تدرّج الموقف الإسرائيلي تجاه هضبة الجولان الاستراتيجية إثر احتلالها السهل، ضد المنطق العسكري وميزان القوى في حرب حزيران/ يونيو 1967، من قرار ضمّها رسميًا، الذي لم يعترف به أحد سوى الولايات المتحدة، ولو متأخرًا في فترة دونالد ترامب الأولى دون أن يلغيه خلفه جو بايدن، إلى القبول بالتفاوض عليها زمن مؤتمر مدريد، وحتى القبول بإعادتها كلها وفق ما يُعرف بوديعة إسحق رابين.
ثم التمسك بعدم الانسحاب من ساحل بحيرة طبرية فقط زمن إيهود باراك، والعودة إلى واقع ما قبل حرب حزيران، وصولًا خلال الفترة الماضية إلى رفض التفاوض، والإصرار على اعتبارها “إسرائيلية” كشرط مستحيل، لرفع السقف في مفاوضات محتملة مع سوريا الجديدة.
سقوط الجولان
بدايةً، وتاريخيًا، احتلت “إسرائيل” في حرب 67 هضبة الجولان ذات الموقع الاستراتيجي والمدججة بالسلاح دون صعوبة تُذكر، وضد أي منطق عسكري، نظرًا لتحصيناتها الدفاعية الضخمة وموقعها المميز، وقد قاتل جنود سوريون بشجاعة وبفدائية، ولكن دون أي خطة عسكرية جدية أو مهنية أو مجرّبة، بل أعلن نظام البعث سقوطها بينما كانت المعارك والمقاومة لا تزال محتدمة فيها، ثم اعتبر أنها ليست خسارة، مقابل مكسب بقاء النظام نفسه.
وفي تشرين أول/ أكتوبر 1973، خاض الجنود السوريون الحرب ببسالة وفدائية كعادتهم، وتم تحرير أجزاء محدودة منها، رغم الانهيار في الساعات والأيام الأخيرة للحرب، بسبب انعدام التنسيق بين دمشق والقاهرة. وبالعموم، لم تكن القيادة أيضًا على مستوى التضحيات والمزاج القتالي العام للشعب السوري.

بعد ذلك، وبوساطة أمريكية قادها وزير الخارجية الشهير هنري كيسنجر، ولتثبيت نتائج الحرب لصالح “إسرائيل”، تم توقيع اتفاق فصل القوات عام 1974، ونُشرت قوات الأمم المتحدة “يوندوف” في المنطقة العازلة على الجانب المحرر من الأراضي السورية، وليس على الجانبين، أيضًا ضد أي منطق عسكري واستراتيجي؛ إذ كان يفترض أن تنتشر قوات الفصل الدولية على جانبي الحدود، لا على جانب واحد فقط.
بدا الأمر تنازلًا من النظام لأمريكا لتكريس بقائه، وإطلاق يده فيما بعد في لبنان ضد الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية، واستراتيجيًا لصالح تكريس النفوذ الإسرائيلي والأمريكي في المنطقة، ومن هنا يمكن فهم عبارة رامي مخلوف الشهيرة عام 2011 عند اندلاع الثورة: “أمن النظام من أمن إسرائيل”.
ومنذ ذلك الحين — 1974 — وطوال نصف قرن تقريبًا، لم تُطلق رصاصة واحدة من الجولان، وكانت بالتأكيد الجبهة الأكثر هدوءًا بين دول الطوق المحيطة بفلسطين المحتلة.
في العام 1980، قامت “إسرائيل” بضمّ الجولان رسميًا إليها، وهو الأمر الذي لم تعترف به الأمم المتحدة ولا القوى الكبرى، ولا أهالي الجولان أنفسهم المتمسكين بهويتهم الوطنية السورية والقومية العربية. بينما فعلت الولايات المتحدة ذلك، وبشكل متأخر، في زمن إدارة دونالد ترامب الأولى.
المفاوضات بين المد والجزر
جرت مياه كثيرة بعد ذلك، مع عقد مؤتمر مدريد 1991، وتوقيع اتفاق أوسلو 1993، ثم وادي عربة 1994، وقبلها معاهدة كامب ديفيد مع مصر عام 1979، والمفاوضات الثنائية والمتعددة الأطراف، وفق قاعدة “الأرض مقابل السلام” وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، وتحديدًا القرارين 242 و338، حيث طالب حافظ الأسد بتطبيق النموذجين المصري والأردني (أنور السادات والملك حسين) لاسترداد كامل الأراضي المحتلة عام 1967 مقابل توقيع اتفاق سلام مع الدولة العبرية.
التطور الأهم في المفاوضات تمثّل فيما يُعرف بوديعة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين، التي سلّمها لوزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر، والتي قبل فيها رابين مبدأ الانسحاب الكامل من الجولان حتى خطوط مساء 4 حزيران/ يونيو 1967، لكن مع ربط عمق الانسحاب بعمق الخطوات التطبيعية والترتيبات، وقد قبل الأسد الأب بهذه المعادلة أيضًا وجرى التفاوض على أساسها.
في نهاية التسعينيات، لجأ رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك إلى ما عُرف بلعبة “المسارات”، حيث همّش المسار الفلسطيني، وحاول التفاوض على المسار السوري عبر لقاءات مباشرة بين الوفود في واشنطن، للاستفراد بالفلسطينيين بقيادة ياسر عرفات وعزلهم وإضعافهم.

وقد تعثرت المفاوضات لكنها لم تنهَر نهائيًا، رغم تلاعب باراك وتجاوزه وديعة رابين، ورفضه الانسحاب حتى حدود حزيران/ يونيو 67، بما يعني عدم الانسحاب من كامل الهضبة، ثم تفجرت المفاوضات مع عودة إدارة الرئيس بيل كلينتون لفكرة مركزية المسار الفلسطيني، وفشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية، وانفجار مسيرة مدريد – أوسلو برمتها مع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000.
بعد ذلك، لم نشهد عودة جدية للتفاوض في زمن إدارة جورج بوش الابن، وإنما عبر وسطاء لنقل الرسائل فقط. وأهم ما فيها كان إرسال الأسد الابن قِدر حمص كاملًا إلى مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، في واقعة شهيرة، ثم انتهت وتفجرت العملية كلها مع جولة القتال الأولى في غزة نهاية العام 2008، والتي، ضمن أسباب أخرى، أزاحت أولمرت وحزبه “كديما” من المشهد، وأعادت بنيامين نتنياهو إلى السلطة بشراكة مع اليمين (إيهود باراك، أفيغدور ليبرمان، وبيني غانتس)، قبل أن يستفرد بها تمامًا لاحقًا رفقة حلفائه الأكثر تطرّفًا: بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير.
حاول وزير الخارجية جون كيري، زمن إدارة باراك أوباما، الوساطة ضمن جهود شملت المسارات الفلسطينية والسورية واللبنانية كافة، مع تعيين ذي الأصول العربية جورج ميتشل مبعوثًا إلى المنطقة، وقد حاول كيري استئناف المفاوضات على قاعدة توازي المسارات، لكن الثورات العربية، والثورة السورية تحديدًا، وردّ بشار الأسد الدموي عليها، أجهض عمليًا أي فكرة لاتفاق أو دعم أوروبي أو أمريكي أو دولي لتعويمه.
منذ ذلك الحين، بدأت “إسرائيل” تتحدث عن دفن التفاوض، وأنه لا حاجة له، وأنها لن تتنازل وتعيد الجولان لأصحابه، وليست بوارد الاتفاق مع نظام يقتل شعبه، في انفصام وازدواجية، كونها تفعل الشيء نفسه منذ عقود ضد الفلسطينيين والعرب، ثم قبلت بقاء نظام الأسد وعدم التعرّض له، خاصة بعد التدخل الروسي، شرط إطلاق يدها ضد التموضع الإيراني، واستمرار الهدوء على جبهة الجولان، وعدم فتح ملفها للتفاوض.
حصل تحوّل مهم جدًا مع اعتراف ترامب في فترته الرئاسية الأولى بضمّ “إسرائيل” لهضبة الجولان، بينما لم يُلغِ خلفه جو بايدن القرار، في إقرار واضح بإزالة الملف عن جدول الأعمال.
ما بعد الأسد..
أسقط الشعب السوري نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، علمًا أن سقوطه كان حتميًا ومسألة وقت فقط منذ اندلاع الثورة، عندما خطّ أطفال درعا بأناملهم الرقيقة “يسقط الديكتاتور”، وربما منذ أحرق محمد بوعزيزي جسده الطاهر، كما منذ الغرق الروسي في الوحل الأوكراني عام 2022، بعدما تكفّلت موسكو مباشرة، عام 2015، بحماية النظام وإطالة عمره مؤقتًا، بعد فشل آلته القمعية، وإيران وميليشياتها، في فعل ذلك.

تبدّى جشع “إسرائيل” بعد سقوط النظام بأبشع صوره، وفق منطق “الهاتسوباه”، علمًا أن المصطلح لا مثيل له بكل لغات العالم، و”الوقاحة” أقرب كلمة له بالعربية، حيث سعت تل أبيب بعدة وسائل إجرامية ودموية للتدخل وفرض نفسها لاعبًا، وتشويش سيرورة بناء سوريا الجديدة عبر حملة هجمات وغارات وتوغلات، لقصف وتدمير مقدرات الدولة السورية، واحتلال المنطقة العازلة، وانتهاك اتفاق 1974، وتشجيع خطط التقسيم والانفصام، تحت ذريعة “حماية الأقليات”.
ثم اضطرت للتراجع التكتيكي أمام مظلة الحماية العربية–التركية–الدولية الراسخة والواسعة لسيرورة نهوض سوريا الجديدة، ولكن مع التحايل وإبداء الرغبة في التطبيع والسلام، شرط إزاحة ملف الهضبة عن جدول الأعمال والاعتراف بضمّ “إسرائيل” لها، وهو مطلب تعجيزي يفضح زيف روايتها عن السعي لاتفاق سلام مع سوريا والدول العربية، بينما تسعى في الحقيقة إلى اتفاق أمني جديد، وتحديث لاتفاقية فك الاشتباك 1974، كما جرى في لبنان مع القرار 1701.
أما الهدف الأهم فكان، ولا يزال، تكريس الأمر الواقع، بما في ذلك الاحتفاظ بالجولان ومزارع شبعا، ورفض أي تفاوض وفق المبادرة العربية، وقاعدة “الأرض مقابل السلام”، وقرارات الشرعية الدولية، على عِلاتها.