يعاني اليمن من حرب مستمرة منذ نحو عقد من الزمن، ترافقها كوارث طبيعية متعددة، ما ضاعف من حجم المعاناة الإنسانية، ورفع منسوب المخاطر التي يواجهها الصحفيون، ففي تقرير سابق لمنظمة اليونسكو في منطقة الخليج، أشار إلى أن الصحفيين اليمنيين يواصلون مواجهة الأخطار لتغطية قضايا حيوية، من بينها الأزمات البيئية المتفاقمة التي ترخي بظلالها على البلاد.
وأكد التقرير أن اليمن يواجه عددًا لا يُحصى من التحديات البيئية، حيث تسببت الكوارث الطبيعية المرتبطة بتغير المناخ، مثل الأعاصير والفيضانات وموجات الجفاف والانهيارات الأرضية، في أضرار واسعة النطاق خلال السنوات العشر الأخيرة.
ومع استمرار الصراع السياسي والعسكري، تتضاعف التحديات التي تواجه العمل الصحفي، وتتزايد الانتهاكات ضد الصحفيين، مما يجعل تغطية القضايا البيئية أو غيرها أمرًا محفوفًا بالمخاطر.
كما أوضح مرصد الحريات الإعلامية في اليمن في تقريره الصادر مطلع هذا الشهر، أنه وثّق 55 حالة انتهاك استهدفت صحفيين ومؤسسات إعلامية في البلاد خلال الفترة من يناير/كانون الثاني إلى يونيو/حزيران 2025، ما يمثل زيادة بنسبة تقارب 53% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024، التي سجلت 36 حالة انتهاك للحريات الإعلامية.
البيئة ليست أولوية… وأطراف النزاع لا تموّلها
منذ ثلاث سنوات، يعمل جمال (30 عامًا) في جمع الحطب من المناطق الريفية التابعة لمديرية عتمة في محافظة ذمار، شمالي اليمن، ثم ينقله لبيعه في أسواق العاصمة صنعاء. التحطيب هو الوسيلة التي يعتمد عليها في تحقيق الدخل المادي، وتأمين متطلبات المعيشة.
يشعر جمال بالامتنان لأنه يستطيع شراء ما تحتاج إليه أسرته من المواد الأساسية للعيش مثل الدقيق والأرز وزيت الطبخ، لكنه يعترف بوجود خطر محدق لا يدركه من يعيش بعيدًا عن تلك المناطق الريفية، فيقول في حديثه لـ “نون بوست”: “التحطيب يدمر الغطاء النباتي، ويسلب الطبيعة جمالها، ولا يوجد منقذ أو مدافع، أو حتى من يتحدث عن هذه القضية”.
في ظل الحرب، تركز الصحافة بشكل مفرط على الأحداث العسكرية والسياسية، ويسعى أطراف النزاع إلى توظيف الإعلام لخدمة أجنداتهم، عبر تمويل الوسائل الإعلامية المختلفة، من مواقع وإذاعات وقنوات تلفزيونية، وتجنيد عدد من الصحفيين. في المقابل، تبقى القضايا البيئية على هامش التغطية، وسط غياب الاهتمام بالصحافة البيئية في بلد تمزقه الحرب منذ أكثر من عقد.
اتسعت رقعة التصحر، وتدهورت الأراضي الزراعية، وتناقصت المياه الجوفية، وتضررت الأحياء البحرية، ومع ذلك لم تحظ هذه القضايا بتغطية إعلامية كافية، رغم خطورتها على الأرض والإنسان والثروة الحيوانية.
فاروق مقبل، صحفي يمني ورئيس تحرير منصة “يوب يوب”، يقول في حديثه لـ “نون بوست” إن هيمنة الجانب السياسي على المشهد في اليمن وعدم وجود صحفيين متخصصين بالبيئة من الأسباب الرئيسة التي تسهم في تهميش الصحافة البيئية.
يضيف مقبل: “يعتقد الإعلاميون والناشطون أن الحديث في الجانب السياسي أسهل لهم من الحديث في الجوانب العلمية المتخصصة مثل صحافة البيئة والمناخ”، ويؤكد أن الصحفيين في اليمن يهتمون بالسياسة والرياضة بالدرجة الأولى، والكثير منهم يعملون في وسائل إعلام حزبية.
كما يضيف بأنه من الواضح أن هذه المؤسسات الإعلامية تعطي الأولوية لتغطية الصراع السياسي والمواجهات المسلحة، وفي ظل هذا الوضع، وفقًا لمقبل، لم يسعَ الصحفيون إلى تطوير مهاراتهم وقدراتهم في العمل على أنواع مختلفة من الكتابات، وظلوا محصورين في دائرة الصحافة السياسية والحزبية.
مغامرة بلا أدوات ولا جمهور
الصحفي محمد السامعي، الذي عمل مراسلاً لعدد من الوسائل الإعلامية الدولية، يقول لـ “نون بوست” إنه أنجز تقارير صحفية تتناول قضايا البيئة في اليمن، إلا أنه واجه صعوبات متعددة خلال إعدادها.
ويضيف: “أبرز التحديات التي تعترض طريق الصحفي البيئي هي ندرة المتخصصين والخبراء في شؤون البيئة اليمنية، وهو ما ينعكس سلبًا على جودة المحتوى، ويضاعف من صعوبة تفسير الظواهر البيئية بشكل علمي. بالإضافة، تغطية بعض القضايا البيئية تتطلب زيارات ميدانية، وهذا الأمر ليس يسيرًا في ظل الحرب التي جعلت السفر من منطقة إلى أخرى تحديًا إضافيًا”.
يكمن التحدي الآخر، حسب السامعي، في غياب البيانات الرسمية حول المشكلات البيئية، ما يجعل الحصول على معلومات دقيقة وإحصائيات محدّثة أمرًا بالغ الصعوبة، ويُرجع ذلك إلى ضعف الاهتمام الحكومي بالبيئة، حيث لا تُعد هذه القضايا ضمن أولويات الجهات الرسمية، ما يُعيق الوصول إلى الوثائق والمصادر البيئية.
ينتقد السامعي توجهات معظم وسائل الإعلام اليمنية، قائلاً: ” إن غالبية وسائل الإعلام المحلية تركز على القضايا السياسية والعسكرية بسبب ارتباطها بأطراف الصراع، ما يجعل البيئة ملفًا مهمشًا”، ويضيف: “ما يُنشر عن القضايا البيئية لا يمثل أكثر من 5 إلى 10% من إجمالي التقارير الإعلامية في اليمن. هذا يعني أن قضايا البيئة ليست في قائمة أولويات معظم وسائل الإعلام في اليمن أو أن تغطية المشكلات البيئية لا تضمن لهم الدعم والتمويل من أطراف الصراع”.
يختم الصحفي السامعي حديثه بالقول: “عندما أفكر في إعداد مادة صحفية عن البيئة، أجد أن عدد الوسائل الإعلامية التي قد تبدي اهتمامًا بها قليل جدًا، فالقضايا البيئية لا تثير اهتمام هذه الوسائل، والصحافة البيئية خارج أولوياتها التحريرية والمالية، ونتيجة لذلك، تبقى الكوارث البيئية دون تغطية كافية”.
خطوات ممكنة
الحضور الهامشي للصحافة البيئية ليس مشكلة مستعصية على الحل، فهناك خطوات يمكن للصحفيين في عدد من المحافظات اليمنية اتخاذها لتجاوز الصعوبات، أو على الأقل التخفيف منها، أثناء تغطيتهم لموضوعات البيئة، مثل الفيضانات والتحطيب الجائر والتصحر وتراجع المياه الجوفية وتلوث الشواطئ.
أشرف الريفي، صحفي يمني وعضو في نقابة الصحفيين اليمنيين، يرى أن الصحافة البيئية في اليمن لا تزال خجولة، لكنه يعتقد بإمكانية تعزيزها عبر عدد من الخطوات.
ويقول في حديثه لـ”نون بوست”: “من الضروري أن يسعى الصحفيون إلى تنمية معرفتهم بالقضايا البيئية، إما من خلال التخصص أو المشاركة في دورات تدريبية، فالصحفي البيئي معنيٌّ بما يحيط به من طبيعة، ويجب أن يكون قادرًا على عرض القضايا البيئية بلغة واضحة ومبسطة، مع إضفاء بُعد إنساني عليها لتقريبها من الجمهور”.
كما يشدد الريفي على ضرورة أن يولي الصحفيون البيئيون في اليمن اهتمامًا كبيرًا بإجراءات السلامة المهنية، حرصًا على حماية أنفسهم وسلامة مصادرهم، مع ضرورة تجنّب تسييس القضايا البيئية أو توظيفها في سياقات الصراع السياسي أو العسكري.
ويتفق فاروق مقبل مع الريفي، ويؤكد أن دعم الصحافة البيئية يتطلب أيضًا وجود وسائل إعلام متخصصة في تغطية قضايا البيئة، ويقول: “عندما يدرك الصحفي أن هناك منصة تهتم بما سيكتبه، سيكون ذلك حافزًا له للتوجه نحو هذا النوع من الصحافة”.
تستطيع المؤسسات الإعلامية اليمنية أن تلعب دورًا في تقليص الجهل الشعبي والرسمي بتداعيات الكوارث البيئية، لكن ذلك يتطلب جهودًا إضافية، ورؤية تحريرية تضع الصحافة البيئية على رأس الأولويات.