مساحات خضراء شاسعة تحوّلت إلى رماد، وأراضٍ مليئة بالخيرات باتت بورًا بعدما أشعلتها الحرائق على مدى الأسبوع الماضي. تواجه سوريا هذه المرة محنة من نوع مختلف، فهي أمام ظاهرة طبيعية تكشف هشاشة البنية البيئية، وضعف الاستعدادات في مواجهة الكوارث.
وبينما تتسابق ألسنة اللهب في التهام الأحراج والحقول، تتراجع قدرة فرق الإطفاء في ظل تضاريس وعرة، وموارد منهكة بفعل سنوات الحرب والإهمال. ومع كل يوم جديد، تخسر البلاد غابات كانت تُعدّ من أبرز ثرواتها البيئية، ويتحوّل الصيف إلى موسم فزع في القرى الجبلية التي يقف سكانها عاجزين عن إنقاذ مصدر رزقهم.
في هذا التقرير، نغوص في تفاصيل ما جرى: كيف اندلعت النيران؟ ولماذا خرجت عن السيطرة؟ وماذا تقول السلطات عن حجم الكارثة؟ ثم نرصد آثارها على الطبيعة والزراعة والناس.
حريق كارثي وتحديات ضخمة
بدأت شرارة هذه الحرائق مطلع شهر يوليو/تموز 2025 في أحراج ريف اللاذقية الشمالي، وتحديدًا في منطقة قسطل معاف بجبل التركمان الساحلي، قبل أن تنتشر بسرعة هائلة على امتداد نحو 20 كيلومترًا من المناطق الحرجية، مسببة واحدة من الكوارث البيئية غير المسبوقة في سوريا.
بحلول اليوم الرابع من اندلاع الحريق، امتدت رقعة النيران إلى 28 موقعًا داخل محافظة اللاذقية، على مساحة تُقدّر بنحو 10 آلاف هكتار، ومع اشتداد الرياح وارتفاع درجات الحرارة، ارتفعت ألسنة النيران واجتاحت قرًى إضافية، حيث اشتعلت في اليومين السادس والسابع للحريق المناطق الحراجية في قرى الغسانية وشيخ حسن، وأصبحت على مشارف غابات الفرنلق، التي تُعدّ أكبر محمية غابات في سوريا وتوصف بأنها “رئة البلاد”.
كما امتدت ألسنة اللهب إلى تخوم التجمعات السكنية، مهددة منازل المدنيين فيها، ووصلت الحرائق كذلك إلى أجزاء من محافظة طرطوس.
تغطية ميدانية من مراسل “#نون_سوريا” في ريف اللاذقية الشمالي، حيث تستمر حرائق الغابات لليوم الخامس في ريف اللاذقية الشمالي وسط عجز الدفاع المدني وانسحاب فرق الإطفاء التركية بسبب كثافة النيران.#حرائق_اللاذقية #سوريا pic.twitter.com/OpSjenkCxA
— نون سوريا (@NoonPostSY) July 6, 2025
بيد أن سبب الحرائق لا يزال مبهمًا حتى الآن، إلا أن من المرجّح أن تضافر عوامل مناخية وبشرية كان وراء اندلاعها وانتشارها بهذه السرعة، فقد تزامنت مع موجة حر وجفاف استثنائية، إذ ارتفعت درجات الحرارة وانعدمت الرطوبة تقريبًا في غابات المنطقة، مما جعلها سريعة الاشتعال.
كما أسهمت الرياح الحارة والجافة في انتقال الشرر لمسافات بعيدة، ما صعّب من عملية عزل الحرائق أو إنشاء خطوط نار عازلة فعالة.
ويؤكد، شادي جاويش، رئيس التنبؤ المركزي في الأرصاد الجوية السورية أن البلاد تشهد أسوأ موسم جفاف منذ عقود، حيث لم تتجاوز نسب الهطول ثلث المعدلات السنوية، مشيرًا إلى أن الرياح الجافة والمرتفعات الجبلية تسهم في تسريع امتداد النيران.
العوامل البيئية السابقة كانت السبب الرئيس الذي حال دون تمكّن الدفاع المدني من إخماد النيران حتى الآن، رغم أن فرقه تواصل الليل بالنهار لحماية الثروة الطبيعية لسوريا، فكلما أخمدت الفرق بؤرًا مشتعلة، عادت الرياح لتشعلها من جديد وتبدد جهود السيطرة، مما أدخل فرق الإطفاء في سباق مع الزمن لاحتواء الوضع.
يُضاف إلى ذلك التحديات المتعلقة بتضاريس المنطقة المشتعلة، إذ تقع معظم مناطق الحرائق في جبال شاهقة ووديان ضيقة مكسوة بالغابات الكثيفة، مما جعل وصول فرق الإطفاء والمركبات الثقيلة إلى نقاط النار أمرًا بالغ الصعوبة، وأدى إلى تأخّر وصول صهاريج المياه والإمدادات إلى الخطوط الأمامية للإطفاء.
لا تقتصر التحديات على عوامل بيئية طبيعية فحسب، فتعدّ مخلفات الحرب التي عكف نظام الأسد البائد على نشرها في مناطق معينة، أحد أخطر الأسباب التي تصعّب إطفاء الحرائق، كونها تعيق وصول الفرق إلى بعض مواقع الحرائق في ريف اللاذقية التي تحتوي على حقول الألغام، ما يتطلب تنسيقًا حذرًا مع الفرق الهندسية المختصة لتطهير الممرات قبل تقدم رجال الإطفاء، بحسب الدفاع المدني السوري.
سنوات الحصار والحرب قضت أيضًا على الحد الأدنى من بنية الاستجابة للكوارث، وقد تَجلى ذلك بوضوح في أول اختبار طبيعي كبير تواجهه سوريا بعد سقوط الأسد؛ إذ وجدت فرق الإطفاء نفسها في مواجهة نيران ضخمة بإمكانات شبه معدومة: نقصٌ حاد في المعدات، وغياب في الموارد، وطرق إمداد مدمّرة بفعل سنوات الصراع، كلّها عوامل عقدت مهمة إيصال الدعم إلى قلب الأحراج المشتعلة، وعرقلت السيطرة على ألسنة اللهب التي كانت تتمدد بلا هوادة.
جهود محلية ودولية لإطفاء الحريق
استنفرت السلطات السورية أمام اتساع رقعة الحرائق، وفعّلت كل طاقاتها لإخماد الحرائق التي وصفها وزير الطوارئ وإدارة الكوارث، رائد الصالح، مضيفًا بأنها كارثة بيئية، مضيفًا أن: “80 فريقًا ميدانيًا، مدعومة بـ180 آلية، تعمل على مدار الساعة، مع استئجار معدات ثقيلة لمحاصرة خطوط النيران”، ومشيرًا إلى أن أن 16 طائرات تشارك في عمليات الإخماد، بتنسيق بين وزارات عدة وإشراف محافظ اللاذقية ضمن خلية عمل متكاملة.
كما أعلنت الوزارة الطوارئ إحداث غرفة عمليات ميدانية مشتركة، بالتعاون مع عدد من المنظمات السورية الفاعلة، في إطار تقديم الدعم اللوجستي والميداني لعمليات إخماد الحرائق في ريف اللاذقية الشمالي، وشددت على أن غرفة العمليات في حالة انعقاد دائم على مدار الساعة لمتابعة الموقف، وتنسيق الاستجابة الميدانية لحظة بلحظة لضمان سرعة الاستجابة.
كما شكلت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل غرفة طوارئ لمتابعة أوضاع المتضررين والنازحين وتقديم الدعم الإغاثي العاجل لهم بالتنسيق مع المحافظة.
لليوم الخامس على التوالي، تستمر فرق الإطفاء وأفواج الإطفاء وبمشاركة من فرق الإطفاء التركية و الأردنية براً وجواً في تنفيذ عمليات ميدانية مكثفة لإخماد حرائق الغابات في محافظة اللاذقية، بينما تتركّز الجهود اليوم على منع وصول النيران إلى محمية الفرنلق المصنفة كإحدى أكبر وأهم الغابات… pic.twitter.com/FEhPEQ9MH0
— Raed Al Saleh ( رائد الصالح ) (@RaedAlSaleh3) July 7, 2025
واستجابة لمناشدة السلطات السورية، سارعت الأردن ولبنان وتركيا للمشاركة في جهود إخماد الحرائق، حيث أرسلت القوات المسلحة الأردنية طائرتين مزودتين بطواقم متخصصة ومعدات فنية متقدمة، فيما أرسل الدفاع المدني الأردني مركبات إطفاء مخصصة للعمل في المناطق الوعرة وفي الغابات بكامل طواقمها من العاملين المتخصصين في عمليات الإطفاء والإنقاذ والإسعاف.
أما لبنان، فقد بادر بإرسال مروحيتين عسكريتين من قاعدة قلعات في شمال لبنان للمشاركة في عمليات الإخماد، وذلك بالتنسيق بين قيادة الجيش اللبناني والسلطات السورية.
وأرسلت تركيا طائرتي هليكوبتر و11 آلية إطفاء متخصصة، إضافةً إلى 16 فريقًا من الخبراء ورجال الإطفاء، كما شاركت هيئة الإغاثة التركية في مكافحة تمدد الحرائق بإرسالها 12 متطوعًا ووحدتين من الآليات المتخصصة.
خطورة وكارثية الحرائق دفعت الأمم المتحدة أيضًا للتدخل، إذ أكد آدم عبد المولى، المنسق المقيم ومنسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في سوريا، فرق الأمم المتحدة تجري تقييمات عاجلة لتحديد حجم الكارثة وتحديد الاحتياجات الإنسانية الأكثر إلحاحاً.
النيران تلتهم مساحات تفوق حجم دمشق
في بلد أنهكته الخسارات على كل الأصعدة، فاقمت الحرائق المندلعة من حجم المأساة، حيث أتت النيران على 14 ألف هكتار من المساحات الخضراء في سوريا، بينما ما تزال الحرائق مشتعلة.
وتُقدّر المساحة المحروقة بأكثر من 3% من إجمالي مساحة الغابات في سوريا، وهي مساحة تفوق حجم العاصمة دمشق، بحسب ما أظهرت بيانات الأقمار الصناعية. كما التهمت ألسنة اللهب مزارع لتربية الحيوانات، ودمّرت مراعي ومخازن زراعية في القرى التي وصلت إليها الحرائق، ما كبّد الاقتصاد الريفي خسائر كبيرة يصعب تعويضها.
وطالت الأضرار أيضًا البنية التحتية الحيوية في المنطقة، حيث تسببت الحرائق في تعطيل محطة كهرباء البسيط وخروجها عن الخدمة نتيجة اقتراب النيران منها، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي والاتصالات عن مناطق واسعة.
وأجبرت الحرائق 1120 شخصًا على مغادرة منازلهم، في حين يُقدّر عدد المتضررين بنحو 5 آلاف شخص، خاصة في قرى مثل بيت عيوش والمزرعة والصبورة ورأس البسيط في ريف اللاذقية، بحسب منظمة الزراعة والتنمية الريفية (SARD).
وطمأنت وزارة الطوارئ بعدم وجود خسائر بشرية جراء الحرائق، مشددة على أن “الأولوية القصوى هي حماية المدنيين”، لافتة إلى أن الخوف من تمدد وانتشار الحرائق بعد اشتداد سرعة الرياح دفعهم لإجلاء 25 عائلة في قرية الغسانية بريف اللاذقية. في حين أسفرت الحرائق عن وقوع 10 إصابات في صفوف عناصر الدفاع المدني، معظمها حالات اختناق أثناء محاولاتهم إخماد النيران.
تُطفأ النيران يومًا فيومًا، لكن آثارها ستبقى لسنوات، فالكارثة التي اجتاحت الساحل السوري أماطت اللثام عن عجز الدولة في مواجهة الكوارث الطبيعية، وكشفت عمق الفراغ الذي خلّفته سنوات الحرب والحصار. وبينما تتجه فرق الإطفاء إلى السيطرة، يبقى السؤال الأهم: هل ستكون هذه الحرائق جرس إنذار يُبنى عليه، أم مجرّد مأساة أخرى؟