منذ أن شبّت طهران عن طوق الغرب باندلاع الثورة الإسلامية بقيادة الخميني عام 1979، والتي أطاحت بنظام الشاه الذي استقدمه الغرب؛ بدأت واشنطن بقياس العمق الذي قد يبلغه النظام الجديد، وما هي أنجع الأساليب لتطويعه وتهذيب تمرّده.
تدرّجت الولايات المتحدة في سلسلة ضخمة من العقوبات، سنّتها إمّا من خلال القرارات التنفيذية للرؤساء الأمريكيين، أو من خلال القوانين التي أقرّها الكونغرس، مستهدفة قطاع النفط والصناعات الإيرانية والقطاع العسكري والشبكات المالية والمصرفية. وبذلك، عملت واشنطن وحدها تارة، وبتحالفات دولية متعددة الأقطاب تارة أخرى، وتنوّعت مبرّراتها ما بين دعم الإرهاب، والطموح النووي، والانتهاكات الداخلية لحقوق الإنسان.
طوال أربعة عقود ونصف، جرّبت واشنطن أساليب عدّة، وتنوّعت وجهات نظرها حول السبل الأسلم لتطويع طهران، باختلاف ساكن البيت الأبيض؛ فتدرّجت بين الدبلوماسية الناعمة وسياسة “الضغط الأقصى”، كما وظّفت اللعب مع نظام الخميني في الخفاء، في ساحات أغلبها بعيدة عن واشنطن كما هي بعيدة عن طهران، من خلال حروب الوكالة وسياسات الظل.
دُفعت طهران للبحث عن البدائل وبناء تحالفات مناوئة، وما إن دقّت ساعة الصفر بهجمات متبادلة مباشرة بين البلدين، حتى كان هناك إرث ثقيل من التوازنات والتحالفات، خُشي مع انهياره من الفراغ والفوضى، فشكّل كوابح لكلا الطرفين.
ما هي سياسة العقوبات التي فرضتها واشنطن على طهران؟ كيف وظّفتها لمحاصرة النظام والتموضع ضمن التحالفات الدولية؟ هل من دور للمعارضة وللخلافات الإيرانية الداخلية؟ وأي أثر حملته هذه العقوبات على شوارع طهران؟ ما هي البدائل التي أسستها إيران؟ وكيف صار الفراغ فيها هاجسًا للسياسة الأمريكية؟ يحاول هذا المقال ضمن ملف “ذاكرة العداء” الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها.
مسلسل طويل من العقوبات
لم تتأخّر الولايات المتحدة كثيرًا في محاصرة النظام الجديد بعيد اندلاع الثورة الإيرانية؛ وقد وجدت ضالّتها في أحداث السفارة الأمريكية بطهران، التي أسفرت عن احتجاز رهائن أمريكيين لما يربو على 400 يوم، من قِبل طلاب إيرانيين غاضبين طالبوا واشنطن بتسليم الشاه، اللاجئ لديها، ليُحاكم في بلاده. ومنذ ذلك الحين، تتابع مسلسل العقوبات حتى بلغ عشيّة السابع من أكتوبر 2023 نحو 1615 حزمة عقوبات أمريكية على طهران.
فرضت إدارة كارتر، استجابةً لأزمة الرهائن، تجميدًا على أصول طهران في الولايات المتحدة بلغت حينها قرابة 8.1 مليار دولار أمريكي، كما فرضت حصارًا تجاريًا كاملًا معها حتى يتم الإفراج عن الرهائن، وذلك بموجب القرار التنفيذي 12170. وقد رُفعت هذه العقوبات عقب انتهاء الأزمة عام 1981، بموجب “اتفاق الجزائر“.
كانت تلك أول مرة تفرض فيها الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية استنادًا إلى “قانون الطوارئ الاقتصادية الدولية” (IEEPA)، الذي يتيح للرئيس الأمريكي فرض عقوبات اقتصادية على دول أجنبية بدافع حماية الأمن القومي الأمريكي، وقد أصبح هذا القانون، في العقود التالية، أساسًا لحزم واسعة من العقوبات فرضتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة على طهران.
فتح الرئيس رونالد ريغان بابًا جديدًا للعقوبات على طهران، أعادها إلى أصلها المرتبط بالطبيعة الأيديولوجية للنظام، بوصفها منطلقًا للصراع، فقد تمّ وصم طهران برعاية الإرهاب العالمي، ومُنعت من تجارة السلاح، وهو ما تطوّر لاحقًا إلى فرض حصار على وارداتها، وقد ترافقت عقوبات ريغان مع حرب الخليج الأولى، إذ فرضت واشنطن حينها حظرًا على تجارة السلاح مع إيران، ومنعت تقديم أي نوع من المعونة لنظامها.
لكنّ طبيعة العقوبات الشاملة لم تتبلور إلا في تسعينيات القرن الماضي، حين بدا لواشنطن أن نظام خامنئي قد تعافى أخيرًا من الضربات المتتالية في حرب الخليج الأولى، ومن الرعيل الأول من العقوبات الأمريكية، واستعاد قدرته على تطوير برنامجه النووي، كما تمّ إدراج أذرع إيران في المنطقة على قوائم الإرهاب الأمريكية، ليبدأ منذ ذلك الحين سوط واشنطن في صَليِ قطاع الصناعات النفطية، ويمتدّ بعدها، بثبات وتدرّج، إلى بقية الاستثمارات والصناعات الإيرانية.
طوّر الرئيس بيل كلينتون الأساس القانوني لفرض العقوبات على طهران، منتقلاً من الاعتماد على القرارات التنفيذية إلى سنّ قوانين يصدرها الكونغرس خصيصًا لهذا الغرض، ففي عام 1996، أقرّ الكونغرس “قانون العقوبات الإيرانية-الليبية”، والذي تم تعديل اسمه لاحقًا إلى “قانون العقوبات الإيرانية” عام 2006 بعد تحييد نظام القذافي، وقد أصبح هذا القانون لاحقًا أساسًا للعقوبات التي تتجاوز استهداف النظام الحاكم لتطال أطرافًا ثالثة تتعامل معه وتساهم في التخفيف من وطأة العقوبات الأمريكية، في ما سيُعرف لاحقًا بـ”نظام العقوبات الثانوية”.
طالت العقوبات مختلف مناحي الحياة الاقتصادية الإيرانية؛ من قطاع الطاقة والصناعات البتروكيميائية، إلى المعاملات المالية والمصرفية، مرورًا بالصناعات العسكرية والتكنولوجية، وصولًا إلى السلع والمنتجات ذات الاستخدام المزدوج، وذلك كوسيلة للضغط على نظام طهران من أجل الاستجابة للمطالب الأمريكية، وتعديل ما تصفه واشنطن بـ”السلوك العدواني” و”النفوذ الخبيث” في المنطقة.
ولم تقتصر العقوبات على الجهات الحكومية الإيرانية فحسب، بل طالت أيضًا أفرادًا وجهات خاصة، كما امتدّت نارها لتصل إلى جهات أجنبية تربطها بطهران علاقات اقتصادية، خصوصًا تلك المعنية بتصدير أو توريد أو شحن النفط الإيراني، وهكذا عانى النظام، ومعه الشعب الإيراني، تحت وطأة الركود الاقتصادي وشحّ السلع والتضخّم وتدنّي مستويات المعيشة، إلى جانب العزلة الدولية المتنامية في ظل تغوّل أمريكي متصاعد.
بين الدبلوماسية وسياسة الضغط القصوى
رغم أن أوباما بدأ مسيرته في البيت الأبيض بمزيد من العقوبات على طهران، والتي طالت بمجملها 655 جهة وفردًا إيرانيًا، إلا أن الساحة المتوترة بين طهران وواشنطن شهدت فسحة مؤقتة مع توقيع الاتفاق النووي JCPOA، الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة وشاركت فيه كبريات دول أوروبا الغربية، وقد تضمّن الاتفاق تجميدًا للبرنامج النووي الإيراني مقابل رفع تدريجي للعقوبات الأمريكية وغيرها عن طهران.
كان أول ما تمّ رفعه هو العقوبات الثانوية التي تمنع جهات غير أمريكية من التعامل مع طهران، فبدأت أوروبا برفع العقوبات الاقتصادية والمالية المرتبطة بالبرنامج النووي عن إيران، واستأنفت تجارة النفط معها، كما حدّدت الأمم المتحدة فترة انتقالية لرفع العقوبات عن طهران، خاصةً حظر الأسلحة الذي انتهى مفعوله في أكتوبر من عام 2020، ولم تنجح الولايات المتحدة في تجديده.
من ناحيتها، وضعت واشنطن خطة عمل لتخفيف ورفع العقوبات عن طهران؛ فبعضها رُفع مباشرة، كالتشديدات على التعاملات المالية، وتجميد الأصول، وصادرات النفط، وبعضها الآخر تمّ ربطه بمدد زمنية محددة (عشر سنوات أو خمس عشرة سنة) تتعلق ببرنامج إيران النووي وصناعاتها العسكرية.
لكن هذه الفسحة لم تدم طويلًا؛ إذ جاءت إدارة ترامب الأولى بسياسة متشددة تجاه طهران، حيث وقّع على قانون متخصص بـ”مواجهة أعداء أمريكا عبر العقوبات”، وأضاف الحرس الثوري الإيراني إلى قائمة المنظمات الإرهابية، ما آذَن بإيقاع حزمة غير مسبوقة من العقوبات على طهران، شملت تجميد الأصول، وتقييد الحركة، وملاحقة الأطراف الثالثة التي تتعامل مع طهران في تحدٍّ لعقوبات واشنطن.
فيما عُرف بسياسة “الضغط القصوى”، أعاد ترامب فرض كافة العقوبات الاقتصادية على برنامج إيران النووي، كما فرض حزمة من العقوبات الثانوية طالت جهات غير أمريكية تتعامل مع طهران ماليًا واقتصاديًا، وقد بلغت في مجملها 960 عقوبة على جهات وأفراد، وإضافة إلى العقوبات السابقة، أدرجت إدارة ترامب الأولى 37 بنكًا حكوميًا وخاصًا إيرانيًا ضمن قائمة الجهات الخاضعة للعقوبات SDN، إلى جانب شركة النفط الوطنية الإيرانية.
رافق هذه الحملة الأمريكية المتطرفة حملة عالمية مماثلة؛ إذ أدرجت مجموعة العمل المالي FATF، وهي الهيئة العالمية لمراقبة تدفق الأموال، إيران على قائمتها السوداء، لتعود طهران إلى المربّع الأول من العزلة الدولية، ولكن في وضع أسوأ مما كانت عليه سابقًا.
ورغم أن العقوبات واصلت طريقها في عهد بايدن، الذي وجد نفسه في مأزق بين العودة إلى سياسة أوباما أو الانفصال عن إرث ترامب الفوضوي المتطرف، إلا أن الأزمة الدولية التي خلّفها الأخير رأت انفراجة جزئية في ظل رفع متواضع لبعض العقوبات، تمثّل في الإفراج عن جزء من أصول طهران المجمدة في الخارج، مقابل إطلاق سراح بعض السجناء الأمريكيين المحتجزين لدى طهران، ومحاولة خجولة لاستئناف الاتفاق النووي لم تُكلَّل بالنجاح.
وما إن عاد ترامب إلى المكتب البيضاوي، حتى أعاد إحياء سياسة “الضغط القصوى” بموجب مذكرة الأمن القومي الرئاسية رقم 2، التي أصدرها في فبراير/شباط من العام الجاري، إذ أعادت المذكرة تعداد الأسس التي ترى فيها واشنطن أن إيران تُشكّل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي، من برنامجها النووي، مرورًا بانتهاكات حقوق النساء، وصولًا إلى رعايتها لما تعتبره الولايات المتحدة “إرهابًا” في الشرق الأوسط، حيث تقف، بحسب تعبير المذكرة، “الولايات المتحدة وحلفاؤها من العالم المتحضّر في مواجهة نظام أصولي متطرّف يشكّل خطرًا وجوديًا عليها”.
كما أعادت المذكرة فرض العقوبات التي تساهلت فيها إدارة بايدن، وأوصت بمحاصرة إيران خارجيًا ومحاولة قطع صلاتها التجارية مع الصين الشعبية بأي وسيلة، وفي الوقت ذاته، فاوضت إدارة ترامب طهران حول برنامجها النووي في سلطنة عُمان، مركّزة على الوسطاء الدوليين في قطاع النفط، وشركات الشحن العالمية، وبعض الشركات الصينية العاملة في القطاع النفطي أو الصناعات العسكرية، بسبب تعاملها المباشر مع طهران.
كيف ارتدت العقوبات على الشارع الإيراني؟
كان لطبيعة العقوبات الأمريكية وشمولها أثر بالغ على الاقتصاد الإيراني والمجتمع واحتياجاته الإنسانية؛ ما هيّأ المناخ لتداعيات داخلية وإقليمية وعالمية طالت الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة.
يُعد قطاع النفط من أكثر القطاعات تضررًا بسبب العقوبات، خاصةً كونه المصدر الرئيسي للدخل في طهران، فقد انخفضت صادرات النفط الإيرانية بشكل دراماتيكي في السنوات الأخيرة، لا سيّما في ظل سياسة ترامب المتطرفة تجاه إيران؛ فبعد انسحاب إدارته من الاتفاق النووي عام 2018، تراجعت صادرات إيران إلى نحو الخُمس، وبلغت في أسوأ حالاتها 400 ألف برميل يوميًا، بعد أن كانت تُصدّر ما يقارب 2.5 مليون برميل يوميًا قبل عام 2017.
وتحت وطأة الفصل عن النظام المالي العالمي المعروف بـ”سويفت”، وفرض عقوبات على البنوك الوطنية الإيرانية، انهارت قيمة العملة سريعًا، فقد الريال الإيراني، منذ الانسحاب من الاتفاق النووي، نحو 80% من قيمته، ما أدى إلى تضخّم فاق، وفقًا لتقديرات مستقلة، نسبة الـ42% التي تعلنها السلطات الإيرانية رسميًا.
ومع محاصرة الصناعات وانكماش الناتج المحلي، تقلّص النمو الاقتصادي داخليًا، ودخل في حالة من الركود، ساهمت فيها محدودية المنافذ التجارية، إذ حدّت العقوبات من قدرة طهران على التفاعل مع النظام المالي العالمي، وشهدت المرحلة التي وسّعت فيها واشنطن من حصارها لإيران، عبر تحالفات أممية ودولية، خاصة مع دول أوروبا الغربية وبعض القوى الوازنة في الشرق مثل اليابان، تعقيدًا حادًا للمشهد الاقتصادي الإيراني.
لم تنجُ السلع الإنسانية من أدوية ومواد غذائية من تداعيات العقوبات، رغم الادعاءات التي تشير إلى إعفاء هذه السلع من المنظومة العقابية، غير أن العقوبات التي طالت القطاع المصرفي أثّرت على القدرة الشرائية للحكومة، وبالتالي على إمكانية تأمين واردات السلع الأساسية، كما أن عزوف البنوك ومؤسسات التمويل الدولية عن التعامل مع إيران، خشية التعرض لعقوبات أمريكية ثانوية، أثّر بشكل مباشر على التعاملات المالية المخصصة لأغراض إنسانية، خصوصًا في الغذاء والدواء.
وقد أشار المقرّر الخاص المعني بحقوق الإنسان في إيران إلى أن أثر العقوبات “المؤذية والظالمة” لا يقتصر على الأمن الغذائي والمعدّات الطبية والسلع الدوائية، بل يشمل أيضًا قدرة الأمم المتحدة على الاستجابة وسدّ النقص من خلال برامجها الغذائية والصحية المحدودة أصلاً داخل البلاد.
من جهة أخرى، سلّط تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” الضوء على التدهور الكبير في قطاع الصحة الإيراني نتيجة العقوبات الأمريكية، ما أثّر على توفّر الأدوية الأساسية في الأسواق، وأشار التقرير إلى عجز حكومي وخاص على حدّ سواء في تأمين الأدوية والمعدات الطبية اللازمة للمستشفيات والمنشآت الصحية، بالتوازي مع ضعف قدرة الأسر الإيرانية على شراء ما يتوفّر منها، ما تسبّب في أزمة صحية متفاقمة.
وعانت إيران، كذلك، من ارتفاع حاد في معدّلات البطالة، وهجرة نشطة للكفاءات والعقول، وركود إنساني واقتصادي عام، تركها في حالة هشّة، ودفعها للبحث عن بدائل بعيدة عن مقصلة الرقابة الأمريكية.
الغرب متحدًا في حصار طهران
نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في حشد الدعم الغربي والأممي لمحاصرة طهران منذ البدايات المبكرة للأزمة بين البلدين؛ إذ سارعت أغلب دول أوروبا الغربية، وبعض الدول الشرقية الوازنة مثل اليابان، إلى فرض عقوبات على نظام الخامنئي مباشرة بعد اشتعال أزمة الرهائن، لتبدأ طلائع التحالفات الدولية المعاصرة بالتشكّل.
من جهة، لدينا القوى الغربية الحليفة لواشنطن، والتي سعت إلى فرض عقوبات مشابهة على طهران، ومن جهة أخرى، نجد الصين والاتحاد السوفيتي (الذي حلّت محله روسيا بعد انهياره) يعملان على توفير منفذ للاقتصاد الإيراني، إلى جانب الدعم العسكري بأشكال متعدّدة.
وقد انضمّ الاتحاد الأوروبي، بصورته الجمعية، إلى نظام العقوبات الذي فرضته واشنطن على طهران منذ عام 2011، بعد قطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران مطلع عام 2010، وللأسباب ذاتها التي تتذرّع بها واشنطن: البرنامج النووي، الانتهاكات الحقوقية، ودعم “الإرهاب”، إضافة إلى دور طهران في حرب روسيا وأوكرانيا مؤخرًا.
ومنذ ذلك الحين حتى اليوم، يواصل الاتحاد الأوروبي تجديد حزم عقوباته، التي بلغت عشر حزم، وتستمر حاليًا حتى موعد تجديدها المرتقب في 13 أبريل/نيسان 2026، لتتفاوت شدّتها بحسب مقتضيات الظرف السياسي الراهن.
وعلى خلاف واشنطن، يركّز الاتحاد الأوروبي على الخطاب الحقوقي كأساس لعقوباته، مدّعيًا أنه يدعم “مصلحة وازدهار الشعب الإيراني”، ومستخدِمًا حقوق النساء كواجهة للعقوبات، إلى جانب ممارسات القمع مثل الإعدام والتعذيب والاعتقال التعسفي، وغيرها من الانتهاكات التي يرتكبها النظام ضد معارضيه.
وتنوّعت العقوبات الأوروبية بين تقييد حركة الأفراد، وتجميد الأصول الخاصة بالجهات والأشخاص، ومنع التعاملات التجارية أو المالية، وكذلك حظر توفير المعدات والمواد والسلع، وحتى التكنولوجيا التي يُحتمل استخدامها في القمع، ضمن تعريف فضفاض يصعب معه التمييز بين الاستخدامات المدنية والعسكرية، فتذهب الأولى ضحية للثانية، وقد بلغ عدد الأفراد المشمولين بالعقوبات الأوروبية 230 فردًا، مقابل 40 جهة إيرانية.
تماهى الاتحاد الأوروبي مرة أخرى مع الولايات المتحدة عقب الاتفاق النووي، الذي ضمّ الدول الست الكبرى إلى جانب واشنطن؛ فقام في يناير/كانون الثاني 2016 برفع كافة العقوبات الاقتصادية والمالية المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، بعد أن كان قد جمّدها منذ عام 2014.
غير أنّ الاتحاد حاول لاحقًا التحايل على عقوبات ترامب بعد انسحابه الأحادي من الاتفاق النووي، ساعيًا للإبقاء على علاقة تجارية “معقولة” مع طهران، في محاولة لإنقاذ الاتفاق ضمن ما اعتبره “أولوية أمنية” للاتحاد الأوروبي، لكنه عاد لاحقًا إلى فرض عقوبات تقييدية ابتداءً من عام 2023، إثر تخلّي كلٍّ من واشنطن وطهران عن التزاماتهما بموجب الاتفاق.
أما على المستوى الأممي، فقد ركّز مجلس الأمن، منذ عام 2006، عقوباته على مدى التزام البرنامج النووي الإيراني بشروط ومتطلبات وكالة الطاقة الذرية، بتحريك مباشر من واشنطن، في إطار جهود قادها جورج بوش الابن ضمن حربه المفتوحة على “الإرهاب”، لكن العقوبات الأممية لم تطل صادرات النفط الإيراني على غرار العقوبات الأمريكية. حتى حظر الأسلحة الذي فُرض سابقًا على طهران، انتهى مفعوله في أكتوبر/تشرين الأول 2020، ولم تنجح واشنطن في تجديده، بفعل فيتو مزدوج من روسيا والصين، وتغيّب لافت لكل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا عن التصويت.
اقتصاد الظل وشبكات التهريب الإيرانية
لجأت إيران إلى ما يُعرف باقتصاد الظل للتحايل على نظام العقوبات الأمريكي، وقد تعددت روافد هذا الاقتصاد وواجهاته، فمن جهة، استخدمت طهران شبكات تهريب عالمية؛ إذ كشف تقرير لمنتدى الشرق الأوسط عن شبكات تهريب لصالح إيران تورطت فيها شركات طيران إيرانية، قامت بشحن مواد محظورة، من ضمنها أسلحة ومعدات عسكرية، من كل من عُمان وأندونيسيا خلال السنوات القليلة الماضية.
ساهمت شركات أندونيسية، إلى جانب شركات إيرانية، وعلى رأسها شركة “مهران للطيران”، في مساعدة طهران على تجاوز العقوبات، ويشير التقرير إلى 12 عملية تهريب شاركت فيها شركة “بي تي آسيا جلوبال إيرلاين” الأندونيسية خلال السنوات الثلاث الماضية فقط باتجاه إيران.
كما لجأت طهران إلى دول تُعتبر ملاذًا آمنًا لتعاملات الظل الاقتصادية، وعلى رأسها إمارة دبي؛ حيث عدّلت الحكومة الإيرانية منظومة تعاملاتها التجارية، لتدخل معظم المنتجات المحظورة إلى أسواقها عبر مزوّدين ونقاط شحن بواجهات دولية تحمل جنسيات متعددة. واستخدمت طهران آليات مشابهة لتوريد نفطها إلى الخارج، بما في ذلك إلى الصين، التي استوردت نسبًا قياسية من النفط الإيراني.
وقد ظلت الصين، طوال فترة العقوبات المشددة منذ إدارة ترامب، المشتري الأول للنفط الإيراني، لكنها أبقت على سرية نسب الاستيراد تجنبًا للتبعات المحتملة من جانب واشنطن، كما عنونت شحناتها عبر الإمارات وماليزيا وعُمان، واستمر هذا النهج حتى عام 2022، حين أعلنت الصين للمرة الأولى استيرادها المباشر من طهران، في تحدٍّ واضح لسياسات واشنطن.
وعلى الرغم من لجوء طهران جزئيًا إلى العملات الرقمية والمشفرة للوصول إلى النظام المالي العالمي، إلا أنها اعتمدت بشكل أساسي على مكاتب وشركات صرافة أجنبية تُدار من داخل الإمارات لتسهيل معاملاتها المالية، خصوصًا في قطاع الصناعات البتروكيميائية، فقد أشار تقرير صادر عن “أتلانتيك كاونسل” إلى أن شركة الخليج الفارسي للصناعات البتروكيميائية (PGPICC)، التي تخضع للعقوبات الأمريكية، نجحت في بيع منتجاتها بمليارات الدولارات لمشترين أجانب عبر هذه الشركات، التي أخفت هوية الشركة الحقيقية، وسهّلت عمليات الدفع من خلال واجهات مالية.
بناءً على ذلك، اتهمت واشنطن طهران بتأسيس شبكة سرية للتمويل والتجارة تعمل على غسل مليارات الدولارات لصالح نظام الخامنئي، وقد فرضت الولايات المتحدة مؤخرًا عقوبات على عشرات الأفراد والجهات المتورطين، وفقًا لها، في نشاطات سوق سوداء تديرها طهران، عبر شركات أجنبية تعمل من الإمارات وهونغ كونغ، لبيع النفط ومنتجات خاضعة مسبقًا لعقوبات أمريكية.
لم تكتفِ إدارة ترامب بفرض العقوبات على النظام المصرفي الموازي الذي أنشأته إيران للتحايل على العقوبات، بل قامت، عبر شبكة مكافحة الجرائم المالية التابعة لوزارة الخزانة، بإنشاء نظام تحذير عالمي لملاحقة هذه الأنشطة وإغلاق منافذها، وركز هذا النظام على مؤشرات الخطر المرتبطة بتجارة الأسلحة، وبيع النفط، والنشاطات المصرفية عمومًا/ كما أشارت مذكرة الأمن القومي الصادرة عن إدارة ترامب إلى ضرورة تبنّي معيار “اعرف عميل عميلك” (Know Your Customer’s Customer) في الشبكات المالية الأمريكية والدولية، لمنع التحايل الإيراني عبر واجهات أجنبية.
العقوبات في ميزان المعارضة والداخل الإيراني
تُعدّ علاقة المعارضة والداخل الإيراني بنظام العقوبات الأمريكية معقّدة إلى حدٍّ كبير؛ فمن جهة، اعتمدت واشنطن على المشهد الحقوقي المتأزّم في إيران، خاصة فيما يتعلق بحقوق النساء والأقليات الدينية، لتفرض مزيدًا من العقوبات، وتحاول من خلالها إيجاد موطئ قدم لها بدعم وتمويل جهات معارضة إيرانية بهدف زعزعة النظام من الداخل، وقد عملت بعض أصوات المعارضة، سواء في الداخل أو في المهجر، كنقاط تزويد بالمعلومات للولايات المتحدة، إضافة إلى جهودها في تحريك وتأليب الشارع الإيراني ضد النظام الحاكم.
لكن المعارضة لم تكن دائمًا على الجبهة نفسها فيما يتعلق بالعقوبات الأمريكية على طهران؛ ففي مقال نشره موقع “The American Conservative”، تعالت أصوات بعض أطياف المعارضة، خاصة تلك الموجودة في الداخل، مطالبة برفع العقوبات عن إيران، ومعتبرةً أنها تُشكّل عائقًا أمام الجهود الإصلاحية داخل البلاد، وتُصعّب عمل المعارضة في ظل ما تمنحه من شرعية وغطاء للنظام الحاكم.
من جهة أخرى، دفعت العقوبات الصارمة، وما خلّفته من معدلات تضخّم وبطالة، فئات واسعة من الشعب الإيراني إلى الشارع، فبعض هذه التحركات كانت مدعومة من المعارضة، مثل “المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية”، الذي يربط باستمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية بفساد النظام وسياساته.
وبرز من بين الاحتجاجات التي قادتها المعارضة واتّهم النظام فيها أيادي واشنطن الخفية، تلك التي تلت مقتل مهسا أميني أثناء الاحتجاز عام 2022، واحتجاجات الوقود المعروفة بـ”احتجاجات نوفمبر الدامي” عام 2019، والتي رأت فيها واشنطن نجاحًا لمساعيها في محاصرة نظام خامنئي وتأليب الشارع الإيراني ضده، وقد تجددت هذه الاحتجاجات مرة أخرى بين عامي 2022 و2023.
وكان هذا الهدف غير المعلن لتحريك الشارع الإيراني بنار العقوبات حاضرًا دائمًا في الاستراتيجية الأمريكية؛ إذ توقعت وزارة الخزانة الأمريكية، المسؤولة عن هندسة نظام العقوبات على طهران، أن يؤدي هذا النظام مع الوقت إلى اختناق اقتصادي وعزلة مالية متزايدة، فيما صرّح وزير الخارجية الأمريكي الأسبق مايك بومبيو، في مقابلة مع شبكة “CBS” في فبراير/شباط 2019، بأن “العقوبات الأمريكية صعّبت أوضاع الشعب الإيراني، ونحن في الإدارة مقتنعون بأنها ستقودهم إلى الثورة وإرغام النظام على تغيير سلوكه.”
في المقابل، اعتبرت الحكومة الإيرانية هذه الاحتجاجات مبررًا كافيًا لإحكام قبضتها على الداخل وملاحقة أطياف المعارضة، متّهمةً إياهم بمحاولة زعزعة الاستقرار والانقلاب على الحكومة، وموظّفة العقوبات الغربية لتجديد شعبيتها وتعزيز شرعية “نضالها” ضد الولايات المتحدة والغرب باعتبارهما عدوّين أصيلين للشعب الإيراني.
وقد عززت الحكومة هذا التوجّه بإطلاقها نظرية “الاقتصاد المقاوم”، التي تقوم على زيادة الاعتماد على الإنتاج المحلي، وتوثيق الصلات مع الاقتصادات “الصديقة” كالصين وروسيا، مع تحميل التدخّل الأمريكي والغربي، حتى في ملفات الفساد الداخلي، مسؤولية التدهور والمعاناة الاقتصادية.