ترجمة وتحرير: نون بوست
حوادث إطلاق النار المتكررة التي أودت بحياة فلسطينيين كانوا ينتظرون للحصول عن الطعام في مراكز التوزيع في غزة منذ أواخر مايو/ أيار هي نتيجة لعيوب في تصميم مشروع توزيع المساعدات. جذبت المراكز حشودًا ضخمة وجعلتها قريبة من مواقع تمركز الجنود الإسرائيليين الذين أطلقوا النار في عدة مناسبات، وفقًا لخبراء في برامج الإغاثة الإنسانية وشهادات شهود عيان وأدلة مرئية.
قبل وقت قصير من افتتاح مراكز التوزيع، حذّرت الأمم المتحدة في أحد تقاريرها من أن النموذج الذي وضعه فريق من مسؤولي الاستخبارات والدفاع الأمريكيين السابقين، إلى جانب رجال أعمال، بالتشاور الوثيق مع إسرائيل، قد يؤدي إلى اندلاع أعمال عنف بسبب الاكتظاظ. وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية: “قد تستخدم القوات الإسرائيلية أو شركات الأمن العسكري الخاصة القوة للسيطرة على الحشود”.
كشف تحقيق أجرته صحيفة “واشنطن بوست” أن ذلك حدث ما لا يقل عن ثلاث مرات خلال الأسبوع الأول من بدء توزيع المساعدات، حيث أفاد شهود عيان بأن القوات الإسرائيلية أطلقت النار في اتجاه الحشود.
منذ أن افتتحت مؤسسة غزة الإنسانية المدعومة أمريكيًا أول نقطة من بين أربعة مراكز توزيع في أواخر مايو/ أيار، في مناطق خاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي، تعرّض الفلسطينيون لإطلاق نار بشكل شبه يومي قرب تلك المواقع، ما أسفر عن مقتل أكثر من 400 شخص وإصابة الآلاف، وفقًا لمكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان.
وتوصلت صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن هذا العنف يعود جزئيا إلى تجاهل المعايير المعتمدة منذ زمن طويل في توزيع المساعدات في غزة، ونتيجة متوقعة لديناميكيات متأصلة في هذا البرنامج الذي أدى مرارًا وتكرارًا إلى إطلاق القوات الإسرائيلية النار باتجاه الحشود حسب شهود عيان.
وخلال الأسبوع الأول من توزيع المساعدات، قال الجيش الإسرائيلي إنه أطلق أعيرة تحذيرية باتجاه “مشتبه بهم” تقدموا نحو مواقع الجنود بالقرب من أحد مراكز التوزيع في رفح، في ما لا يقل عن خمس مناسبات.
وفي مقابلات مع “واشنطن بوست”، أفاد عشرة شهود عيان بأنهم رأوا في 27 مايو/ أيار و1 يونيو/ حزيران و3 يونيو/ حزيران إطلاق نار باتجاه الحشود أو بشكل مباشر نحو عدد منهم، من مناطق قريبة من مواقع تمركز الجيش الإسرائيلي، بما في ذلك باستخدام دبابات وطائرات مسيّرة.
وخلال تلك الأيام، وصل ما لا يقل عن 48 شخصًا قد فارقوا الحياة إلى المستشفى الميداني التابع للصليب الأحمر، أو توفوا بعد وقت قصير من وصولهم، فيما استقبل المستشفى نحو 400 مصاب، معظمهم يعانون من إصابات بأعيرة نارية، وفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر.
وقال الجيش الإسرائيلي في بيان إنه يراجع التقارير المتعلقة بحوادث أُصيب فيها مدنيون أثناء توجههم إلى مراكز التوزيع التابعة لمؤسسة غزة الإنسانية، وأكد أنه يعمل على “تقليل الاحتكاك المحتمل” بين الجنود والسكان المحليين.
وجاء في بيان الجيش: “في إطار هذا الجهد، عمل الجيش الإسرائيلي مؤخرًا على إعادة تنظيم المنطقة من خلال تركيب الأسوار ووضع اللافتات وفتح طرق إضافية واتخاذ تدابير أخرى. وعقب الحوادث التي أُبلغ فيها عن إصابة مدنيين وصلوا إلى مواقع توزيع المساعدات، أُجريت تحقيقات شاملة في قيادة المنطقة الجنوبية، وصدرت تعليمات للقوات الميدانية استنادًا إلى الدروس المستفادة”.
كان الطريق الذي طُلب من سكان غزة أن يسلكوه للوصول إلى مركز التوزيع، وفقًا لتوجيهات مؤسسة غزة الإنسانية، بما في ذلك منشورات على فيسبوك، على بُعد أقل من ميل من موقعين عسكريين ظاهرين في صور الأقمار الصناعية، وعلى نفس الطريق الذي قال شهود عيان إنهم شاهدوا فيه دبابات.
وتشير شهادات الشهود والأدلة المصورة إلى أنه في المناسبات الثلاث التي أُطلق فيها النار خلال الأسبوع الأول، بدأ بعض الأشخاص الذين كانوا يسلكون الطريق المعتمد نحو المركز بالركض باتجاهه، ما جعلهم يقتربون أكثر من الموقعين العسكريين.
وقالت مؤسسة غزة الإنسانية إن الحوادث العنيفة الأخيرة في غزة لا علاقة لها بمراكز توزيع المساعدات التابعة لها، ورفضت الانتقادات الصادرة عن “من يُطلق عليهم الخبراء”، مشيرة في بيان إلى أنهم غير مطّلعين على “تعقيدات” عمليات المؤسسة.
دعمت إسرائيل مشروع مؤسسة غزة الإنسانية منذ أواخر السنة الماضية، مشيرة إلى أن نظام الإغاثة القائم آنذاك، والذي اعتمد على وكالات الأمم المتحدة وشبكة من المنظمات غير الحكومية، بحاجة إلى إعادة هيكلة، بزعم أن حركة حماس كانت تستفيد ماليًا من خلال الاستيلاء على المساعدات وإعادة بيع المواد. إلا أن إسرائيل لم تقدم أدلة تثبت أن حماس تسرق المساعدات بشكل ممنهج في إطار النظام التابع للأمم المتحدة.
ورغم طلبات صحيفة “واشنطن بوست” الموجهة إلى مسؤولين في الجيش الإسرائيلي ووزارة الخارجية ومكتب رئيس الوزراء، لم يتم تقديم أي دليل يدعم الادعاءات بشأن تحويل واسع النطاق لمساعدات الأمم المتحدة الغذائية.
وتعرّضت جهود الأمم المتحدة لإيصال المساعدات إلى غزة لقيود إسرائيلية صارمة، حيث مُنعت معظم شاحنات الإغاثة التابعة لها من دخول القطاع الذي يخضع لحصار تفرضه قوات الجيش الإسرائيلي. وداخل غزة، تقول الأمم المتحدة إن أنشطتها باتت مقيدة بشكل كبير.
وفقًا لنموذجها الخاص، تُدير مؤسسة غزة الإنسانية أربعة مراكز توزيع داخل مناطق في غزة تحتلها القوات الإسرائيلية. وتعتمد هذه المراكز على متعاقدين أمنيين أمريكيين مسلحين لتوفير الحماية والخدمات اللوجستية. ويتم توزيع الغذاء وفقًا لقاعدة “الأولوية لمن يصل أولًا”، دون الحاجة إلى تسجيل مسبق من المستفيدين. وتُنشر مواعيد فتح المراكز، التي تختلف من يوم لآخر، عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل يوم واحد من عملية التوزيع.
منذ أواخر السنة الماضية، رسم واضعو الخطة دورًا للجيش الإسرائيلي. وحسب وثائق داخلية اطلعت عليها صحيفة “واشنطن بوست”، أشار المخططون إلى أنه كشرط لنشر المساعدات في غزة، يتعين على قوات الجيش الإسرائيلي المتمركزة خارج محيط مواقع توزيع المساعدات استهداف من يُشتبه بأنهم مسلحون بنيران مباشرة.
اعتبر خبراء في الشؤون الإنسانية أن توجيه الفلسطينيين عبر منطقة ذات طابع عسكري يعدّ من العيوب في تصميم مشروع مؤسسة غزة الإنسانية.
وقال أليكس ديفيز من المجلس النرويجي للاجئين: “تصميم مراكز التوزيع وطريقة إعدادها وتخطيطها وتنفيذ العملية برمتها، ساهمت جميعها في خلق بيئة زادت من التوتر والضغط والذعر وخلقت أوضاعًا خطرة للمستفيدين من المساعدات”.
ويقول خبراء يعملون في وكالات تابعة للأمم المتحدة ومنظمات إغاثية أخرى إن قلة عدد مراكز التوزيع، ووجودها على بعد حوالي ميل ونصف من أماكن تجمّع الفلسطينيين، شكّل وصفة للازدحام الشديد وحالات الذعر. كما أن مؤسسة غزة الإنسانية لم تعتمد الإجراءات المعتادة التي تتبعها وكالات الإغاثة لتنسيق توزيع المساعدات وتفادي الفوضى، مثل تسجيل المستفيدين وإخطارهم عبر الرسائل النصية أو وسائل أخرى بمواعيد الاستلام، واستخدام قسائم تحدد توقيت وكمية المساعدات لكل فرد. بدلًا من ذلك، اعتمدت المؤسسة أسلوب “الأولوية لمن يصل أولًا” في توزيع الغذاء.
وقال ديفيز: “إذا لم تتم إدارة العملية بشكل سليم، فمن السهل أن تحدث فوضى، وأن تنتشر المعلومات المضللة بسرعة، وأن يسود الذعر والخوف بين المنتظرين للحصول على الطعام. أكبر المخاوف هو اعتقاد الناس أن الكمية لا تكفي للجميع، لأن بقاءهم على قيد الحياة على المحك”.
ودافعت مؤسسة غزة الإنسانية في بيان أرسلته عبر البريد الإلكتروني عن جودة عملياتها، قائلة: “يضم فريقنا خبراء إنسانيين ذوي خبرة كبيرة، صمّموا نموذجنا لتجنّب الثغرات والإخفاقات التي تعاني منها الأمم المتحدة ومنظمات أخرى، والتي لا تصل مساعداتها إلى المحتاجين فعليًا”.
وأقرت المؤسسة بوقوع حالات قتل، لكنها أضافت: “حتى الآن، لم تُسجَّل أي حالة وفاة داخل أي من مواقعنا أو في محيطها المباشر”. وقالت مؤسسة غزة الإنسانية: “ما زلنا نواجه نمطًا متزايدًا من المعلومات المضللة، التي يبدو أنها صادرة عن وزارة الصحة في غزة، وهي ذراع تابعة لحماس، وترددها الأمم المتحدة. ومن المؤسف أن تستمر الأمم المتحدة في الترويج لمعلومات غير صحيحة بشأن عملياتنا”.
لكن أحد مسؤولي مؤسسة غزة الإنسانية أقرّ بحدوث أعمال عنف مرتبطة بعمليات التوزيع، وقال في مقابلة إن المؤسسة تعتقد أن حوادث إطلاق النار المتكررة وقعت بسبب قلة عدد مراكز توزيع المساعدات. وأضاف المسؤول أن بعض الأشخاص تسببوا في إطلاق النار من جانب الجيش الإسرائيلي حين حاولوا اختصار الطريق لتفادي المسار المزدحم المحدد مسبقا، أو عندما وصلوا قبل الفجر للانتظار في الطوابير من أجل الحصول على الطرود الغذائية، فأضاعوا طريقهم في الظلام وانحرفوا نحو مواقع تمركز الجيش الإسرائيلي.
حشود يائسة
طوّرت وكالات الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الإنسانية الأخرى العاملة في غزة، على مرّ السنين، إجراءات تهدف إلى تقديم المساعدات بطريقة منظمة ومنضبطة.
على سبيل المثال، خلال هدنة استمرت ثلاثة أشهر هذه السنة بين إسرائيل وحماس، قام برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة بتشغيل 400 نقطة توزيع مساعدات في جميع أنحاء قطاع غزة، غالبًا من خلال المخابز ومراكز الوجبات الساخنة وأماكن أخرى. وقال أحد عمال الإغاثة الأمريكيين، مشترطًا عدم الكشف عن هويته لأنه غير مخوّل بالتحدث إلى وسائل الإعلام: “تتجنّب الفوضى من خلال ضمان وجود مساعدات كافية وعدد كبير من المواقع، لأن الناس حينها لا يقلقون بشأن الوصول في وقت مبكر خوفًا من فوات الفرصة”.
وفي السابق، كان المستفيدون من المساعدات يسجّلون أسماءهم للحصول على الدعم ويتم إخطارهم عبر الرسائل النصية ومن خلال مسؤولي المجتمع المحلي بأماكن استلام المساعدات. وقد وفّرت بعض الوكالات قسائم إلكترونية، مثل استخدام المحافظ الإلكترونية على الهواتف المحمولة، تُمكّن المستفيد من الحصول على كمية محددة من المواد وفقًا لاحتياجات أسرته.
وقالت آن ماري ماكنزي، وهي خبيرة إنسانية تمتلك خبرة تمتد لعقد من الزمن، وسبق لها العمل في غزة: “نظرًا لأن مستوى الحاجة كان مرتفعًا باستمرار، وللتخفيف من مشكلة السيطرة على الحشود، وللحدّ مما نشهده الآن… كانت العديد من المنظمات تلجأ إلى توزيع المساعدات على نطاق أصغر، على مستوى المجتمعات المحلية”.
ووفقًا لخبراء في العمل الإنساني، فإن النهج الذي تعتمده مؤسسة غزة الإنسانية انحرف عن هذه الممارسات المعتمدة والراسخة في مجال الإغاثة.
وقال خبير آخر في مجال توزيع المساعدات، طالبًا عدم الكشف عن هويته حفاظًا على سلامة عائلته: “لا يمكنك إدارة الوضع بهذا الشكل في ظل هذا العدد الكبير من الناس الذين يعانون من الجوع القاتل… وكان من السهل جدًا توقّع هذا الازدحام”.
وعلّقت أولغا تشيريفكو، المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في غزة، قائلة إن منظمتها لن تكون جزءًا من أي برنامج “ينتهك المبادئ الإنسانية. أي عملية تدفع بمدنيين يائسين إلى مناطق ذات طابع عسكري هي بطبيعتها غير آمنة”.
تدخل الجيش الإسرائيلي
مع تزايد تدفّق حشود الفلسطينيين اليائسين بشكل متكرر نحو موقع التوزيع في رفح، اقترب المدنيون من مواقع الجنود الإسرائيليين الذين يقاتلون منذ سنة ونصف ضد مسلحي حماس، وليسوا مهيّئين للتعامل مع المدنيين.
وقال ناداف فايمان، المدير التنفيذي لمنظمة “كسر الصمت”، وهي منظمة إسرائيلية تضم قدامى محاربي الجيش الإسرائيلي، وجمعت شهادات العديد من الجنود الذين قاتلوا خلال الصراع: “هؤلاء الجنود يفتقرون إلى الخبرة في التعامل مع المدنيين. بالنسبة لهم، يُعتبر الجميع مشتبهًا به حتى يثبت العكس”.
يقول الجنود إنه بموجب قواعد الاشتباك العسكرية، يُسمح للقوات بإطلاق النار إذا اعتقدوا أن حياتهم أو حياة زملائهم في خطر، وقد خلق هذا بيئة متساهلة من النادر فيها معاقبة من يتخذ قرارا خاطئا، وذلك وفقًا لناشطين إسرائيليين في عدة منظمات حقوقية.
وقال فايمان: “عندما يركض عشرات الآلاف نحو صناديق تحتوي على القليل من الطعام، ستقع هذه الحوادث بشكل متكرر في ظل قواعد الاشتباك الحالية لجيش الدفاع الإسرائيلي”.
رفض الجيش الإسرائيلي الإجابة عن أسئلة حول الشهادات التي جمعتها المنظمة أو حول قواعد الاشتباك التي يُسمح بموجبها للجنود بإطلاق النار. وبعد أن ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أواخر الشهر الماضي أن القادة العسكريين أمروا الجنود بإطلاق النار على طالبي المساعدات، رفض الجيش الإسرائيلي هذه الاتهامات. ونقلت وسائل إعلام محلية عن ضباط كبار قولهم إن مدنيين قُتلوا بسبب نيران المدفعية “غير الدقيقة وغير المحسوبة”، وأن الجيش تحوّل منذ ذلك الحين إلى استخدام “أساليب أخرى”.
وأعلن الجيش الإسرائيلي الأسبوع الماضي أيضًا أنه أغلق مؤقتًا مركز توزيع المساعدات الواقع في منطقة تل السلطان في رفح، وأنشأ مركزًا جديدًا قريبًا منه لتقليل الاحتكاك مع السكان المحليين. وذكرت الأمم المتحدة أن عمليات إطلاق النار القاتلة استمرت خارج مراكز مؤسسة غزة الإنسانية.
منذ الأشهر الأولى للحرب على غزة، اعترض العديد من القادة العسكريين الإسرائيليين على وضع الجنود في مواقف يكونون فيها على مقربة من الفلسطينيين، أو يقومون بتوزيع المساعدات مباشرة على حشود من المدنيين، وذلك لأنهم كانوا يخشون من اندلاع الفوضى أو انفلات الحشود أو حوادث إطلاق النار، وذلك وفقًا لمسؤولين عسكريين إسرائيليين حاليين وسابقين شاركوا في عملية التخطيط لمؤسسة غزة الإنسانية.
وذكر أحد المسؤولين الحاليين، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لأنه غير مصرح له بالتحدث علنًا، حادثا وقع في فبراير/ شباط 2024، عندما حاصر حشد من الناس جنود الجيش الإسرائيلي الذين كانوا يحمون قافلة مساعدات، ففتحوا عليهم النار وقتلوا أكثر من 100 فلسطيني.

27 مايو/ أيار
عندما افتتح أول مركز من مراكز التوزيع الأربعة في حي تل السلطان في رفح في حوالي الساعة الثانية بعد ظهر يوم الثلاثاء 27 مايو/ أيار، لم يجذب في البداية سوى عدد قليل من الناس، كما يذكر الغزيون. فقد ساروا جنوبًا على طول طريق الرشيد الساحلي من منطقة تعرف باسم “فش فريش” في مدينة خان يونس، إلى مكان يُعرف محلياً باسم “دوار العلم”، قبل أن ينعطفوا إلى الداخل باتجاه موقع مؤسسة غزة الإنسانية.
وقد أعلن الجيش الإسرائيلي أنها منطقة عسكرية مغلقة، ما يعني منع الفلسطينيين من دخولها. وفقًا للصور الفوتوغرافية، كانت هناك على طول الطريق لافتات تحذرهم من الخطر إذا انحرفوا عن الطريق، وقال ناطق باسم الجيش الإسرائيلي إن الجيش لم يضع اللافتات، ولم يتضح من فعل ذلك.

قال محمد، البالغ من العمر 26 عامًا، إن كل شيء كان يبدو هادئًا بينما كان ينعطف يسارًا على طول المسار الأخير المؤدي إلى موقع المساعدات. دخل عبر ممر مسيّج، وتم تفتيشه بحثًا عن سلاح، قبل أن يُسمح له بأخذ علبة من زيت الطهي وبعض الشاي والأرز.
ويتذكر محمد أن التجمّع في الشوارع الخارجية بدأ يتزايد مع انتشار خبر افتتاح مركز الطعام في خان يونس، وقال شهود عيان إن العدد بلغ الآلاف. تحوّل الوضع في النهاية إلى فوضى، حيث قام بعض سكان غزة بسحب الأسوار المحيطة وهم يتسابقون للوصول إلى المساعدات.
وفقًا لأربعة شهود عيان فلسطينيين، بدأ إطلاق نار باتجاه الحشد بعد الساعة الرابعة بقليل، وكان قادمًا من مكان قريب من موقعين شاهدوا فيهما دبابات إسرائيلية أو طائرات “كواد كابتر” مسيرة. قال بهاء شراب (49 عامًا)، إنه شاهد ما يحدث بعد اصطدامه بالأرض: “بدأ إطلاق النار عندما [غادر] الناس المسار الذي حدده لهم الجيش”.
يُظهر مقطع فيديو من عصر ذلك اليوم، نشره الصحفي المحلي تامر قشطة، وتحققت منه صحيفة “واشنطن بوست”، عددًا من الفلسطينيين يناشدون أحد المقاولين طلبًا للمساعدة عبر السياج السلكي. صرخ المقاول من خلال السياج: “أقسم بالله، نريد سلامتكم”. قال بالعربية: “إذا لم تذهبوا، ستهاجمكم الدبابات”.
وفي بيان صدر تلك الليلة، قال الجيش الإسرائيلي إنه أطلق “طلقات تحذيرية في المنطقة خارج المركز”.
وقال مهند قشطة، وهو صحفي محلي آخر، إن طلقات نارية يُعتقد أنها تحذيرية، انطلقت بعد وقت قصير من رؤيته مجموعة من الأطفال ينحرفون عن الطريق. لكن الناس المتجهين نحو مركز الإغاثة على طول الطريق المُعتمد استمروا في الركض نحوه. قال قشطة: “لقد فاق جوعهم ورغبتهم في الحصول على الطعام لأطفالهم خوفهم”.
حوالي الساعة السابعة مساءً، بدأت المصوّرة المحلية دعاء الباز بالتقاط صور لعدة دبابات شرق المكان الذي كانت تقف فيه، وقالت إن مركبة مدرعة أطلقت النار على الطريق أمامها بعد ذلك بوقت قصير. نُقل في ذلك اليوم 48 شخصًا إلى مستشفى الصليب الأحمر الميداني مصابين بطلقات نارية، وفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر.

1 يونيو/ حزيران
وقعت أحداث مماثلة في الأيام اللاحقة في محيط موقع تل السلطان. ففي يوم الأحد 1 يونيو/ حزيران، فتح المركز أبوابه في الصباح الباكر، وبدأ الناس بالتجمع قبل ذلك بساعات على أمل الوصول إلى الموقع قبل أن تنفد المساعدات.
كان محمد الغريب، وهو صحفي محلي، من بين الموجودين على طريق الرشيد الساحلي، بالقرب من دوار العلم، وقال إنه سمع طائرة إسرائيلية مسيرة تعلن للحشد المتوافد حوالي الساعة الرابعة صباحًا أن الموقع لن يفتح حتى الساعة السادسة صباحًا، وبعد فترة وجيزة بدأ إطلاق النار. قال أربعة شهود عيان في مقابلات أُجريت معهم إنهم رأوا إطلاق النار على الحشد قادمًا من عدة مواقع رأوا فيها دبابات أو طائرات “كواد كابتر” إسرائيلية.
وقال الجيش الإسرائيلي إن جنوده فتحوا النار على بعد كيلومتر واحد من موقع التوزيع، وأضاف: “تحركت قوات الجيش الإسرائيلي لمنع العديد من المشتبه بهم من الاقتراب. تم إطلاق طلقات تحذيرية باتجاه عدة مشتبه بهم”.
وأظهر مقطع فيديو قدمته مؤسسة غزة الإنسانية لصحيفة “واشنطن بوست” إطلاق ثلاث قذائف تتبعية (وهي ذخيرة تترك أثرًا ضوئيًا للمساعدة في تحديد الأهداف) فوق مركز التوزيع.
قال معاذ قشطة الذي كان يسعى للحصول على المساعدة: “كان الجميع يركضون”. وأضاف أن جزءًا من المشكلة هو أنه ” لم يكن أحد يعرف الطريق”.
وذكرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن 200 شخص نُقلوا إلى المستشفى الميداني للصليب الأحمر، معظمهم مصابون بطلقات نارية، وتوفي واحد وعشرون منهم عند وصولهم، ونُقل مصابون آخرون إلى مرافق طبية أخرى، وفقًا للأطباء في تلك المواقع.

كان يوم الثلاثاء الموافق 3 يونيو/ حزيران أكثر دموية، حيث قال شاهدا عيان إنهما شاهدا إطلاق نار مباشر على الحشد قادمًا من مواقع شوهدت فيها القوات الإسرائيلية.
وقال الصحفي مهند قشطة إن إطلاق النار بدأ أثناء ركضه مع حشد كبير نحو موقع التوزيع، وأضاف: “كان هناك إطلاق نار مستمر على المدنيين الذين يحاولون الحصول على المساعدات. لماذا أطلقوا النار علينا؟ لأننا دخلنا من الاتجاه الخاطئ؟”.
وروى مجد سلامة أنه سقط أرضًا عندما بدأ إطلاق النار، وقال: “كان هناك إطلاق نار مباشر على الناس” الذين تجمعوا على طول الطريق الساحلي القريب في انتظار فتح المركز.
وأعلن الجيش الإسرائيلي في بيان له أنه أطلق النار على مقربة من الموقع هذه المرة – على بُعد نصف كيلومتر تقريبًا – بعد أن “رصدت القوات عدة مشتبه بهم يتجهون نحوهم، منحرفين عن طرق الوصول المحددة”. وقال الجيش إن الجنود أطلقوا طلقات تحذيرية، ثم “طلقات إضافية” بالقرب من الأشخاص الذين استمروا في التقدم. ولم يُدلِ الجيش الإسرائيلي بأي تعليق إضافي حول كيفية توجيه الطلقات التحذيرية.

في مقطع فيديو صوّره مهند قشطة على بُعد حوالي 600 متر من موقع مؤسسة غزة الإنسانية، يُمكن سماع رشقات نارية متلاحقة. وقال مهند إن الطلقات جاءت من دبابة إسرائيلية شاهدها جنوب الطريق مباشرةً.
في الفيديو الذي تحققت منه صحيفة “واشنطن بوست”، يُرى سكان غزة وهم يحملون أكياسًا بيضاء من المساعدات الغذائية وينطلقون بعيدًا عن الموقع باتجاه البحر. لكن أولئك الذين لم يحصلوا على المساعدات واصلوا السير نحو موقع التوزيع على طول المسار المُعتمد. في لحظة ما، يظهر وميض أحمر من رصاصة كاشفة عبر الطريق مع دوي طلقات نارية. كان مسار الرصاصة الكاشفة أفقيا، قريبًا من مستوى الرأس أو أعلى منه بقليل، وفقًا لخبيرين راجعا الفيديو.
قال ويس براينت، الخبير السابق في العمليات الخاصة للقوات الجوية الأمريكية والرئيس السابق لقسم تقييم الأضرار المدنية في البنتاغون: “مسار القذيفة ليس المسار الذي أتوقعه لطلقة تحذيرية، خاصةً في حالة إنسانية مليئة بالمدنيين”. وأضاف: “لا يُفترض أن تُصيب الطلقات التحذيرية الشخص الذي تُحذره”.
وأفادت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن مستشفى الصليب الأحمر الميداني استقبل 176 شخصًا، معظمهم مصابون بطلقات نارية، بالإضافة إلى 27 شخصًا توفوا فور وصولهم أو بعد ذلك بوقت قصير. وتلقى ضحايا آخرون العلاج في مواقع أخرى، وفقًا لعدد من الأطباء.
المصدر: نيويورك تايمز