حراك سياسي مكثف، شهدته – ولا تزال- العاصمة الأمريكية واشنطن، بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وفريقه المفاوض، من جانب، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب وطاقم عمله الدبلوماسي والبرلماني من جانب أخر، لمناقشة سبل الخروج من الوحل الغزي والتوصل لاتفاق تهدئة وإبرام صفقة تبادل.
وكان ترامب قد عقد اجتماعين مع نتنياهو خلال 24 ساعة فقط، الأول مساء الاثنين السادس من يوليو/تموز حيث التقيا على مأدبة عشاء في البيت الأبيض، والثاني مساء اليوم التالي، وهو الاجتماع الذي استمر نحو 90 دقيقة كاملة، كانت غزة محوره الرئيسي بناء على طلب الرئيس الأمريكي، وقد انتهيا دون الإدلاء بأي تصريحات عما تضمنه الاجتماعان من تفاصيل ومشاورات.
يتزامن هذا الحراك مع استمرار المفاوضات غير المباشرة في العاصمة القطرية الدوحة عبر وسطاء دوليين، في محاولة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتذليل العقوبات وسد الفجوة بين الطرفين بشأن النقاط الخلافية بينهما، فيما ذكرت وسائل إعلام أن وفدًا قطريًا سافر إلى الولايات المتحدة للانخراط في المفاوضات بشكل مباشر مع الإدارة الأمريكية.
المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، أبدى تفاؤله بشأن المفاوضات بين حماس و “إسرائيل” لافتا إلى أنه قد جرى حل ثلاث نقاط خلافية من أصل أربعة، معربًا عن أمله في التوصل إلى اتفاق بحلول نهاية الأسبوع الجاري، هذا في الوقت الذي يمارس فيه نتنياهو هوايته المفضلة في التسويف والمماطلة والابتزاز.
محور موراج.. نقطة الخلاف المتبقية
وفق ما ذكره موقع “أكسيوس” فإن النقطة الخلافية في المفاوضات تتعلق بانسحاب جيش الاحتلال من غزة، حيث تٌصر حماس على انسحاب كامل، معتبرة ذلك خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه أو الاقتراب منه، في الوقت الذي تصر فيه تل أبيب على البقاء في محور موراج بين خان يونس ورفح جنوبي قطاع غزة.
تشبث نتنياهو بالبقاء في هذا المحور الذي دٌشن قبل ثلاثة أشهر، أبريل/نيسان تحديدًا، يعتبر –بحسب إعلام عبري- مخالفا لتوصيات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ومنافيًا للهدف الذي أقيم من أجله، حيث كان جزءًا من سلسلة من الترتيبات العسكرية العلمياتية والإجراءات الأمنية الميدانية المؤقتة المرهون بقائها بالتوصل لاتفاق وإنهاء الحرب.
زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، أبدى تعجبه من موقف نتنياهو وإصراره على البقاء في هذا المحور، لافتا إلى أنه كان قرارا في الميدان، متسائلا: هل من المنطقي الاعتقاد أن هذا ما سيحسم مصير الأسرى المدفونين تحت الأرض؟ الآن فجأة أصبح محور موراج هو صخرة وجودنا؟
وهنا تساؤل: لماذا يٌصر نتنياهو على البقاء في موراج تحديدا؟.. المحور يفصل بين خان يونس ورفح جنوبي القطاع، والبقاء فيه يعني عمليًا فصل رفح عن قطاع غزة، ولوجستيًا استمرار التواجد العسكري الإسرائيلي بما يسمح له باستئناف عملياته في أي وقت ودون أي عراقيل.
البقاء العسكري في تلك المنطقة، أيًا كان مستوى وحجم البقاء، يخدم وبشكل كبير مخطط التهجير الذي يخطط له نتنياهو ومن خلفه ترامب وقبلهما اليمين المتطرف في الداخل الإسرائيلي، حيث حشر مئات الالاف من الغزيين في تلك المساحة الضيقة ودفعهم دفعًا، طواعية أو قسرًا، لمغادرة القطاع، وهو الهدف اللوجستي الأكبر الذي يسعى الإسرائيلي لتحقيقه حاليًا، بل ربما يكون مقدمًا على هدف تحرير الأسرى.
يمارس نتنياهو -بما يجيده من مراوغة- وحلفاؤه لعبة سياسية مكشوفة، تهدف لتحييد قطاع غزة، عبر نسفه ديموغرافيا وإعادة هندسته جيوسياسيًا، وإخراجه عن معادلة القضية الفلسطينية برمتها، بعدما كان الشوكة الأبرز في ظهر مخططات الاحتلال الاستيطانية، بما يمهد الطريق نحو الاستفراد بالضفة وقضمها مترًا مترًا، ثم التطرق لأحلام التوسع الحدودي حيث هوامش دول الطوق.
اختراقات مقبولة لبقية النقاط
شهدت المفاوضات هذه المرة اختراقات لافتة في عدد من النقاط، مقارنة بما كانت عليه الجولات السابقة، أبرزها المرونة التي أبدتها حماس بشأن عدد الأسرى الإسرائيليين المقرر الإفراج عنهم خلال فترة الهدنة المقررة بـ 60 يومًا، حيث تذهب التقديرات إلى موافقة الحركة على إطلاق سراح نصف الأسرى الأحياء (10 أسرى)، إضافة إلى جثامين 18 أسيرا على 5 مراحل خلال وقف لإطلاق النار يمتد 60 يوما.
وبحسب صحيفة “هآرتس” العبرية يشمل المقترح الإفراج عن 8 أسرى إسرائيليين أحياء في اليوم الأول لسريان الاتفاق، واثنين في اليوم الـ50، كما يتضمن تسليم 5 جثث أسرى إسرائيليين في اليوم السابع، و5 جثث في اليوم الـ30، و8 جثث في اليوم الـ60، في مقابل إفراج الجانب الإسرائيلي عن عدد كبير – غير محدد- من الأسرى الفلسطينيين الذين تحتجزهم.
ومن النقاط الخلافية التي حسمتها المفاوضات الراهنة، تلك المتعلقة بهوية من يقوم بتقديم المساعدات الإنسانية إلى غزة، حيث رفضت حماس استمرار تولي “مؤسسة المساعدات الإنسانية لغزة” القيام بهذا الأمر نظرًا للشكوك المحيطة بها وتواطؤها في استهداف الغزيين عبر مصائد الموت الممنهجة.
📌 الاتحاد الأوروبي: لا دليل على أن حمـ.ـاس تسرق المساعدات الإنسانية.
📌 الاتحاد الأوروبي يرفض التعامل مع "مؤسسة غزة الإنسانية" المدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة.
📌+ 170 منظمة إنسانية، بينها أوكسفام، والعفو الدولية، وأطباء بلا حدود، تطالب وقف "المخطط الإسرائيلي القاتل… pic.twitter.com/S2pjHPy7rj
— نون بوست (@NoonPost) July 9, 2025
وتم التوصل إلى تولي الأمم المتحدة أو منظمات دولية غير مرتبطة بإسرائيل أو حماس مسؤولية تسليم المساعدات في المناطق التي تنسحب منها قوات الجيش الإسرائيلي، وهذا يعني أن “مؤسسة المساعدات الإنسانية لغزة”، المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل، لن تتمكن من توسيع عملياتها في غزة، وقد تضطر إلى تقليص بعضها، وفق ما نقل موقع “أكسيوس” عن مصادر مطلعة على مسار المفاوضات.
وعن الضمانات الخاصة بعدم استئناف “إسرائيل” الحرب من جانب واحد بعد انتهاء هدنة الـ 60 يومًا، كما حدث في الهدنة السابقة، حيث طلبت حماس أن تكون الولايات المتحدة هي الضامن لهذا الأمر، أرسل ويتكوف إلى الحركة عبر رجل الأعمال الفلسطيني الأميركي بشارة بحبح، الذي يدير القناة الخلفية بين الولايات المتحدة وحماس، رسالة جاء فيها إن ترامب ملتزم بتمديد وقف إطلاق النار إذا استمرت المفاوضات بشأن إنهاء الحرب لأكثر من المدة المقررة.
نتنياهو والبحث عن صفقة مجانية
لم يكن بخلد نتنياهو حين استقل طائرته «جناح صهيون» المتجهة إلى واشنطن إلا الترويج لما يزعم أنه انتصار في جبهات القتال المتعددة، من غزة إلى لبنان ثم سوريا واليمن وصولا إلى إيران، لذا خيم الاحتفاء شكلا ومضونا على أجواء اللقاء الأول الذي جمعه بترامب على مآدبة العشاء الذي أعدها له في البيت الأبيض مساء الاثنين الماضي.
لكن وأمام تصاعد الانتقادات الداخلية والخارجية المطالبة بحلحلة الوضع في غزة، ارتأى نتنياهو توظيف ما حققه من إنجازات، لاسيما على الساحة الإيرانية، لحسم معركة القطاع، عبر إبرام صفقة تبادل يحقق بها أهدافه ويُكمل من خلالها الضلع الباقي في مثلث النصر المطلق الذي يتشدق به وجنرالاته بين الحين والأخر.
عاجل | المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان: إسرائيل تخطط لاحتجاز سكان غزة قسرًا في معسكر اعتقال مغلق فوق أنقاض رفح pic.twitter.com/HMIehwg2Ro
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) July 9, 2025
حاول رئيس وزراء الاحتلال، المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب بغزة، اختصار أهداف اجتماعه مع ترامب في التركيز على جهود تحرير الأسرى والقضاء على قدرات حماس العسكرية والإدارية، ومناقشة نتائج ما أسماه “النصر الكبير” الذي تحقق على إيران والإمكانات التي يتيحها.
وذكر خلال لقائه رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون ونائب الرئيس الأميركي في الكونغرس أن النتيجة النهائية لما تحقق من إنجازات وما يٌجرى الآن من اجتماعات مع ترامب، ستكون إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين، واستسلام حماس، وأن غزة لن تشكل تهديدا، مشيرًا إلى أنه لا يمكنه تحديد موعد لنهاية المفاوضات.
من الواضح أن بيبي يريد صفقة مجانية مع حماس، يجردها فيها من ورقتها الأهم وهي الأسرى، مستغلا فترة الهدنة الـ 60 يومًا، لاستنزاف تلك الورقة يومًا تلو الأخر، دون التزامات سياسية فوق كاهله، ثم يعاود القتال مرة أخرى دون سقف وبعدما يتخلص من الضغوط الممارسة عليه بسبب ملف المحتجزين.
ضغوط ترامب.. هل هي جادة بالفعل؟
وفق ما ذهبت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية فإن ترامب مارس ضغوطًا قوية على نتنياهو خلال اجتماعهما من أجل إنهاء الحرب في غزة، فيما نقلت الصحيفة عن مسؤول إسرائيلي قوله إن “ترامب قال لنتنياهو إنهما سيتحدثان حصريا عن غزة وأنه يجب حل ذلك، فالوضع في غزة مأساوي”، وعقب الاجتماع غادر بيبي دون الإدلاء بأي تصريحات علنية.
ترامب كان قد تعهد في وقت سابق بحل النزاع في غزة نهائيًا، وشدد على ضرورة إيجاد حل للحرب، وفي السياق نقلت شبكة سكاي نيوز البريطانية عن مصادر مطلعة على المفاوضات، أن الرئيس الأمريكي يعتزم تصعيد الضغوط على رئيس وزراء الاحتلال من أجل إنهاء الحرب، وقال مصدر أمريكي: “بدأ الضغط الأمريكي الليلة – في إشارة لمساء الاثنين الذي شهد أول اجتماع بينهما- وسيكون شديدا”، وهو ما أكده أيضا مصدر دبلوماسي شرق أوسطي.
بطبيعة الحال يسعى ترامب لاستثمار ما تحقق حتى الآن لجني أكبر قدر ممكن من المكاسب، وتصدير صورة رجل السلام الذي يستحق جائزة نوبل عن جدارة، وربما يرى في ملف غزة الورقة الأخيرة التي قد تغلب كفته في الظفر بتلك الجائزة التي يحلم بها، ومن ثم فإن أي تصعيد أو استمرار للتوتر في القطاع لا يصب في صالحه مطلقًا، خاصة مع تصاعد الانتقادات الداخلية والخارجية بسبب دعمه اللا محدود للكيان الإسرائيلي في تلك الحرب.
لكن هل معنى ذلك أن الرئيس الأمريكي سيمارس ضغوطَا على نتنياهو لأجل الدفع نحو إنهاء الحرب بأي صيغة اتفاق مطروحة؟ وهنا لابد وأن نفرق بين مسألتين، قدرته على ممارسة تلك الضغوط وإرادته في القيام بذلك، فمن حيث القدرة يمتلك الرئيس الأمريكي منطقيًا الكثير من الأوراق التي يمكن من خلالها إجبار نتنياهو على الرضوخ لاتفاق سريع وعاجل، غير أنه لا يريد ذلك في ظل المقاربات والحسابات التي يضعها نصب عينيه خاصة فيما يتعلق بدعم اللوبي الصهيوني وكتلة الإنجيليين البيض.
هذا الأمر يقود إلى الحديث عما يثار بشأن اتساع الفجوة بين الطرفين، وتصدير مشهد وجود خلاف في الرؤى بينهما، وهو ما يتعارض شكلا ومضمونا مع السياق العام والعلاقة الحميمية التي تربطهما رغم السمات الشخصية المختلفة، فكلاهما وجهين لعملة واحدة، يجمعهما هدف واحد وإن تباينت الدروب والاستراتيجيات، فهو أقرب لتبادل وتكامل أدوار أكثر منه تغريدًا عكس الاتجاه.
وتذهب كافة التقديرات إلى أن الرئيس الأمريكي الذي أنهى الحرب مع إيران بعد 12 يومًا فقط من اندلاعها قادر- إذا ما أراد- على إنهاء الحرب في غزة المستمرة لأكثر من 640 يومًا، فالذي يملك القدرة على إجبار الطائرات الإسرائيلية المحملة بالقاذفات أن تعود دون ضرب أهداف إيرانية بعدما وصلت إلى سماء طهران، قادر كذلك على فرض إرادته على جيش الاحتلال الذي لولا الدعم الأمريكي ما استطاع الاستمرار في الحرب لشهر واحد فقط.
للميدان القول الفصل.. ماذا عن المقاومة؟
تعلم المقاومة جيدًا أنها تدخل هذه الجولة من المفاوضات تحت ضغوط هائلة، من الداخل والخارج، غير أنها تدرك تماما حجم المراوغة الإسرائيلية والغطاء الأمريكي لها، ومحاولة تجريدها من ورقة الضغط الأهم التي بحوزتها عبر صفقة تهدئة هشّة لا تتضمن الشرط الأهم والمحوري وهو الإنهاء التام لوقف إطلاق النار والحرب في القطاع.
قادة المقاومة، سياسيًا وميدانيًا، يضعون في اعتباراتهم مساعي نتنياهو الحصول على صفقة مجانية، يحرر من خلالها أسراه، دون تكبيل نفسه بالتزامات وتعهدات خاصة بوقف إطلاق النار، هذا بخلاف مناورة الإسرائيلي المركبة من أجل الحفاظ على مكتسباته اللوجستية بالبقاء في محور موراج بما يجهض أي اتفاق تهدئة من جذوره.
المقاومة التي فرضت شروطها سابقًا تسعى اليوم لفرض مقارباتها ميدانيًا من خلال التصعيد من عملياتها النوعية وكمائنها الدقيقة التي كبدت الاحتلال خسائر فادحة وأربكت كافة حساباته ودفعته لإعادة تقييم المشهد بصورة أعم وأشمل، ناسفة وبشكل كلي كافة التقديرات الإسرائيلية التي تراهن على ضعف الفصائل وعدم قدرتها على مواصلة القتال.
— نون بوست (@NoonPost) July 8, 2025
وبعيدًا عن مراوغات نتنياهو سيكون الميدان الذي تعيد المقاومة هندسته حاليًا هو كلمة الفصل في حسم معركة المفاوضات الحالية، خاصة مع رفض حماس حتى مناقشة مسألة البقاء الإسرائيلي في محور موراج، الأمر الذي قد يدفع ترامب لإقناع نتنياهو بإبداء المزيد من المرونة والتخلي نسبيًا عن هذا التمسك بهذا الشرط بصيغته الحالية، والتوصل إلى اتفاق رسمي.
وهنا قد يجد رئيس وزراء الاحتلال في هذا الحل، مخرجا له أمام اليمين المتطرف، وتخفيف مسؤوليته أمامهم، بزعم أنه ما كان ليقبل لولا الضغوط الأمريكية، كذلك قد يكون ذلك مبررًا لموجة جديدة من الابتزاز والبحث عن مكاسب مقابلة سواء في الضفة الغربية أو على الجبهة الإيرانية أو في صورة دعم عسكري واقتصادي وأمني أمريكي، مع احتمالية طمأنة نتنياهو من أي ملاحقات قضائية كأحد محددات القبول باتفاق في غزة.
في الأخير ليس أمام المقاومة سبيل سوى التشبث بالانسحاب الإسرائيلي من كافة القطاع، حتى لو كان تدريجيًا كنوع من المرونة، وعدم إلقاء ورقة الأسرى هكذا دون ضمانات تحقق لها أهدافها من الصفقة، فيما تبقى الكرة اليوم في ملعب ترامب، الذي سيجد نفسه أمام اختبار سياسي وجودي، فإما أن يبرهن على زعامته وقدرته على فرض السلام كما يدعي، أو أن يرسخ صورته كـ “خاضع” لنتنياهو وبالونة منتفخة سرعان ما تنفجر مع أول تيار هواء يعترضها.