منذ سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء في عام 2014، شهد اليمن تحولات جذرية في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية، أبرزها كان التضييق على حرية التعبير وفرض رقابة مشددة على الفضاء الرقمي، في وقت كان ينظر فيه إلى وسائل التواصل الاجتماعي كمنصات حيوية لتبادل الآراء والنقاشات السياسية، قبل أن تتحوا هذه الوسائل إلى أداة قمعية بيد جماعة الحوثي تستخدمها لترسيخ سلطتها وفرض روايتها السياسية على الشعب.
ومع مرور الوقت، أصبح الفضاء الرقمي في اليمن ساحة معركة بين الحق في حرية التعبير وبين محاولات القمع المستمرة، إذ لم تقتصر الرقابة على المحتوى فقط، بل تجاوز ذلك إلى ملاحقة الناشطين السياسيين، الصحفيين، والمواطنين العاديين الذين يجدون أنفسهم عرضة للاعتقال والتعذيب لمجرد نشر رأي أو موقف يعارض جماعة الحوثي، حيث باتت منصات الإنترنت تستخدم كأداة للضغط على المعارضين، في محاولة لاستئصال أي صوت ينادي بالحرية أو الإصلاح.
نشوان (اسم مستعار) تعرض للاعتقال والملاحقة الأمنية في أيلول العام الماضي بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث كان يستخدم منصته على “فيسبوك” للتعبير عن آرائه السياسية والاجتماعية، ولم يكن يتوقع أبدا أن تلك المنشورات ستكون سببًا في ملاحقته من قبل جماعة الحوثي.
يقول نشوان “لنون بوست “: كنت أكتب على فيسبوك لمجرد التعبير عن آرائي، كأي شاب في سني، لم أكن أتوقع أن يكون لذلك تأثير كبير، لكن الأمور سارت بسرعة إلى ما هو أبعد من ذلك.
ويضيف نشوان: “عندما رأيتهم في الخارج لاعتقالي شعرت كأن الأرض ابتلعتني، لم أتصور أن مجرد تعبير عن رأي يمكن أن يؤدي إلى ملاحقتي بهذا الشكل”.
وعلى الرغم من الحصار العسكري المفروض على منزله، قرر نشوان، الاختباء داخل المنزل لمدة شهر في حالة من الترقب الدائم، ومع تصاعد الضغوط، تدخلت عائلته للتفاوض مع السلطات، حيث تم توقيع تعهد بعدم نشر أي محتوى سياسي على الإنترنت، ومع استمرار المخاطر، قررت العائلة تهريبه إلى مدينة تعز، ومن ثم إلى خارج اليمن.
بينما تعرض “أبو يزن” (لقب) لضغوط شديدة قبل عشرة أيام من اعتقاله، حيث تم إجباره على حذف جميع الفيديوهات والمنشورات التي نشرها على حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي.
ويقول أبو يزن لـ”نون بوست”: “نزلوا إلي إلى مقر العمل، وأجبروني على حذف كل المحتوى السياسي، وعملنا لهم تعهدًا بعدم نشر أي منشورات عن جماعة الحوثي”.
ورغم التزامه بهذه التعليمات، تم اعتقاله في 26 سبتمبر2024، عندما كان يستعد للاحتفال بمناسبة ذكرى سبتمبر، وهو ما اعتاده في كل عام، رغم حذفه للمنشورات والفيديوهات حسب طلبهم.
الاعتقال لم يكن سوى بداية رحلة طويلة من التحقيقات، التي تضمنت أساليب نفسية شديدة. يقول أبو يزن: لا يمكن مقارنة التعذيب النفسي بأي تعذيب جسدي، كنت أعد الدقائق والثواني، وكل يوم يخبرني المحققون أنني سأخرج اليوم أو غدًا، هذا التلاعب بالأعصاب كان أشد من أي نوع آخر من التعذيب.
يختتم أبو يزن حديثه بالقول: “رغم صعوبة الأيام التي قضيتها في المعتقل، والذي أفرج فيه عني في 14 /11 /2024 فإنني أتذكر أصوات النساء والأطفال الذين كانوا يعانون مثلي”.
الصحفي محمد دبوان المياحي كان من الأشخاص الذين تم اعتقالهم في 20 سبتمبر 2024، بعد مداهمة مسلحين منزله في الساعة السادسة صباحًا.
ووفقا لأحد أقربائه، اقتحم ستة مسلحين يرتدون ملابس مدنية منزل المياحي، وقاموا باعتقاله أمام أعين زوجته وطفليه، في مشهد صادم أثار حالة من الذعر والرعب داخل المنزل. وبحسب قريبه، فإن عملية المداهمة نفذت بطريقة عنيفة وغير أخلاقية، دون أي احترام لحرمة المنزل أو الوضع الإنساني للعائلة.
المسلحون لم يكتفوا باعتقال الصحفي، بل عمدوا إلى مصادرة كافة متعلقاته الشخصية، بما في ذلك أوراقه الثبوتية، وأجهزته الإلكترونية مثل الهاتف والمحمول واللابتوب، بالإضافة إلى مستندات خاصة وحتى أدوات مكتبية بسيطة كأقلام الحبر.
ولا يزال المياحي معتقلًا في سجون الحوثي إلى اليوم حيث أصدرت في حقه حكم في السجن لمدة سنة ونصف، مع وضعه تحت المراقبة لمدة ثلاث سنوات تالية على انقضاء عقوبة.
الخوف من التفتيش في ظل الرقابة المشددة
لم تقتصر الاعتقالات على المنازل أو أماكن العمل فقط، بل شملت نقاط التفتيش أثناء السفر، حيث يتم تفتيش الهواتف للمواطنين بشكل دوري.
يروي مروان (اسم مستعار) تجربته لـ” نون بوست” مع نقاط التفتيش التابعة للحوثيين أثناء سفره بين مدينتي تعز وصنعاء، كلما اضطر للسفر بين المدينتين، كان مروان مجبرًا على حذف جميع محتويات هاتفه الذكي وتسجيل الخروج من حساباته الشخصية خوفا من التفتيش.
يقول مروان: كانت تلك النقاط أشبه بمراكز فحص هويات، حيث كان يجب عليك أن تظهر نفسك بأفضل صورة لتجنب أي ملاحقة أو تفتيش.
وفي إحدى المرات في العام 2021، وقع مروان في قبضة الحوثيين عند مدخل صنعاء، حيث تم تفتيش هاتفه واكتشاف منشور نقدي ساخر كان قد نشره على حسابه الشخصي حول الأوضاع السياسية في البلد، ولكنهم اعتبروه تهديدًا.
وبعد تفتيش محتويات هاتفه تم احتجازه لعدة ساعات تحت تهديدات الاعتقال إذا تكرر هذا التصرف، حيث يعلق مروان على تجربته قائلاً: باتت مجرد نكتة أو منشور ساخر بمثابة جريمة في نظرهم.
بينما يروي صدام (اسم مستعار ) تجربته مع القمع الذي تعرض له بسبب آرائه على منصات التواصل الاجتماعي قائلًا : لم أكن أدرك أن منشوراتي ستقودني إلى السجون السرية لجهاز الأمن القومي في صنعاء بعد أن تلقيت تهديدًا عبر اتصال هاتفي، وعندما رفضت الامتثال، تم تطويقي من قبل القوات العسكرية، التي اقتحمت منزلنا وقامت باعتقالي في أيلول العام الماضي.
يقول صدام لـ”نون بوست”: “نُقلت إلى سجن مظلم تحت الأرض، حيث قضيت أكثر من شهر في العزلة والتعذيب، ثم تم توجيه تهم تتعلق بـ “الخيانة” لمجرد انتقادي للأوضاع السياسية في اليمن، دون أن يسمح لي بالدفاع عن نفسي أمام محكمة قانونية.
يضيف: “اتهموني بسبب منشوراتي على وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يقتصر الأمر على اعتقالي فقط، بل هددوا عائلتي أيضًا، وهذه التهديدات كانت تهدف إلى إسكاتي بأي ثمن”، مؤكدًا إطلاق سراحه بعد شهر من اعتقاله مقابل حذف حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي وعدم النشر.
استهداف حرية الإعلام الرقمي
في ظل الأوضاع السياسية والرقابة المشددة على حرية الإعلام في اليمن، يبرز اسم طه أحمد راشد المعمري كإحدى القصص التي تلخص معاناة الإعلاميين في بلد يعاني من غياب الحريات.
المعمري، الذي كان يعتبر أحد رواد الإعلام الرقمي في اليمن، دفع ثمن حلمه في إعلام حر ومستقل، ليصبح ضحية للتهديدات المستمرة التي يتعرض لها الإعلاميون في ظل حكم الحوثيين.
في عام 2003، أسس المعمري شركة “يمن ديجيتال ميديا”، والتي كان هدفها إحداث نقلة نوعية في الإعلام اليمني الرقمي.
عبر شركته قدم المعمري خدمات البث والإنتاج الإعلامي لأكثر من 25 قناة محلية ودولية، وكانت “يمن ديجيتال ميديا” بمثابة منصة جديدة للإعلاميين والحقوقيين والناشطين في مجال حقوق الإنسان للتواصل مع العالم، في وقت كان فيه الإعلام التقليدي يعاني من الرقابة المفرطة.
لم يكن المعمري يطمح فقط إلى تطوير الإعلام الرقمي، بل كان يسعى إلى خلق بيئة إعلامية حرة أكثر انفتاحًا في اليمن، في وقت كان فيه الإعلام يرزح تحت قيود شديدة.
لكن هذه الطموحات بدأت تنهار في 18 أبريل 2021 عندما اقتحمت قوات الحوثيين مقر شركته في صنعاء وصادرت جميع معدات البث والإنتاج الإعلامي، في خطوة تهدف إلى القضاء على أي نافذة إعلامية حرة قد تشكل تهديدًا لنظامهم.
“في تلك اللحظة، انهار كل شيء”، كما قال المعمري في تصريح لموقع “نون بوست” لم أكن أتصور أبدا أن الإعلام الرقمي الذي عملت على تطويره طوال سنوات سيصبح هدفًا للتهديد والتهجير.
ويضيف المعمري لـ “نون بوست” في 18 أبريل 2021،اقتحم الحارس القضائي التابع للحوثيين مقر شركتي، مدعيا أنه ينفذ قرار حجز تحفظي، ليتبع ذلك بتوجيه اتهام غير قانوني لي بـ “التخابر مع دول العدوان”.
في نفس العام يقول المعمري: تحول العمل الذي كنت أقوم به في الحريات الرقمية إلى تهمة جاهزة للاعتقال، حيث تمت مصادرة جميع معدات البث والإنتاج الإعلامي الخاصة بشركتي، والتي كانت تستخدم لتوفير منصة حرة للمواطنين والصحفيين، أصبح العمل الذي كنا نقوم به في مجال الإعلام الرقمي، والذي كنت أدفع من خلاله رواتب موظفي، أداة قمع تستخدمها جماعة الحوثي لإغلاق أي نافذة للحرية في اليمن.
ومع تصاعد الأحداث، جاء 24 سبتمبر 2024 ليحمل حكما بالإعدام ضدي من قبل الحوثيين، إلى جانب مصادرة جميع ممتلكاتي، دون أن يمنح لي حتى الحق في توكيل محام للدفاع عني.
التهديدات السيبرانية والحملة المستمرة
تتصاعد الرقابة الرقمية في اليمن في ظل سيطرة جماعة الحوثي على مفاصل الدولة، وتعرض الحريات الرقمية للمزيد من التضييق، تشمل هذه السياسات العدائية كل وسائل الاتصال الرقمي من الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي إلى المكالمات الهاتفية، مما يؤدي إلى تكريس حالة من القمع الشامل في جميع الأبعاد الرقمية.
في هذا السياق، قال فهمي الباحث المدافع عن الحقوق الرقمية لـ “نون بوست”: منذ الأيام الأولى للإنقلاب الحوثي، شهدت اليمن تراجعًا خطيرًا في وضع الحريات الرقمية، حيث بدأت جماعة الحوثي في تنفيذ سياسة قمعية لحجب المواقع الإخبارية والمواقع المناهضة لها، في خطوة تؤكد نواياهم في تقييد حرية التعبير.
وأكد فهمي أن هذه السياسات تتجاوز حجب المعلومات إلى اعتقال الصحفيين والناشطين الذين عبروا عن آرائهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو نشروا مقالات تنتقد الجماعة. مشيرًا إلى أن الناس أصبحوا يتجنبون نشر أي محتوى قد يعرضهم للملاحقة أو التهديد، لا سيما في المناطق التي تسيطر عليها الجماعة.
وتحدث الباحث عن أن الحوثيين سيطروا على شركات الاتصالات ومزودي خدمات الإنترنت في اليمن، مما منحهم القدرة على مراقبة المكالمات الهاتفية وتتبع الأفراد وجمع بيانات حساسة، مما يشكل تهديدًا خطيرًا للخصوصية وحريات الأفراد في المناطق التي يسيطرون عليها.
و عن تزايد الرقابة الإلكترونية في اليمن، أشار المدير التنفيذي للمركز الأمريكي للعدالة، عبد الرحمن برمان، في حديثه “لنون بوست” إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت المتنفس الوحيد للمواطنين اليمنيين للتعبير عن معاناتهم والمطالبة بحقوقهم، لكنها في ذات الوقت تحولت إلى أداة في يد الحوثيين لاستهداف المعارضين.
وأضاف برمان قائلاً: الكثير من الصحفيين والناشطين اضطروا إلى مغادرة مناطق سيطرة الحوثيين أو استخدام حسابات وهمية خوفًا على حياتهم، لقد أصبح القمع الرقمي سمة واضحة لجماعة الحوثي، حيث تم استخدام الشبكة كأداة لاستهداف كل من يعبر عن رأيه بحرية، جماعة الحوثي تستغل هذا الفضاء الرقمي لتحجيم الحريات، متخذة منه وسيلة لمراقبة كل ما يتم نشره.
وتابع قائلاً: القمع الرقمي في اليمن لا يقتصر على المراقبة فحسب، بل يتعدى ذلك إلى الاعتقالات والتعذيب في بعض الحالات، الصحفيون والناشطون باتوا يواجهون تهديدات متزايدة يومًا بعد يوم، حتى أن العديد من المواطنين أصبحوا يتجنبون نشر أي محتوى على الإنترنت خوفا من أن يصبحوا هدفا للحوثيين.
من جانبه، أوضح المحامي والحقوقي، عبد المجيد صبره، أن حرية الرأي والتعبير تعتبر من الحقوق المكفولة بموجب الدستور اليمني والقوانين المحلية، فضلاً عن المعاهدات الدولية التي صادقت عليها الجمهورية اليمنية. مضيفًا أن الحريات الرقمية في اليمن، وخاصة في مناطق سيطرة الحوثيين، أصبحت اليوم تشكل خطرًا جسيمًا على الأفراد.
وأكد صبره لـ “نون بوست ” أن سلطات الحوثي تقوم بملاحقة الصحفيين والناشطين وحتى الأفراد العاديين على مواقع التواصل الاجتماعي، واعتقالهم وتحويلهم إلى محاكمات أمام محكمة أمن الدولة (المحكمة الجزائية المتخصصة)، حيث تفرض عليهم عقوبات قاسية قد تصل إلى الإعدام. ودلل على ذلك بقضية الصحفيين العشرة الذين تم الحكم عليهم بالإعدام بسبب منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى القضية الحديثة للصحفي محمد عبد القادر دبوان المياحي الذي لا يزال معتقلا حتى الآن.
وأشار صبره إلى أن هذا التوجه لا يقتصر على من يوجهون النقد المباشر للحوثيين، بل شمل أيضًا مئات الأشخاص الذين عبروا عن تأييدهم لثورة 26 سبتمبر، مما يشكل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان في التعبير عن الرأي.
وتابع قائلاً: “إن قيام جماعة الحوثي أو أي سلطة أخرى بإجبار الأفراد على التوقيع على تعهدات بعدم النشر يعد انتهاكًا صريحًا لحقوق الإنسان، وهو مخالف للدستور اليمني والقوانين الوطنية التي تضمن حرية الرأي والتعبير.
وأوضح صبره أن هذا النوع من التعهدات يحظر على الصحفيين ممارسة عملهم بحرية، وهو ما يتناقض مع مواد الدستور التي تكفل للصحفيين حق الحصول على المعلومات ونشرها بحرية.
كما شدد على أن القضاء هو الجهة الوحيدة المخولة باتخاذ قرار بمنع النشر في حال كانت هناك قضية تتعلق بأمن الدولة، وليس من خلال فرض قرارات تعسفية عامة.
وأضاف في ختام تصريحاته: إن هذه الانتهاكات تعد دليلاً قاطع على تزايد القمع ضد الحريات الصحفية في اليمن، ويجب على المجتمع الدولي التحرك بشكل عاجل للضغط من أجل احترام هذه الحقوق الأساسية.