تجاوز اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بمضيفه المقرب، رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، على مأدبة العشاء التي أعدها الأول للثاني مساء الاثنين 7 يوليو/تمّوز الجاري، داخل البيت الأبيض، صبغته الرسمية المتعارف عليها، ليحمل أجواء أقرب للاحتفاء، حيث رسائل المغازلة المتبادلة وعبارات التفخيم التي تجاوزت درجة حرارتها سخونة الطعام المقدم.
الطرفان رغم التباينات الكبيرة في شخصيتهما، والمُرممة بترسانة هائلة من البرغماتية والمصالح المشتركة، بدا وكأنهما جاءا لإخراج مشهد النصر وإسدال الستار على واحدة من أشرس الجولات الإقليمية، حيث يحاول كل منهما استثمار المشهد الراهن والنتائج التي تحققت على الساحة، الإيرانية تحديدًا، لتحقيق إنجاز ومجد شخصي يُرضي غرورهما السياسي.
نتنياهو القادم لتوّه منتشيًا بما حققه في إيران ولبنان وسوريا واليمن والضفة، يحاول توظيف ما حققه من انتصارات ميدانية لحسم المعركة مع حماس في غزة وتركيعها سياسيًا وعسكريًا، فيما يؤمل ترامب، المائل للتهدئة، نفسه، بنصر دبلوماسي جديد يٌضاف إلى سجلاته ويشفع له لدى هيئة نوبل لمنحه جائزة هذا العام عن جهوده في نشر السلام.
📌 أعلن نتنياهو عن ترشيح الرئيس ترامب لجائزة نوبل للسلام تقديرًا لجهوده في إنهاء النزاعات في الشرق الأوسط.
📌 ترامب دفع نتنياهو للقبول بوقف إطلاق النار في الحرب المستمرة على #غزة منذ 21 شهرًا.
📌 رغم إصرار نتنياهو على إبقاء #غزة "مكانًا مفتوحًا"، إلا أنه يستمر في حصار القطاع… pic.twitter.com/1eckvT42gw
— نون بوست (@NoonPost) July 8, 2025
وبينما كانا جلوسًا على مأدبة العشاء، يهندسان سويًا لاتفاق تهدئة في غزة، مُفصل على المقاس الأمريكي، وحسب البوصلة الصهيونية، بما يمهد نحو وضع اللبنة الأولى في النسخة الجديدة من الشرق الأوسط، النسخة المعدلة أمريكيًا، والتي تضمن التفوق الكاسح لدولة الاحتلال مقارنة بجيرانها، وتعزز من النفوذ الأمريكي الإقليمي وتحافظ على مصالح الولايات المتحدة، كان للمقاومة رأي أخر، ورسالة قد تكون الأقوى منذ خرق حكومة نتنياهو للهدنة الأخيرة.
تتزامن تلك الزيارة، وهي الثالثة لنتنياهو إلى أمريكا منذ تولي ترامب الرئاسة رسميًا بداية العام الجاري، مع انطلاق جولة مفاوضات جديدة بين الحكومة الإسرائيلية وحماس في الدوحة، بعد غياب طويل نسبيًا، وسط تفاؤل حذر نسبيًا بشأن اختراق النقاط الخلافية بين الطرفين.. فأي تأثير محتمل لترامب في تحريك المياه الراكدة في ملف التهدئة في غزة؟
السلام بين وعود ترامب ومقاربة نتنياهو
جاءت تصريحات ترامب في معظمها بناءة من حيث اللغة، تعكس رغبته الحقيقية في فرض التهدئة وتبريد هذا الملف المشتعل والذي قد يطيح بكل ما حققه من إنجازات دبلوماسية على المستوى الخارجي، مؤكدًا أن حركة حماس تريد التفاوض والتوصل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، مٌعربًا عن اعتقاده بأنه لا يوجد عراقيل أمام الاتفاق وأن الأمور تسير بشكل جيد.
وبغموض يحمل التأويل المتعدد وإلقاء كرة النار بعيدًا عن ملعبه، تهرب الرئيس الأمريكي من الإجابة عن التساؤل الجدلي الأقدم في المنطقة والخاص بإمكانية الوصول إلى خيار “حل الدولتين” لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مٌجيبًا ” لا أعرف”، مُحيلا الجواب إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي.
نتنياهو هو الأخر حاول هندسة مواقفه بتصريحات يغلب عليها الدبلوماسية الفضفاضة، حيث لغة التسويف التي يجيدها، مٌمسكًا العصا من المنتصف، لافتا أن “بإمكاننا تحقيق سلام واسع في الشرق الأوسط يشمل كل جيراننا”، وأن ترامب نجح في رسم طريق السلام في المنطقة، مشيرًا إلى إمكانية “التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين الذين لا يسعون إلى تدميرنا”، على حد تعبيره.
وبالتوازي مع هذه النبرة الإيجابية لم يتخل نتنياهو عن مرتكزاته المتطرفة فيما يتعلق بحلحلة القضية الفلسطينية، منوها أنه بإمكان الفلسطينيين حكم أنفسهم “لكن الأمن سيبقى بأيدينا” ما يعني البقاء في القطاع، رافضًا الدعوات لإقامة دولة فلسطينية، معتبرًا أنها “ستتحول إلى منصة لتهديد إسرائيل”.
ولم يتخل نتنياهو عن خطاب التهجير، مغازلًا به رفيقيه المتطرفين، بن غفير وسموتريتش، بصرف النظر عن مسار هذا التهجير، طواعية كان أو قسرًا، قائلا إن “على سكان غزة أن يتمكنوا من مغادرة القطاع بحرية”، مضيفًا: “إذا أراد الناس البقاء، فبإمكانهم ذلك، وإذا أرادوا المغادرة، فيجب أن يتمكنوا من المغادرة”، معتبرًا ذلك جزءًا مما وصفه بـ”حرية الاختيار”.
ويبدو أن هذا الملف لم يفارق العقلية الإسرائيلية ولا الأمريكية، فمع رفض مصر والأردن استقبال فلسطيني القطاع، بدأ التفكير في خيارات بديلة، حيث طٌرحت أسماء بعض الدول للقيام بهذا الدور، منها السودان وقبرص وأخيرًا يدور الحديث عن سوريا في ظل ما يثار حول احتمالية تطبيع العلاقات بينها وبين تل أبيب في سياق تفاهمات أكبر لتخفيف التوتر بين البلدين، وهي التقديرات التي رغم تراجع معدلات احتمالاتها لكنها مطروحة على طاولة النقاش ولو خيار صفري.
استثمار المشهد
يعلم ترامب كما نتنياهو أن الحرب في غزة باتت حربًا عبثية، لا رؤية ولا هدف، وأن الاستمرار فيها مغامرة قد تجرد “إسرائيل” مما حققته من مكاسب خلال الأشهر الماضية، خاصة إذا ما تحولت إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، ستكون الكلمة فيها للمقاومة التي طورت من تكتيكات قتالها مؤخرًا فكبدت المحتل خسائر فادحة في الأرواح لم يعرفها من قبل.
غير أن كلاهما لا يود إسدال الستار قبل كتابة السطر الأخير الذي يعلن انتصارهما الكاسح، عبر نهاية مؤطرة بأبجديات ومقاسات ومقاربات خاصة، تٌعيد نتنياهو للشارع الإسرائيلي بصفته الملك الفاتح الذي لابد وأن يٌحمل على الأعناق ويُعفى من أي ملاحقات قضائية بسبب تهم فساد تلاحقه، كذلك تحول ترامب إلى بطل سلام عالمي، وقائد قادر على تنفيذ وعوده بإنهاء كافة الحروب، ومن ثم يستحق جائزة نوبل للسلام التي لا يتحرج أبدًا في إبداء رغبته في الحصول عليها بين الحين والأخر.
وهنا تتلاقى مصلحة الطرفين عبر استثمار النتائج التي تحققت على الساحة الإيرانية، والتي تم توظيفها بشكل دعائي خارق، ومن قبلها ما تحقق على الجبهة اللبنانية واليمنية والعراقية، وحاليًا السورية، لخلق قنبلة مٌتخمة بالمتفجرات السياسية يتم إلقائها على قطاع غزة فترغم المقاومة على الركوع والانبطاح وتدفعها لاتفاق أقرب للاستسلام.
لا يٌنكر متابع مخططات ترامب في تدشين شرق أوسط جديد، ينسبه لنفسه، ويجعل منه منصة كبيرة لتجميل صورته كرجل سلام إصلاحي، ويعزز من خلاله مصالح بلاده في المنطقة ويحافظ عليها، شرق أوسط تكون فيه إسرائيل هي القوة العظمى في المنطقة، وبيدها مفاتيحها، فيما تقف بقية الدول في طابور الخنوع، كل ينتظر دوره في دخول الحظيرة.
راهن كل من الرئيس الأمريكي ورئيس حكومة الاحتلال على الوقت في إضعاف حماس وفصائل المقاومة، بعد الحصار المطبق المفروض عليها لأكثر من 21 شهرًا، لكن الأيام الأخيرة قلبت الطاولة على الجميع، وأكدت المقاومة خلالها أنها على أرض صلبة، وأن الرهان على سقوطها وهم يداعب مخيلة الإسرائيليين والأمريكان.
المقاومة تٌربك الحسابات
في الوقت الذي كان نتنياهو يغازل مسامع ترامب بعبارات المديح والتفخيم، ويطلعه على خطاب التوصية الذي قدمه للجنة نوبل لترشيح الرئيس الأمريكي للجائزة هذا العام، ويتبادلان سويًا كلمات الشكر والعرفان بالجميل، ويتشاركا الرؤى حول صياغة اتفاق تهدئة يلبي مصالحهما، ويعلنا من خلاله النصر العظيم، مستندين إلى الوضعية الحرجة التي باتت عليها حماس بعد أكثر من 640 يومًا من القتال، جاء الرد سريعًا وهم جلوس.
جاءت عملية بيت حانون المركبة، التي وقعت الاثنين السابع من الشهر الجاري، تزامنا مع زيارة نتنياهو لواشنطن، بكل ما تحمله من تفاصيل ودلالات، والتي أودت بحياة 5 جنود وإصابة 14 أخرين، كرسالة مباشرة لترامب ونتنياهو وللمفاوض الإسرائيلي في الدوحة، رسالة تحمل مقاربة المقاومة إزاء العملية التفاوضية برمتها وبشأن موقفها الرسمي من الاتفاق المزعوم.
جاءت تلك العملية بعد ساعات قليلة من التسريبات الصادرة عن الكابينت والتي تتحدث عن استمرار البقاء العسكري الإسرائيلي في القطاع والسيطرة الكاملة على كافة المحاور، لتبعث هي وما سبقها من عمليات نوعية خلال الأيام الماضية، رسالة تحذير واضحة لصناع القرار في الداخل الإسرائيلي من أن البقاء العسكري في القطاع يعني المزيد من الاستنزاف وحصد الأرواح.
دلالة الرسالة تعمقت بشكل أكبر مع تركيز كمائن المقاومة في المناطق العازلة التي يتشبث بها جيش الاحتلال ويأبى الانسحاب منها، خان يونس وجباليا والشجاعية وبيت حانون، والتي تعتبر بالنسبة له مناطق آمنة هيمن عليها بالكامل، ليسقط معها وبالضربة القاضية أوهام النصر المطلق التي خدع بها نتنياهو وجيشه الشارع الإسرائيلي لأشهر طويلة، وتقلل بالتبعية من هامش المناورة الإسرائيلية إزاء المسار التفاوضي.
وتشير الإحصائيات الرسمية الإسرائيلية إلى أن يونيو/حزيران الماضي كان الشهر الأكثر دموية في صفوف جيش الاحتلال حيث قتل 20 جنديا وضابطا خلاله وأصيب آخرون، فيما قُتل نحو 37 ضابطًا وجنديًا إسرائيليًا وأٌصيب 98 أخرين على الأقل منذ تجدد الحرب على غزة في مارس/آذار الماضي، ووفق إفادات للجيش الإسرائيلي، فقد قتل 887 ضابطا وجنديا منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، بينهم 443 أثناء العدوان البري في غزة.
تفاؤل حذر.. مؤشرات إيجابية
كافة التقارير الواردة في الصحافة الإسرائيلية تذهب باتجاه تلبية مقترح التهدئة المطروح حاليًا، والمعدل جزئيًا على مقترح ستيف ويتكوف، لمعظم الأهداف الإسرائيلية وبنسب تتراوح بين 80 – 90% فيما يتبقى بعض النقاط الخلافية مع حماس، تلك النقاط التي تراها المقاومة خط أحمر لا يمكن الاقتراب منها والمتعلقة بالانسحاب من القطاع وإنهاء الحرب بشكل نهائي.
غير أن المفاوض الإسرائيلي يمارس اقصى أنواع الضغط لإجبار المفاوض الفلسطيني على تقديم المزيد من التنازلات رغم مرونته التي فاقت كل التوقعات، لتتحول طاولة المفاوضات إلى معركة شد حبل، يسعى من خلالها الإسرائيلي لتجريد المقاوم من كافة أوراق قوته بصورة أولية مسبقة، دون أي ضمانات مٌدرجة، كشرط مٌجحف لاستكمال مسار التفاوض بما يمكن أن يقود – وربما لا- إلى إنهاء القتال بالكلية وبصورة دائمة.
في تحليل لها نشرته في مجلة “لوبس” الفرنسية، استعرضت الكاتبة إستر بوليكوان، عددًا من المؤشرات التي ترجح قبول إسرائيل وحماس لمقترح وقف إطلاق النار المطروح حاليًا رغم أنه لا يختلف كثيرًا عن النسخ السابقة، والذي تشير التسريبات إلى أنه سيستمر 60 يوما، ويشهد إطلاق سراح 10 أسرى إسرائيليين أحياء، وإعادة عدد من الجثث، مقابل إطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين.
وحددت الكاتبة 3 أسباب قالت إنها تدعو للتفاؤل بإحداث الاتفاق الحالي لاختراقات جذرية في جدار المفاوضات، أولها رغبة ترامب الحقيقية في إنهاء هذا الحلف، وفي نسب الفضل إليه في تحرير أخر الأسرى الإسرائيليين في غزة، مستدلة على ذلك باجتماعه في الثالث من يوليو/تموز مع عيدان ألكسندر، الرهينة الأميركي الإسرائيلي السابق الذي أفرجت عنه حماس قبل شهرين تقريبا، دليلا على ذلك.
كما ترى بوليكوان أن هناك مؤشرات إيجابية من الجانبين للتخلي عن الموقف المتشدد الذي ساد الجولات السابقة من المفاوضات، حيث أعلنت حماس قبل أيام استعدادها “للانخراط فورا” في مفاوضات بشأن وقف إطلاق النار، ووافقت على بعض الشروط المسبقة مثل إلغاء مراسم إطلاق سراح الرهائن، التي اعتبرتها إسرائيل مهينة.
📌 الجولة الأولى من المفاوضات غير المباشرة بين حماس و "إسرائيل" في قطر انتهت دون نتائج.
📌 الوفد الإسرائيلي المشارك لم يكن مخوّلاً بشكل كافٍ للتوصل إلى اتفاق، مما أعاق التقدم في المحادثات.
📌 المفاوضات سبقت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن. pic.twitter.com/CY0kyfWXhM
— نون بوست (@NoonPost) July 7, 2025
ورغم التغييرات التي طالبت الحركة بإدراجها على المقترح الأولي، والخاصة بالانسحاب الإسرائيلي من القطاع وضمان أن يقود الاتفاق الحالي إلى إنهاء الحرب، وهي التغييرات التي اعتبرها مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بـ “غير مقبولة”، إلا أن نتنياهو لم يُلغِ مغادرة الدبلوماسيين الإسرائيليين إلى الدوحة. وصدرت تعليمات للوفد “بمواصلة الجهود لاستعادة الأسرى انطلاقا من الاقتراح القطري الذي قبلته إسرائيل” وهو ما اعتبرته الكاتبة مؤشرًا إيجابيًا.
فيما يأتي تنامي المعارضة في الداخل الإسرائيلي لاستمرار الحرب وتصاعد الخطاب المطالب بوقفها وإبرام صفقة تبادل وإسدال الستار عن هذا الفصل الدامي من المواجهات، كأحد أهم المؤشرات التي استندت إليها المجلة الفرنسية في تفاؤلها بشأن المقترح هذه المرة، حيث الاحتجاجات الشعبية التي لا تتوقف، واتساع رقعة المعارضين من النخبة السياسية والعسكرية، هذا بخلاف تقديرات الجيش من أن الحرب في غزة أوشكت على اكتمال مهمتها ولم يعد هناك داع للاستمرار فيها.
لم تعد المعركة غزة كما كانت في السابق، فالمواجهة اليوم على الشرق الأوسط بأكمله، وإن كان القطاع نقطة الارتكاز الأساسية، ورمانة الميزان الأهم، فمن جانب يحاول ترامب ونتنياهو هندسة المشهد بما يسمح بميلاد النسخة المحدثة من خارطة المنطقة، فيما تستميت المقاومة لفرض معادلة جديدة بتوازنات مختلفة، تكون فيها لاعبًا أساسيًا، وحصنًا منيعًا للحفاظ على القضية الفلسطينية على قيد الحياة، فهي معركة عض أصابع في مستواها الأكثر وحشية.