني المقبل، وهو ما يجعلها تراعي الحسابات السياسية والأمنية في الداخل العراقي، وقد تكون جزء من هذه الحسابات متعلقة بإيران نفسها، كونها هي الأخرى تراهن على استقرار الوضع العراقي، ووضع حلفائها بشكل خاص، من أجل منحهم فرصة أكبر للوجود ضمن المعادلة الداخلية والإقليمية المقبلة ما بعد الانتخابات، ولكن ذلك لا يعني بأن هناك ظروف جديدة بدأت تفرض نفسها في سياق التعاطي مع حالة الحشد الشعبي في العراق.
البداية من الضغوط الأمريكية
أظهرت عملية الضغط الأمريكي على شركات الدفع الإلكتروني (ماستر كارد وكي كارد) المعنية بتسليم رواتب مقاتلي ومنتسبي هيئة الحشد الشعبي، والتي لا تزال مستمرة حتى الآن، عن توجه أمريكي حقيقي في إنتاج ضغوط مضاعفة على الفصائل المسلحة الموالية لإيران، خصوصًا وإن جزء كبير من مقاتليها يستلم رواتب كمقاتلين في الهيئة.
ورغم إن شركات الدفع الإلكتروني عللت سبب عدم تسليمها للرواتب حتى الآن بأن وزارة الخزانة الأمريكية اكتشفت عملية تهريب للأموال عبر البطاقات الذكية التي يستخدمها عناصر نافذة في الحشد الشعبي إلى خارج العراق، إلاّ إن ذلك لا يكشف عن كل الحقيقة.
إن النقطة المهمة التي ينبغي الإشارة إليها في هذا السياق، هي أن الولايات المتحدة، وتحديدًا إدارة الرئيس دونالد ترامب تجد بأن الظروف متهيئة اليوم، وتحديدًا في ظل الوضع الذي تمر به إيران وحلفائها في المنطقة، بإنتاج وضع جديد للفصائل المسلحة في العراق، خصوصاً بعد فشل محاولاتها السابقة في نزع سلاح الفصائل أو حتى دمجها في صفوف القوات الأمنية العراقية.
وبالتالي يمكن القول بأن المدخل المالي أو الإقتصادي يمكن أن يوفر فرصة أمريكية لإعادة تفكيك هذه الفصائل من الداخل، عبر تجفيف المصادر المالية من أجل خلق نوع من التفكك الداخلي أو دفع مقاتلي الفصائل للبحث عن مصادر دخل أخرى، ولكن حتى هذه اللحظة لا يمكن التوقع بنجاح هذا التصور الأمريكي لحد بعيد.
إذ إنه وفق التصور الأمريكي لا يمكن بأي حال من الأحوال تكرار سيناريو حزب الله اللبناني أو حتى حركة حماس مع الفصائل المسلحة في العراق، وبالتالي فإن مثل هذا التصور قد يدفع الولايات المتحدة للمراهنة على حلول ناعمة وذات نفس طويل، ولا تنتج ردود فعل عنيفة على المصالح الأمريكية أو حتى حلفائها في المنطقة، وهو ما قد يدفع إدارة ترامب للمراهنة على مثل هذا النهج في الفترة المقبلة.
تصاعد الخلاف مع إقليم كردستان
أظهرت الخلافات الأخيرة بين حكومة إقليم كردستان والحكومة المركزية في بغداد عمق الخلافات الأمنية بين الطرفين، خصوصاً بعد البيان الذي أصدرته حكومة إقليم كردستان يوم الجمعة الماضي الموافق 4 يوليو / تموز الجاري، والذي اتهمت من خلاله فصائل تابعة للحشد الشعبي بالوقوف خلف الهجمات الأخيرة التي طالت مدن عدة داخل إقليم كردستان، ومنها مطار أربيل الدولي، عبر طائرات مسيرة انتحارية، عن ردات فعل سياسية متشددة من قبل قيادات في الإطار التنسيقي الحاكم.
ويمكن القول بأن هذه ليست المرة الأولى التي تتهم فيها حكومة الإقليم فصائل تابعة للحشد الشعبي بالوقوف خلف الهجمات التي تتعرض لها، ولكن المتغير الجديد هذه المرة هو إن هذه الهجمات تأتي مترافقة مع اتهامات مباشرة سوقت لها وسائل إعلام إيرانية بأن منفذي الهجمات عبر طائرات مسيرة انتحارية خلال اليوم الأول من الهجوم الإسرائيلي على إيران، نجحوا بالعبور من داخل إيران إلى داخل إقليم كردستان عبر متعاونين محليين، ما يعني بأن إيران هي الأخرى حاضرة في سياق الخلاف الحالي بين بغداد واربيل.
يمكن القول بأن وضع الحشد الشعبي في سياق الخلاف الأمني بين بغداد وأربيل، يفرض نفسه بشكل واضح وصريح، خصوصًا وإن الاتهامات الكردية تأتي مترافقة مع دعوات كردية واضحة بضرورة انسحاب قوات الحشد الشعبي من جميع المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، فضلاً عن الدور المؤثر الذي يلعبه اللوبي الكردي داخل الإدارة الأمريكية، والذي قد ينجح في إنتاج استدارة أمريكية مضاعفة بالضد من سلاح الحشد الشعبي، ويخلق مبرر آخر للإدارة الأمريكية بإعادة هيكلة سلاح الفصائل المنضوية فيه عبر مزيد من الضغوط على الحكومة العراقية، وهو ما تحاول قوى الإطار التنسيقي تجاوزه بالسرعة الممكنة عبر إقتراح حلول عاجلة مع الجانب الكردي.
ولعل زيارة رئيس مجلس النواب العراقي (محمود المشهداني) إلى أربيل صباح يوم الأحد الموافق 6 يوليو / تموز الجاري، تكشف جزء كبير من هذه الصورة الضاغطة التي تعاني منها بغداد.
دعوات داخلية لنزع السلاح وحصره
أظهرت الدعوات الأخيرة بخصوص نزع سلاح الفصائل المسلحة خلال اليومين الماضيين، وتحديدًا من قبل معتمد المرجعية الدينية الشيعية في النجف السيد (عبدالمهدي الكربلائي) في خطبة يوم الجمعة، وكذلك البيان الذي أصدره زعيم التيار الصدري السيد (مقتدى الصدر) في ذات اليوم، عن ردات فعل متشددة من قبل الفصائل المسلحة، وتحديداً المتحدث العسكري باسم كتائب حزب الله العراقي (أبو علي العسكري) الذي أصدر بياناً يوم السبت الماضي الموافق 5 يوليو / تموز الجاري، رفض فيه هذه الدعوات، واعتبرها بأنها لا تختلف مع التحركات الأمريكية والإسرائيلية التي تستهدف سلاح المقاومة.
إن خطورة هذه الدعوات تتمثل في كونها تأتي في ظل ظرف إقليمي صعب تعيشه إيران وحلفائها في العراق، وإن الخطورة الأكبر تأتي في كونها صادرة عن مرجعيات شيعية لها ثقلها الكبير في الداخل العراقي، وفي الفضاء الشيعي العام، وهو ما يجعل من مسألة الحديث عن سلاح الفصائل المسلحة لا تتعلق بمسألة السلاح فقط، بل بوجود هذه الفصائل بالمرحلة المقبلة، نظراً للعلاقة البنيوية والعضوية بين المسألتين.
ورغم تأكيد الفصائل المسلحة بأن الحديث عن سلاحها يرتبط بالوجود الأمريكي في العراق، وبالمتغيرات الأوسع في المنطقة، إلاّ إن ذلك لا يخفي حقيقة بأن هناك ضغوط وتحديات مركبة تواجهها الفصائل المسلحة في العراق، وجزء كبير من هذه الضغوط والتحديات تأتي كنتيجة لتراجع إيران الإقليمي في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى، حيث إن تراخي إيران في دعم حلفائها وعلى أكثر من جبهة إقليمية، جعل جميع هؤلاء الحلفاء يواجهون سيناريوهات مختلفة من الضغوط والتحديات، وبالشكل الذي يستهدف إعادة تشكيل دورهم في المجتمعات والدول التي يتواجدون فيها.
ويمكن القول بأن سلاح الحشد الشعبي، والفصائل المسلحة المنضوية فيه، سيكون محور نقاش عراقي مطول خلال الفترة المقبلة، وقد يتعزز هذا النقاش بالوضع الذي ستؤول إليه مآلات المواجهة بين إيران والولايات المتحدة، فكلما كانت إيران قادرة على تأمين نفسها، كلما نجحت بتأمين هذا السلاح، وكلما تراجعت إقليمياً، كلما كان هذا السلاح خاضع لضغوط كبيرة تتناسب مع وضع إيران الجديد في المنطقة.