قبل 3 عقود، شهدت أوروبا أكبر مجازرها الوحشية بعد الحرب العالمية الثانية، حين ارتكب صرب البوسنة بزعامة رادوفان كراديتش وراتكو ملاديتش مذبحة عرقية بحق سكان بلدة “سربرنيتسا” المسلمين بالبوسنة والهرسك في شهر يوليو/تموز 1995، قُتل فيها نحو 8,372 من المسلمين، معظمهم من الشيوخ والأطفال والنساء.
يُحيي العالم الذكرى الثلاثين لتلك المذبحة التي جسدت حالة من التطهير العرقي الممنهج، وكشفت عن وجه أوروبا القبيح، وأسقطت الأقنعة المزيفة عن “إنسانية” الرجل الأبيض وحضارة القارة العجوز، لتصبح مع مرور الوقت سُبّة في جبين العالم ووصمة عار تلاحق كل من تواطأ فيها، إما بالمشاركة أو الصمت.
زلزلت تلك المجزرة، التي لم تتجاوز 12 يومًا، الضمير الإنساني من جذوره، وأحدثت هزة عنيفة في جدار الحضارة، وتسببت في خروقات غائرة في جسد العدالة الدولية، بعد الانتهاكات الوحشية التي شهدها ووثقها شهود عيان عاينوها رأي العين، وباتت مضربًا للمثل في الإجرام والعنصرية والخذلان.
وظلت مذبحة “سربرنيتسا” النموذج الأكثر فجاجة على التطهير العرقي خلال العقود الأخيرة، وذلك قبل أن تأتي حرب غزة لتسحب البساط من تحت أقدام الجميع، لتقدم نفسها كـ “حالة استثنائية” في خارطة الإجرام الإنساني، والنقطة السوداء في ثياب الحضارة المزعومة، والشرخ الذي لا يمكن ترميمه في بنيان الإنسانية الانتقائية، والسبّة التي لا يمكن محوها من فوق جبين المجتمع الدولي، الذي يُكرّس مع كل حادثة خذلانه وانبطاحه وعنصريته وازدواجيته العوراء.
“سربرنيتسا” و”غزة”.. بلدتان مسلمتان، شهدتا مجزرتين يفصل بينهما نحو 30 عامًا، يتشابهان حد التطابق في كثير من المسارات والمحطات، كانا يؤملان أنفسهما بالاستقلال والسيادة، فقاوما معتديًا غاشمًا، وتعرضا لخيانة وخذلان فاضحين، فكانت النتيجة واحدة: مقابر جماعية، وإبادة نكراء، ووصمة عار في جبين الإنسانية.
ضريبة المقاومة
بعد إعلان البوسنة والهرسك استقلالها رسميًا عن جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية في الأول من مارس/آذار 1992، وحصولها على اعتراف كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد شهر تقريبًا من إعلانها الاستقلال، نشب صراع كبير بين المجموعات العرقية الأكثر حضورًا في المشهد البوسني: الصرب والكروات والبوشناق (مسلمو البوسنة).
حاولت الدولة البوسنية ذات الأغلبية المسلمة الدفاع عن أمنها واستقرارها وسيادتها، لكن كان للصرب والدولة الصربية المجاورة رأي آخر، حيث بدأت في عمليات التحرش ضد المسلمين بدعوى حماية العرقية الصربية داخل البوسنة، الأمر الذي دفع مجلس الأمن الدولي لإصدار قراره 819 لعام 1993 بأن يتم التعامل مع مدينة “سربرنيتسا” البوسنية الحدودية مع صربيا والمناطق المحيطة بها كمنطقة آمنة، وأن تكون خالية من أي هجوم مسلح أو أي عمل عدائي آخر.
لكن القرار لم ينل احترام الصرب الذين بدأوا في الاعتداء والهجوم الوحشي على مسلمي “سربرنيتسا”، الذين دافعوا عن بلدتهم وسيادتها، لكن الفارق الكبير في الإمكانيات والقدرات العسكرية حسم المعركة مبكرًا لصالح الصرب المدعومين من بعض البلدان المجاورة، ليدفع البوشناق ثمن زودهم عن أرضهم واستقلالها.
الصورة تتشابه كثيرًا مع المشهد الغزي، فحينما قرر الفلسطينيون مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الجاثم فوق صدورهم لأكثر من 7 عقود كاملة، ونسف نظرية الردع التي أرهب بها أصحاب الأرض لعقود طويلة من خلال عملية طوفان الأقصى، كان الرد إجراميًا ووحشيًا من المحتل، الذي ما ترك بابًا للإجرام إلا وطرقه، منتهجًا استراتيجية عسكرية انتقامية أسفرت عن سقوط أكثر من 200 ألف فلسطيني ما بين شهيد ومصاب، فيما شُرّد نحو مليوني إنسان، وهو الرقم الذي يبلغ نحو 20 ضعفًا مما شهدته حرب البوسنة التي شرّدت نحو 100 ألف مسلم وفق تقديرات الأمم المتحدة.
الحصار المطبق.. الطغاة يقرأون من كتاب واحد
يبدو أن الإجرام بكل أنواعه، وفي كل مكان وزمان، يتبنى استراتيجية واحدة، وأن عتاة الطغاة يقرأون من نفس الكتاب، وهو ما ترسخه مذبحتي “سربرنيتسا” و”غزة”، والتي على رأسها استخدام الحصار كسلاح لتركيع الخصم والقضاء عليه تدريجيًا. فعلها رادوفان كراديتش وراتكو ملاديتش قبل 30 عامًا، ويفعلها نتنياهو وجنرالات جيشه اليوم.
في أبريل/نيسان 1992، شنت المليشيات الصربية حملة عسكرية واسعة للسيطرة على البوسنة والهرسك، وركزت هجماتها على المناطق المتاخمة للحدود، كما نصبت مدفعيتها على الجبال المحيطة بالمدينة ودكّتها بوحشية، وسحبت عددًا من وحداتها المقاتلة من كرواتيا المجاورة ودفعت بها إلى الجبهة البوسنية.

وفرض الصربيون حصارًا مطبقًا على المدينة لأكثر من 12 يومًا، عزلوها تمامًا عن محيطها، وحوّلوها إلى جيب داخلي، مما سهّل عملية الاستهداف، بعدما استنزف المقاومون أسلحتهم المتواضعة التي كانت عبارة عن بنادق صيد بدائية، ولم يستغرق الأمر أكثر من عشرة أيام فقط حتى خارت القوى ودخلت القوات الصربية بلدة زفورنيك الاستراتيجية، والتي كانت بداية النهاية للقضاء على سربرنيتسا.
وعلى الجانب الغزي، كان الحصار من نوع آخر، حصار ربما يكون الأطول في التاريخ، دائم لأكثر من 640 يومًا ولا زال ساريًا، حصار بري وبحري وجوي، وضع ما يزيد على مليوني إنسان بين كماشة محكمة، وحوّل القطاع البالغ مساحته 365 كم² إلى سجن كبير للغزيين، يواجهون فيه الموت البطيء جوعًا وعطشًا، بردًا وحرًا، ترهيبًا وقتلًا.
النهب والسرقة.. عقيدة مشتركة
خلال مجزرة البوشناق، أطلقت الحكومة والجيش الصربيان العنان للمدنيين والعصابات الصربية للقيام بعمليات نهب وسرقة وسلب لممتلكات المسلمين والسيطرة عليها، فكان الهجوم المنظم على المنازل وسرقة محتواها من أموال وأثاث ومعادن نفيسة، وما كان يصعب حمله كان يتم إشعال النيران به.
وخلال فترة المذبحة الـ12 يومًا، دمر المدنيون والعصابات الصربية نحو 300 قرية للمسلمين في نواحي سربرنيتسا، وقتلوا أكثر من 3 آلاف شخص، تمت تصفية مئات منهم تنفيذًا لسياسة التطهير العرقي، فيما تعرضت النساء للاغتصاب الجماعي وبُقرت بطون الحوامل منهن، فضلًا عن قطع رؤوس الأطفال أمام والديهم كنوع من الإذلال.
المشهد لم يختلف كثيرًا في الداخل الفلسطيني، فالمستوطنون لديهم ضوء أخضر من حكومات اليمين المتطرف للعربدة وارتكاب الانتهاكات دون أي محاسبة، فاستولوا على ممتلكات الفلسطينيين، وسلبوا أراضيهم ومواشيهم، وحرقوا مزارعهم ومنازلهم، وهدموا ما تبقى منها، كل هذا تحت حماية جيش الاحتلال، وبمباركة من وزير الأمن القومي المتطرف الذي سلّح المستوطنين للإيغال في جرائمهم ضد الفلسطينيين.
الإعدامات الجماعية.. عقلية نازية
في 11 و12 يوليو/تموز 1995، وأثناء اندلاع المعارك بين مسلمي البوسنة والصرب، أسرت القوات الصربية المئات من البوسنيين من الأطفال والنساء وكبار السن، ونقلوهم إلى معتقل راتوناك الملاصق لـ”سربرنيتسا”، وهناك زارهم قائد الجيش الصربي راتكو ملاديتش، الذي طمأنهم بأنهم سيحررون في عملية تبادل للأسرى.
لكن بعد يومين فقط من تلك الزيارة، نُقل المعتقلون إلى مناطق أخرى بشكل مفاجئ، وهناك تم إعدامهم، حيث تأرجحت أعداد من تم إعدامهم ما بين 4 – 5 آلاف وفق تقديرات المحكمة الدولية، دُفنوا في مقابر جماعية، وبعضهم لم يُدفن وتُرك هكذا في الصحارى، وآخرون لم يُتعرف على هويتهم.

وتم اكتشاف ما يقرب من 42 مقبرة جماعية في المناطق المحيطة بسربرنيتسا بحلول عام 2006، فيما تذهب تقديرات أخرى إلى وجود 22 مقبرة جماعية أخرى بها قرابة 2,070 جثة، بينما لا يزال رُفات أكثر من 7,000 شخص لم تُحدد هوياتهم بعد.
الأسلوب ذاته مارسه المحتل مع الفلسطينيين، حيث أسر الآلاف من الغزيين، ما بين مدنيين وأطباء ورجال دفاع مدني، نساء وأطفال وشيوخ، مرتكبًا انتهاكات إجرامية يندى لها الجبين، ما بين قتل بالجملة ودفن في مقابر جماعية، وإذلال وتعذيب وحشي لمن بقي على قيد الحياة بعد أن يُزج به في سجون الاحتلال.
وأد مقومات الحياة.. سياسة الأرض المحروقة
حرص الصرب على وأد كافة مقومات الحياة، وانتهاج سياسة الأرض المحروقة، فدمّروا المرافق ونسفوا المشافي والمباني العامة، وعزلوا المدينة عن كامل محيطها، وحالوا دون إبقاء أي مورد يعين المسلمين على البقاء على قيد الحياة، فكانت النتيجة كارثية: استسلام سريع وسقوط مدوٍّ.
يقول الطبيب البوسني إليياز بيلاف، أحد شهود الإبادة الجماعية في البوسنة، إن ما عاشه من معاناة لم ينتهِ بعد، مشبّهًا ما يتعرض له الفلسطينيون في غزة اليوم بما حدث في سربرنيتسا، مضيفًا في تصريحات صحفية له: “روحي وعقلي لا يزالان يحملان آثار القتل الجماعي والجراح والمعاناة التي بدأت ضد البوشناق (مسلمو البوسنة) عام 1992، كنت طبيبًا بلا خبرة ولا معدات، أواجه إصابات بين الأطفال والشباب وكبار السن”.

ويضيف بيلاف أنه أجرى جميع عملياته الجراحية في سربرنيتسا دون أن يتمتع بالخبرة الكافية، ورغم قلة الإمكانات، وتابع: “كنا نفتقر إلى الأدوية، ورغم كل الظروف نجحت مع فريقي بإنقاذ العديد من الأرواح في مستشفى ميداني بالمنطقة. كل روح أنقذناها كانت ذات قيمة بالنسبة لنا، وكل حياة فقدناها كانت ألمًا لا يوصف”.
ما قاله الطبيب البوسني يتشابه حد التطابق، بل هو أقل بمراحل مما عليه الوضع في غزة، حيث تبنّى المحتل الاستراتيجية ذاتها، لكن بأسلوب أكثر وحشية، فدمّر كل المشافي ومراكز الإيواء، واعتقل الأطباء، وحال دون إدخال المستلزمات الطبية، وأحرق خيام المرضى والنازحين، واستهدف المراكز التابعة للأونروا، وحوّل القطاع إلى أرض طاردة للحياة.
لكن الفرق أن مسلمي البوسنة لم يتحملوا تلك الضغوط طويلًا، رغم أنها لم تدم أكثر من 12 يومًا، فيما صمد أهل غزة لأكثر من 640 يومًا، ارتكب فيها المحتل كافة أصناف القتل والإجرام، مقدمين ملحمة وطنية نادرة في المقاومة والتصدي لمشروع التهجير الصهيوأمريكي.
فخاخ المناطق الآمنة
في شهادته، يذكر بيلاف، كونه أحد شهود الإبادة الجماعية في البوسنة، أنه بعد سقوط سربرنيتسا بيد الصرب في 11 يوليو/تموز 1995، سلك الطريق المعروف بـ”طريق الموت”، الذي يمر عبر الغابات، وهو الطريق الذي حدده الصرب كطريق آمن للمغادرة من خلاله.
وتابع: “نتحدث عن 100 كيلومتر مليئة بالصعوبات للوصول إلى المنطقة الآمنة، قرر 15 ألف شخص فقدوا الثقة بالأمم المتحدة سلوك هذا الطريق، عشت 6 أيام و6 ليالٍ من الجحيم الذي تعجز الكلمات عن وصفه، ونجوت في النهاية بمعجزة”.
ويوضح الطبيب البوسني أن كل متر كان يمر فيه في هذا الطريق الذي يُفترض أنه آمن، كانت هناك أفخاخ وقنابل وغازات سامة وهجمات، مؤكدًا: “كانوا يريدون ألا ينجو أحد، ناضلنا حتى اللحظة الأخيرة لإنقاذ الجرحى”.
لو سحبنا شهادة بيلاف على شهادات الغزيين، لما وجدنا أي اختلافات جوهرية، فالطرق “الآمنة” التي كان يدّعي الاحتلال تدشينها لنزوح الفلسطينيين من شمال القطاع إلى الجنوب، كانت فخاخًا للاستهداف الممنهج، الأمر ذاته مع المناطق المخصصة للحصول على المساعدات التي حدّدها جيش الاحتلال نفسه، حيث تحولت إلى مصائد موت مستهدف.
صمت وخذلان المجتمع الدولي
تعرّض مسلمو سربرنيتسا لخذلان واضح من المجتمع الدولي، الذي اكتفى بإصدار البيانات والقرارات الشكلية، الفاقدة لأي سلطة إنفاذ على أرض الواقع، ففي 16 أبريل/نيسان 1993، أصدر مجلس الأمن قراره رقم 819، طالب فيه بأن “تُعامل جميع الأطراف المعنية مدينة سربرنيتسا والمناطق المُحيطة بها كمنطقة آمنة، يجب أن تكون خالية من أي هجوم مسلح أو أي عمل عدائي آخر”، لكنه القرار الذي خرقه الصرب دون أي تحرك مضاد.
حتى الكتيبة الهولندية التي كانت متواجدة هناك ضمن القوات الأممية الموكلة إليها حماية الأمن والالتزام بتطبيق القرار الخاص بأن تكون سربرنيتسا منطقة آمنة، وأن يُجرد جميع الأطراف من السلاح، تخلت عن مسلمي البوشناق حين لجؤوا إليها هربًا من إجرام الصرب، حيث طلبوا مساعدتها وحمايتها من التطهير العرقي الذي تمارسه القوات الصربية دون توقف.

وبدلًا من أن تحمي القوات الهولندية الأممية مسلمي البوسنة، سلّمتهم للقوات الصربية بقيادة ملاديتش، لتقوم الأخيرة بعملية إبادة جماعية قضى فيها أكثر من 8 آلاف بوسني من الرجال والفتيان، وهو ما دفع أمهات وأرامل قرية سربرنيتسا، ممثلة في جمعية “أمهات سربرنيتسا” -التي تمثل نحو ستة آلاف أم وأرملة- لرفع دعوى قضائية عام 2007 أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد الحكومة الهولندية لفشل قواتها في حماية المدنيين.
المشهد ربما أكثر فجاجة على المستوى الفلسطيني، حيث العجز والصمت الفاضح للمجتمع الدولي، الأقرب إلى التواطؤ، إذ اكتفت الأمم المتحدة ومجلس الأمن بالبيانات الرنانة والشعارات الجوفاء دون أي تحرك ملموس على الأرض، فيما وفّرا سويًّا، بدعم أمريكي فج، غطاءً دبلوماسيًا وسياسيًا للاحتلال، مما منحه الضوء الأخضر لارتكاب جرائم إبادة وجرائم حرب ضد الإنسانية بأريحية كاملة ودون أي اعتبار لملاحقات دولية، فلو حوسب مجرمو الحرب في سربرنيتسا قبل 30 عامًا، لما تجرأ نتنياهو على ارتكاب جرائمه اليوم، لكنه اطمأن، وأمن العقاب، فأساء الأدب مع الإنسانية.
وفي الأخير.. يرسخ التشابه حد التطابق بين المذبحتين، رغم الفارق الزمني بينهما، أن “سربرنيتسا” و”غزة” كانتا وستظلان وصمة عار في جبين الإنسانية، وسُبّة في وجه المجتمع الدولي، ونقطة سوداء في سجل التاريخ الحديث، وخنجرين غائرين في ظهر العدالة الدولية الملطخة بعار الازدواجية والعنصرية والعوار الحضاري.