ترجمة وتحرير نون بوست
دأبت إيران منذ سنوات على تخصيب اليورانيوم وتهديد المنطقة بامتلاك الأسلحة النووية، مما أدى إلى حرب شاملة الشهر الماضي، لكن تصوير ما حدث على أنه حرب واحدة انتصرت فيها “إسرائيل” هو أمر مضلل، فالصراع الذي استمر 12 يومًا كان عبارة عن حربين: واحدة انتصرت فيها “إسرائيل”، والأخرى انتصرت فيها إيران.
كان لـ”إسرائيل” والولايات المتحدة مهمة واضحة في مسعاهما المشترك: ضرب البرنامج النووي الإيراني واستعادة الردع الإقليمي من خلال شل البنية التحتية النووية الباليستية الإيرانية، وذلك من خلال ضرب المنشآت والقدرات، والقضاء على التهديدات والخبرات، وتأخير البرنامج النووي الإيراني لسنوات. نعم، كانت هذه الضربات حيوية وفعالة في تحقيق أهدافها، لكن توقيتها جاء متأخرًا أربع سنوات.
بدأت إيران تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 بالمئة في أبريل/ نيسان 2021، وفي السنوات الأربع التي تلت ذلك سارعت طهران نحو امتلاك القدرة على صنع أسلحة نووية، وهو ما مرّ دون أي ردّ انتقامي. بنت إيران بالفعل المخزون الذي يضمن بقاء برنامجها حتى بعد الهجمات المدمرة، ويبلغ هذا المخزون 408 كيلوغرامات من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 بالمئة، أي ما يقارب مستوى صنع الأسلحة.
كان التنسيق وثيقًا بين إسرائيل التي قادت الحملة والولايات المتحدة التي وجهت الضربات الأقوى بقنابلها الخارقة للتحصينات، وكانت المعلومات الاستخباراتية دقيقة، بل تاريخية في دقتها، مما يثبت أن التحالف الإسرائيلي الأمريكي أقوى من أي وقت مضى.
شاهد الناس حول العالم بدهشة على الشاشات قصف موقعي التخصيب في نطنز وفوردو فيما أسمته الولايات المتحدة “مطرقة منتصف الليل”، وأطلقت “إسرائيل” عليه اسم “الأسد الصاعد”. دُمرت مصانع الصواريخ ومواقع الأبحاث، وقُتل علماء وقادة عسكريون بارزون، وتعرضت البنية التحتية النووية وبرامج الصواريخ الإيرانية لضربات قاسية.
لكن هذا كله قابل للتعويض بشكل كامل، في حين يبدو أن إيران احتفظت بالأهم: تلك الـ 408 كيلوغرامات من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 بالمئة، وهي كمية كافية لمواصلة برنامجها النووي حتى دون البنية التحتية القديمة، تلك البنية التي يمكن اعتبارها بمثابة كبش فداء أو ربما حصان طروادة قدمته الجمهورية الإسلامية.
قاتل كل طرف لتحقيق أهدافه الخاصة، وادّعى تحقيق النصر. نجحت “إسرائيل” في تحقيق بعض أهدافها: تدمير البنية التحتية النووية، وجر الولايات المتحدة إلى صفها، وتدمير الدفاعات الجوية الإيرانية.
ربما لم يكن باستطاعتها شن هذه الحرب قبل أربع سنوات، عندما كانت قادرة على منع البرنامج النووي الإيراني من تخصيب اليورانيوم بفعالية أكبر بكثير. أصبح ضرب هذه الأهداف ممكنا في ظل التطورات الإقليمية والاستراتيجية التي أعقبت 7 أكتوبر/ تشرين الأول. أولًا، جاء تدهور أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية بعد وابل الهجمات بين الجمهورية الإسلامية و”إسرائيل” في أبريل/ نيسان 2024، ثم انتصار إسرائيل على حزب الله، والقضاء على أقوى وكلاء إيران، وأخيرًا انهيار نظام الأسد في سوريا. تم تفكيك الدرع الواقي لإيران بشكل منهجي، قطعة بقطعة.
كان من الضروري حدوث كل هذه التطورات حتى تتمكن “إسرائيل” من ضرب البنية التحتية النووية الإيرانية، لكن القيام بذلك الآن كان متأخرًا جدًا، فاليورانيوم تم تخصيبه بالفعل.
أما إيران فقد خاضت حربًا مختلفة تمامًا، فالجمهورية الإسلامية لم تكن على الأغلب تسعى للانتصار عسكريًا، بل كانت تسعى للصمود سياسيًا مع اكتساب شرعية استراتيجية، وتحويل الخسائر إلى دليل على الأهمية، وتصوير التعرض للهجوم على أنه لعب مع الكبار، أو نيل احترام القوى العظمى في العالم. صحيح أن بنيتها التحتية النووية تضررت بشدة، لكن هناك ثلاث نتائج كانت في ذهن النظام الإيراني أهم بكثير من فوردو، أو من أي جنرال، أو حتى من الضربات خلال البث التلفزيوني مباشر.

في غضون ذلك، خاضت إيران حربًا ثانية على السردية. على الصعيد الداخلي، فرضت طهران رقابة على مشاهد الدمار بفضل قدرتها على إغلاق الإنترنت بنسبة 95 بالمئة، مع المبالغة في إظهار نجاح هجماتها على “إسرائيل”، وأظهرت لجمهورها القوة والسيطرة، وبالتالي منعت تغيير النظام.
أما على الصعيد الدولي، فقد منحت الدعوات العالمية لضبط النفس طهران شيئًا أكثر قيمة: الشرعية. فقد تعامل العالم مع إيران كشريك في المفاوضات وليس كنظام مارق.
وهكذا استطاعت إيران الحفاظ على مخزونها من اليورانيوم، الذي يبلغ 408 كيلوغرامات، في مأمن من الهجمات الأمريكية والإسرائيلية المشتركة، وتمكن النظام من الحفاظ على سيطرته داخليا مع تعزيز مكانته على الساحة العالمية. ولعلّ قدرة إيران على امتصاص الهجوم، والسيطرة على مجريات الأمور، وتجنب الانهيار، هي أكبر مكاسبها.
إضافةً إلى ذلك، فإن احتمال نقل مخزونها من اليورانيوم إلى عدة مواقع وبقائه سليمًا، يعني أن طهران لم تعد بحاجة إلى إعادة بناء كل شيء، بل يكفيها الحفاظ على الغموض، ويمكنها بهذه الطريقة الحفاظ على مكانتها كشريك يجب التفاوض معه. لستَ بحاجة إلى اختبار قنبلة إذا كان الجميع يفترض أنك تمتلكها.
يمكن لإيران الآن أن تحذو حذو القوى الإقليمية الأخرى، وبالتحديد “إسرائيل”: أي لا تؤكد أبدًا ولا تنفي أبدًا امتلاكها قنبلة نووية، بل تلمّح لذلك فحسب. إن موقف “العتبة” يحقق أقصى فائدة استراتيجية بأقل العواقب.
ربما ترى إيران أنها خرجت أقوى من هذه الحرب: أكثر شرعية في الداخل، وأكثر احترامًا في الخارج، وأقرب إلى العتبة النووية دون تجاوزها. وبينما كان العالم يشاهد الانفجارات، تحركت طهران بهدوء نحو هدفها الحقيقي.
انتصار طهران الأكبر هو أن يتم التعامل معها كقوة نووية دون التعرض لمخاطر التحوّل إلى قوة نووية بشكل رسمي. وفي إعادة تعريف شكل الانتصار، ربما تكون إيران قد غيّرت قواعد الصراعات الحديثة نفسها.
المصدر: هآرتس