بينما كان بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، يتنقّل بين اجتماعات حساسة مع وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، والمبعوث الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، بانتظار مأدبة عشاء مرتقبة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، باغته خبر عاجل كان كفيلًا بأن ينتزع ملامح الغطرسة عن وجهه ويقلب حساباته رأسًا على عقب.
“حدث أمني مركب في بيت حانون أقصى شمال قطاع غزة” – بهذه العبارة المقتضبة وصفت وسائل الإعلام العبرية التطورات الميدانية في الجيب الحدودي المحاذي للشمال الشرقي من القطاع، بينما فرضت الرقابة العسكرية الإسرائيلية تعتيمًا صارمًا على التفاصيل. إلا أن منصات غير رسمية بدأت بالكشف تدريجيًا عن معالم الكمين، مشيرة إلى وقوع قوة صهيونية مؤللة في شِراك عملية نوعية متعددة الضربات، نُفذت وفق تخطيط دقيق.
يأتي كمين بيت حانون امتدادًا لسلسلة كمائن مركّزة نفّذتها المقاومة الفلسطينية خلال الأسابيع الأخيرة، استهدفت فيها قوات الاحتلال على امتداد محاور التوغّل جنوبًا وشمالًا، وبالأخص في المناطق التي يُعتقد أن الجيش يحاول تحويلها إلى مناطق عازلة. إلا أن خصوصية هذا الكمين تتجاوز البعد الميداني؛ فهو يتزامن مع لحظة سياسية شديدة الحساسية، مع انطلاق مفاوضات التهدئة غير المباشرة في الدوحة، وتصاعد الجدل الإسرائيلي الداخلي حول مستقبل التواجد العسكري في قطاع غزة.
كمائن مُركّبة ومتدحرجة
في التفاصيل، قُتل ستة جنود إسرائيليين وأصيب عشرة آخرون – على الأقل – في عملية نوعية نفذتها المقاومة الفلسطينية في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، وفق ما أوردته وسائل إعلام عبرية، التي وصفت الهجوم بأنه “من أعقد وأقسى العمليات” التي تعرّض لها الجيش الإسرائيلي منذ اندلاع الحرب.
وبحسب المعلومات الأولية التي تجاوزت الرقيب العسكري، بدأ الهجوم بتفجير عبوة ناسفة استهدفت مدرعة كانت تقل جنودًا، قبل أن تطال قذيفة مضادة للدروع روبوتًا عسكريًا محمّلًا بالذخيرة كان في طور الإعداد.
في ذروة التصعيد، سُمع دوي “الانفجار الكبير” حتى مدينة عسقلان، بينما هرعت مروحيات الاحتلال إلى الموقع لإجلاء المصابين وسط حالة من الفوضى الميدانية ونيران كثيفة، في مشهد يعكس حجم الخسائر والصّدمة.

أكدت المصادر العبرية أن الكمين كان مُحكمًا ومتعدد المراحل، حيث انفجرت عبوة أولى بدبابة، تلتها عبوة ثانية ضربت قوة الإخلاء، ثم عبوة ثالثة استهدفت قوة إنقاذ إضافية، قبل أن تنفجر عبوة رابعة بالتزامن مع إطلاق نار مباشر على المصابين. كما أشارت إلى أن القوة المستهدفة تنتمي إلى كتيبة “نتسح يهودا” التي تضم جنودًا من اليهود الحريديم المتشددين.
ورغم محاولات التعتيم، تتابعت الروايات العبرية عن وجود جنود مفقودين في الساعات الأولى، قبل أن يُعلن لاحقًا عن العثور على جثث متفحمة بالكامل، فيما تم تخصيص عدة مواقع لهبوط المروحيات في مستشفيات مختلفة، وقد أُطلِع رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو على تفاصيل الحادث خلال وجوده في البيت الأبيض.
الهجوم لم يكن معزولًا عن سياق أوسع، إذ يشهد القطاع تصاعدًا في وتيرة الكمائن والعمليات النوعية منذ أسابيع، وهو ما أوقع عشرات القتلى والجرحى في صفوف جيش الاحتلال. وتؤكد الإحصاءات العبرية أن شهر يونيو/حزيران الماضي كان الأكثر دموية منذ بدء الحرب، حيث قُتل فيه 20 جنديًا وضابطًا على الأقل.
وفي سياق متصل، أقر جيش الاحتلال قبل نحو عشرة أيام بمقتل ضابط وستة جنود في معارك جنوب القطاع، فيما تحدثت مصادر إعلامية عبرية عن كمين مركّب أسفر عن مقتل أربعة جنود وإصابة 17 آخرين في خانيونس. كما استهدفت المقاومة الأسبوع الماضي وحدة “إيغوز” النخبوية بثلاث عمليات متتالية شمال القطاع، ما أسفر عن مقتل جندي وإصابة ثمانية، بينهم ثلاث حالات خطيرة.
هذه الكمائن المركّزة تأتي كصفعة مباشرة لفلسفة “التقدم الحذر والبقاء طويل الأمد” التي يتبناها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ضمن خطة “عربات جدعون“، والتي تهدف إلى إنشاء مناطق “مطهّرة” من أي وجود مقاوم مع تقليل الخسائر البشرية في صفوف الجنود. إلا أن الواقع الميداني يشي بعكس ذلك، إذ أن العربات تعثرت، والميدان اشتعل، و”جدعون” بات يقلب كفيه بعد أن شُجّ وجهه بحجارة داوود.
“لن يمرّوا دون أن يُعاقبوا”
نجاح المقاومة في تنفيذ كمين معقّد بهذا الحجم بعد أشهر طويلة من الاستنزاف، يُعد إنجازًا غير عادي، لكن أن يقع هذا الكمين في بيت حانون تحديدًا، فهو ما يتجاوز منطق المعركة التقليدية، ويُفجّر كل الحسابات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، فبيت حانون، الواقعة شمالي قطاع غزة، تُعد من أكثر المناطق الحدودية حساسيةً وانكشافًا منذ الساعات الأولى لحرب الإبادة على القطاع، وقد تعرّضت لحصار ناري مستمر، جعل منها ساحة اختبار قاسية.
تتبع بيت حانون محافظة شمال غزة، وترتفع 50 مترًا عن سطح البحر، يحدّها من الشمال الشرقي خط الهدنة لعام 1948، وتجاورها بيت لاهيا جنوب غربًا، وتبعد 3 كيلومترات فقط عن مركز المحافظة. وتحظى بموقع استراتيجي بالغ الحساسية لوجود حاجز بيت حانون/إيريز، البوابة البرية الأهم بين قطاع غزة ومناطق الـ48، إضافة لقربها الشديد من سديروت، التي لا تبعد سوى 6 كيلومترات فقط، وإطلالتها المباشرة على مستوطنات ومواقع عسكرية مثل ناتيف هعتسراه وموقع الـ16 العسكري.
في عملية طوفان الأقصى بتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لعبت بيت حانون دورًا مركزيًا في اقتحام موقع إيريز العسكري، الذي تضمن خطف عناصر من الشاباك، والسيطرة على نقطة استخباراتية مهمة. كما شارك مقاوموها في الهجوم على مستوطنة سديروت، التي شهدت معارك ضارية انتهت بسيطرة مؤقتة على مركز الشرطة، في واحدة من أبلغ مشاهد ملحمة السابع من أكتوبر.
مع اندلاع الحرب، دعا قادة الاحتلال صراحةً إلى محو بيت حانون عن الخارطة، وجاءت البلدة في مقدمة أهداف الغزو البري الذي بدأ في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتعرّضت لقصف شامل دمّر بنيتها الحضرية والزراعية بشكل شبه كامل، باستخدام القصف السجادي والأحزمة النارية.

وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلن جيش الاحتلال “إتمام السيطرة” على بيت حانون، وتفكيك كتيبتها العسكرية، مؤكدًا فيما بعد اغتيال قائدها حسين فياض. لكن بيت حانون أثبتت أن المقاومة فيها لم تُكسر، بل اعتمدت سكونًا تكتيكيًا ما لبث أن انقلب إلى عواصف تفجير. فقد ظهر القائد أبو حمزة – الذي أُعلن مقتله – حيًا في مقطع مصوّر، وهو يقود كمينًا ضد قوات الاحتلال، مُفنّدًا ادعاءات القضاء على المقاومة في المنطقة.
ومع انطلاق خطة “الجنرالات”، التي ركزت على مخيم جباليا، برزت بيت حانون مجددًا من خلف خطوط التماس، مسجّلةً كمينًا مدويًا منتصف يناير/كانون الثاني، أسفر عن مقتل طاقم كامل من لواء “ناحال”، بينهم نائب قائد اللواء، في واحدة من أقسى الضربات التي سبقت اتفاق التهدئة المؤقتة.
وفي الساعات الأولى من التهدئة، عاد عدد من السكان إلى بيت حانون، ليتفاجأوا بمشهد استثنائي: قائد كتيبة القسام في البلدة، حسين فياض، حيّ يُرزق، يتفقد ميدان الكمين الأخير. وفي تسجيل مصوّر، ظهر القائد فياض إلى جانب عدد من مقاتليه، مُعلنًا أن العملية كانت ردًا على استشهاد القائد يحيى السنوار، مؤكدًا أن الجنود الذين قُتلوا في هذا الموقع، بمن فيهم نائب قائد ناحال، كانوا ضالعين في عملية اغتيال السنوار.
قال فياض: “لو كان قائد لواء ناحال نفسه في بيت حانون، لكان مصيره القتل في هذا المكان”. “لن يمرّوا دون أن يُعاقبوا… بيت حانون ستبقى شوكة في حلوقهم، وصخرة على صدورهم حتى يرحلوا عن أرضنا”.
مقاربات استراتيجية وتفاوضية
تُعد الكمائن العسكرية شكلًا من أشكال الرد العملي والمباشر الذي تتبناه المقاومة الفلسطينية في مواجهة التسريبات عن الخطط الإسرائيلية الرامية إلى استكمال احتلال قطاع غزة وفرض السيطرة العسكرية المباشرة عليه.
ومن خلال تكثيف هذا النوع من العمليات النوعية، تُقدم المقاومة مقاربتها الخاصة لمصير التواجد الإسرائيلي طويل الأمد داخل القطاع، مؤكدة أن الاستقرار على الأرض لا يُصنع عبر القوة، بل يُفشل بها.
وقد تجلّى هذا الرد في سلسلة من الضربات الدقيقة والكمائن المركزة التي امتدت من خانيونس جنوبًا إلى جباليا والشجاعية، وصولًا إلى بيت حانون شمالًا. والمثير أن أغلب هذه العمليات نُفذت في نطاق ما يُعرف بـ”المنطقة العازلة”، وهي المساحة التي يسعى الاحتلال إلى تثبيت وجوده العسكري الدائم فيها عبر مسار تفاوضي موازٍ للميدان.
كمين بيت حانون الأخير، بما خلّفه من خسائر مباشرة في صفوف الجنود الإسرائيليين، يعيد فتح النقاش داخل المجتمع الإسرائيلي ودوائر صنع القرار حول جدوى استمرار العمليات البرية، والثمن المتزايد لبقاء الجيش داخل غزة، لا سيما في ظل تآكل فرضية “الحسم العسكري”، بعد أكثر من عشرين شهرًا من القتال استخدمت فيه إسرائيل كل أدوات الفتك والتدمير.
ليست الكلفة البشرية أمرًا هامشيًا في صناعة القرار الاستراتيجي الإسرائيلي، بل تُعد واحدة من أبرز محدداته، فقد علّمت الذاكرة العسكرية أن الاستنزاف الدموي طويل الأمد يُسرّع من لحظة الانكفاء
اللافت أن أداء المقاومة يعكس حيوية استثنائية لا تتّسق مع حالة الإنهاك المتوقعة بعد هذا الزمن الطويل من المواجهة، فعلى الرغم من الضربات الإسرائيلية العنيفة، ودمار البنية التحتية في معظم مناطق القطاع، تُواصل المقاومة تنفيذ كمائن نوعية، مع الإصرار على رفع كلفة التقدم البري وإيقاع خسائر ملموسة في الأرواح بين صفوف جنود الاحتلال.
كما يُظهر هذا السلوك الميداني تطوّرًا ملحوظًا في قدرة المقاومة على استثمار التجربة القتالية وتحديث الأدوات الميدانية، حيث باتت الكمائن تُنفذ بدقة عالية، وتحقق نسب نجاح كبيرة. ويعكس هذا التماسك تميزًا استخباراتيًا، خصوصًا في ما يتعلق برصد تحركات الجيش وتقدير مسارات التقدم المحتملة، وهو ما يُعد عنصرًا حاسمًا في فاعلية هذه العمليات.
وتحمل هذه الكمائن رسائل سياسية واضحة، من شأنها التأثير في مسار النقاش الداخلي الإسرائيلي حول جدوى الحرب، كما تُربك الإيقاع التفاوضي الذي تحاول القيادة الإسرائيلية ضبطه ميدانيًا. وفي المحصلة، تُسهم هذه العمليات في ترسيخ قناعة تتزايد داخل إسرائيل مفادها أن خيار احتلال قطاع غزة بالكامل لم يعد مجرد مغامرة باهظة الكلفة، بل انتحار استراتيجي.
الذاكرة الإسرائيلية لا تُخطئ الكلفة
ليست الكلفة البشرية المستمرة والمتصاعدة أمرًا هامشيًا في صناعة القرار الاستراتيجي الإسرائيلي، بل تُعد واحدة من أبرز محدداته، كما تثبت التجارب التاريخية، فقد علّمت الذاكرة العسكرية والسياسية الإسرائيلية أن الاستنزاف الدموي طويل الأمد، خصوصًا في بيئات معقّدة وغير محسومة، يُسرّع من لحظة الانكفاء، مهما بلغت نبرة الغطرسة في العلن.
خلال عامي 2003 و2004، شكّلت العمليات الفدائية المكثفة داخل قطاع غزة عامل ضغط رئيسيًا على حكومة أرئيل شارون، التي بدأت تدرك أن الثمن البشري والسياسي لبقاء قوات الاحتلال في القطاع يفوق أي عائد ممكن، ومع تصاعد النقاشات داخل الكنيست والمؤسسة الأمنية حول جدوى البقاء، برزت خطة فك الارتباط أحادي الجانب عام 2005، التي قضت بتفكيك المستوطنات وسحب الجيش الإسرائيلي من داخل القطاع.
لكن جذور هذه المقاربة لم تولد في غزة، بل امتدّت من تجربة أكثر قِدمًا في جنوب لبنان، حيث اضطرت حكومة إيهود باراك في مايو/أيار 2000 إلى اتخاذ قرار الانسحاب المفاجئ من الشريط الحدودي المحتل، بعد سنوات من الهجمات المتصاعدة التي شنتها المقاومة اللبنانية ضد المواقع والتحصينات الإسرائيلية. يومها، بدا واضحًا أن جبهة الجنوب تحوّلت إلى عبء أمني واستراتيجي دائم، تستهلك الجنود والموارد دون مكاسب حقيقية، ما عجّل بلحظة الخروج.
اليوم، تُعيد المقاومة الفلسطينية في غزة تفعيل ذات المعادلة: الضغط بالنار والكمائن النوعية، مع رهان واضح على أن الخسائر المتواصلة والمؤثرة في صفوف جيش الاحتلال، كفيلة بإعادة إنتاج النقاش الداخلي الإسرائيلي حول جدوى البقاء، تمامًا كما حدث في تجارب سابقة.
وهي معادلة تزداد فعاليتها في ظل واقع إسرائيلي داخلي مأزوم: انقسام سياسي حاد، انعدام أفق حقيقي للنصر، وضيق في هامش المناورة أمام حكومة بنيامين نتنياهو. ومع ازدياد القناعة داخل شرائح من الرأي العام الإسرائيلي، بأن فكرة إعادة احتلال غزة بالكامل تعني الغرق في مستنقع استنزاف بلا نهاية، مما يؤشر بوضوح إلى أن أثر الكمائن لن يتوقف عند حدود الميدان، بل سيمتد حتمًا إلى عمق القرار السياسي في تل أبيب.