لطالما كان الإنسان مولعًا بمعرفة ما يُخفيه المستقبل وما يحمله له من أحداث؛ إذ إنّ فضول الإنسان جعله لا يكتفي بقراءة واقعه فقط، بل يتخطى المرحلة الحاضرة ويقفز إلى الغد لمحاولة معرفته.
وقد ظهر على مدى العصور عدد من الأشخاص الذين ادّعوا معرفتهم بالمستقبل وقدرتهم على قراءته والتنبؤ بأحداثه، ما زادهم تبجيلًا وتوقيرًا بين الناس قديمًا، ونجد في سِيَر الشعوب القديمة اعتمادًا كليًا على العرّافين عند الإقدام على الأمور الجليلة، ليكشفوا لهم عن الغيب؛ كأحداث المعارك والحروب والمجاعات، وما إلى ذلك، كالإغريقيين على سبيل المثال، الذين بزغ منهم الكهّان والعرافون أمثال شق بن أنمار، وزبراء الكاهنة وغيرهم.
بدايةً، تُعرَف النبوءة بأنّها: الإخبار عن الشيء قبل وقته حزرًا وتخمينًا، وهي مقام النبي الإنسان الموكّل بأن يُخبر الأشياء عن الله. وما يميّز فريقًا من البشر في قدرتهم على التنبؤ عن غيرهم، فسّره محمد رشدي في كتابه “مدينة العرب في الجاهلية والإسلام” بأنّ بعض الناس يملكون نفسًا نورانية ذات فطنة ومزاج صافٍ، كهؤلاء الكهنة والمتنبئين، تمكّنهم من استخراج الغائب في المستقبل من خلال تعمّقهم الروحي وتسطيحهم للمادة.
الإنسان والتعاطي مع النبوءة
يعتمد العقل الإنساني في تعاطيه مع أيّ حدث حياتيّ على قانون السبب والنتيجة؛ إذ إنّ كل حدث يأتي نتيجة سببٍ سبق وقوعه، ولكن مع أخذ الإنسان بجميع الأسباب التي يُتوقّع من خلالها الحصول على نتيجة معينة، قد يفشل في تحقيقها بسبب تدخّل عدد من العوامل الخارجية: البيئية والمناخية والإنسانية.
من هنا أدرك الإنسان أنّه غير قادر على التحكّم الكامل في ما يحدث، إلا إذا استبعد المؤثرات كافة التي قد تحرِف الحدث عن مسبّبه، ولهذا لا نجد أحدًا من المتنبئين أو الكهنة يعطي معلومة أكيدة عمّا سيحدث غدًا؛ لأنّه لا يملك أي ضمانات على أنّ ما حلّله في الواقع بقضية ما، وما تتبّعه من أحداث، سيحصل بالفعل، نظرًا لتلك المؤثرات الخارجية التي تعيق التتابع المنتظم للسبب والنتيجة، أو ما يطلق عليه هيوم “افتقاد آلية سببية قابلة للتتبع”، فحتى في الظروف المخبرية قد تحدث طفرات جينية في الفيروسات، فكيف بالعالم الخارجي الطبيعي الذي تتدخل فيه عوامل متغيرة باستمرار؟
وقد قاس الأستاذ في جامعة بيركلي، فيليب تيتلوك، صحّة 82,361 نبوءة صدرت عن 284 خبيرًا في فترة تمتد لعشر سنوات، ووجد أنّ نسبة تحقّق النبوءات لا تتجاوز نسبة تحقّق أي صدفة في العالم، ما يُفهم على أن النبوءة ليست سوى تصوّر لا يُعوّل على حدوثه، إلا بقدر تعويلنا على وقوع أيّ صدفة. من هنا يُطرح السؤال: لماذا يميل الإنسان إلى تصديق النبوءة؟
يجيب عن هذا السؤال غوستاف لوبون، بأنّ الجماهير لا تعتمد على الشيء المرئي المحسوس، ولا على واقع اختياراتها، بل على محض مخيّلتها؛ لذا كانت الخطابات العقلانية القائمة على الحجج والبراهين أقلّ تأثيرًا من تلك التي تعتمد على المخيّلة الجماهيرية.
النبوءة تشحذ الهمم بالأمل
تتميّز النبوءات ببُعدها الغيبي الذي ينشّط الخيال لدى المتلقي، وقد تصنع له عالمًا من الوهم، سواء كان محبّبًا أو منبوذًا، غير أنّ النبوءات الإيجابية التي يقدّمها المتنبئون عن مستقبل زاهر، تزيد من التطلّعات الإيجابية لدى الأفراد المتلقّين لها؛ إذ يمكن أن تغيّر النبوءة من موقف الأفراد تجاه المواقف الحالية التي قد تكون محبِطة، بفضل التطلّع إلى مستقبل واعد توحي به النبوءة.
تعمل النبوءات الإيجابية على توجيه تفكير الأفراد نحو المستقبل بشكل أكثر تفاؤلًا، ما يقلّل من تركيزهم على تجارب الماضي، إذ إنّ التفكير المستقبليّ ينهض بالفرد نحو تخطيط أفضل، بفضل الأمل الذي منحته إياه النبوءة، ومن ثمّ فإنّ فرص تحقيق أهدافه تزداد من خلال ربطه نية التنفيذ بالفرص المتوقعة، ما يخلق سلوكًا موجّهًا نحو هدف محدد.
يشعر الأفراد المصدّقون للنبوءة الإيجابية بتحسّن في واقعهم الحالي، حتى وإن لم يحدث أيّ تغيّر حقيقي؛ ويعود ذلك إلى الإدراك الإيجابي الذي بنوه عن الحياة المستقبلية وعن أنفسهم، ما ينعكس على صحتهم النفسية ويخدمهم في الرضا عن واقعهم والعمل بجدية على خططهم.
وهناك بُعد تشجيعيّ مقترن بالإيمان الإيجابي في التوقّعات؛ فكلّما زاد عدد المؤمنين بنبوءة ما، زاد العمل والسعي لتحقيقها؛ كالتنبؤات التي يطرحها خبراء الاقتصاد عن المستقبل الربحيّ لإحدى العملات الرقمية الجديدة، حيث يتأثر سلوك الفرد ومدى تصديقه للنبوءة بعدد المصدّقين لها، فإذا رأى إقبالًا كبيرًا على شراء عملة جديدة منخفضة القيمة، تزداد نسبة إيمانه بالتوقع.
مثال آخر على ذلك هو نبوءة “ليلى عبد اللطيف” التي أطلقتها عبر الإعلام ليلة رأس السنة الماضية عن خراب إحدى دول الشرق الأوسط. وما عزّز تصديق نبوءتها في الشارع العربي هو اندلاع شرارة الحرب في السابع من أكتوبر، فزاد عدد مصدّقيها، ما منحهم شعورًا تفاؤليًا باقتراب زوال “إسرائيل”، ودفع بعض الشعوب إلى مطالبة حكّامها بالتدخل لتحقيق النبوءة، معتقدين أن “إسرائيل” هي الدولة المقصودة.
انعكاسات فشل النبوءة
الانفعال الناتج عن فشل النبوءة يعود إلى تشوّه في النظم المعرفية للمؤمنين بها؛ إذ لا يعترفون بتعقيد الواقع وعدم ثبات أنساقه، كما أنّ البشر غالبًا ما يستمتعون بالصورة الحسنة عن المستقبل، ما يجعل الأثر السلبي لفشل النبوءة أكبر، رغم أنّ النبوءة قد حفّزتهم سابقًا على السعي والعمل.
ويتجلّى هذا الأثر السلبي في أنّ النبوءات التي تعد بتغييرات إيجابية دون تدخل بشري، قد تمنع الأشخاص من الاستعداد لاحتمالات الفشل، بسبب الانجذاب القويّ الذي تبنيه النبوءة في أذهانهم، فيكون الإحباط الناتج عن فشلها قويًا، لعدم تجهيزهم نفسيًا لمواجهة أي عقبة.
تشير الدراسات النفسية إلى أنّ الأفراد يبالغون في اعتقادهم بمدى سيطرتهم على الأحداث القادمة؛ فإذا حدث ما توقعوه، فإنهم يعزون ذلك لقدراتهم وجهودهم، أما في حال فشل الحدث، فقد يلقون اللوم على أنفسهم، أو على الخبراء الذين قدّموا النبوءة، أو حتى يشككون في الروحانيات ومفعول الأقدار.
نموذج لنبوءة سياسية: زوال “إسرائيل”
يُبنى التنبؤ عادة على دراسة الواقع والأنماط المتكررة، كما هو الحال في نبوءة سقوط “إسرائيل”، فمن خلال دراسة الأنماط التاريخية لسقوط الدول بعد التوسع الكبير، مثل دولة الخلافة الإسلامية أو الإمبراطورية الرومانية، تنبّأ بعض المحللين بسقوط “إسرائيل” بعد بلوغها ذروة توسّعها.
قد صرّح بن غوريون عام 1952: “دولة إسرائيل قامت فوق جزء من أرض إسرائيل”، وهو ما يكشف عن رؤية توسّعية لا تزال قائمة، وقد تُفسَّر كمقدّمة للسقوط بحسب النمط التاريخي.
نتج عن هذه النبوءة نمطان من التفكير؛ أحدهما مشوب بفقدان الشعور بالأمان تجاه مستقبل المنطقة، والآخر يسعى لبناء نبوءة أخرى، لا تعتمد على التوسّع كشرط للسقوط، بل تركّز على تجارب الشعوب المستعمَرة، مثل فيتنام والجزائر، حيث المقاومة كانت مقدّمة للتحرر.
نستنتج مما تقدّم أن للنبوءة أثرًا نفسيًا وسلوكيًا بالغًا على الأفراد، إيجابيًا أو سلبيًا، بحسب محتواها وظروفها، كما يعتمد تصديق النبوءة على شخصية من يصدرها، ومكانته الإعلامية، إضافة إلى التوجه الاجتماعي الجمعي تجاهها، فالنبوءة الإيجابية قد تشحذ الهمم وتدفع بالسلوك نحو هدف مرجوّ، بينما تثير النبوءة السلبية القلق وعدم الاستقرار.
أما فشل النبوءة، فقد يُحبط المؤمنين بها، أو يخلّف ارتياحًا لدى من خافوا تحققها. وفي الحالتين، يبقى الإيمان بالنبوءة تعبيرًا عن حاجة الإنسان إلى الاطمئنان وسط عالم مليء بالغموض والتقلبات.