في منتصف مارس/ آذار 2025، هبطت 3 طائرات أمريكية في مطار السلفادور الدولي، محمّلة بـ261 شخصًا تم ترحيلهم من أمريكا، في إطار حرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الهجرة غير الشرعية، وكان من بينهم 137 شخصًا رُحلوا بموجب قانون “الأعداء الأجانب” لعام 1798، الذي يُطبق فقط في حالة الحرب الرسمية مع دولة أخرى، و101 فنزويلي جرى ترحيلهم بموجب قانون الهجرة، رغم صدور حكم قضائي بتعليق عمليات ترحيل المهاجرين غير الشرعيين.
لم يكن هؤلاء مجرد مهاجرين غير نظاميين، بل يُزعم انتماء غالبيتهم، وفق التصنيفات الرسمية، إلى تنظيمات إجرامية عابرة للحدود، أبرزها عصابة “ترين دي أراجو” الفنزويلية، التي صنفتها واشنطن كمنظمة إرهابية أجنبية في فبراير/ شباط 2025، وعصابة “إم إس-30” ذات الأصول السلفادورية، التي تأسست في أمريكا من قبل مهاجرين سيلفادوريين هاربين من الحرب الأهلية في السلفادور في الثمانينيات.
غير أن المشهد الأكثر لفتًا للأنظار لم يكن في هوية المُرحّلين، بل الوجهة التي نُقلوا إليها، وطريقة استقبالهم، فبينما تتعامل دول أمريكا اللاتينية الأخرى مع عمليات الترحيل بفتور أو احتجاج مكتوم، لم يُخفِ رئيس السلفادور نجيب بقيلة حماسه، بل احتفى بوصول الطائرات الأمريكية تحت حراسة مشددة وفي أجواء هوليوودية، واعتبر أن استقبال هؤلاء السجناء جزء من “جهود بلاده في مكافحة الجريمة العالمية”.
أمَّا في واشنطن، فقد بادر ترامب ووزير خارجيته ماركو روبيو إلى شكر بقيلة علنًا، مشيدين بجهوده في تحويل “مركز احتجاز الإرهابيين” شديد الحراسة، المعروف اختصارًا باسم “سيكوت” – الذي يُوصف بأنه أكبر سجون أمريكا اللاتينية، وواحد من أضخم سجون العالم، وتُخطط السلفادور لمضاعفة سعته إلى حوالي 80 ألف سجين – إلى ما وصفوه بـ”المشروع الاستثماري الأمني”، في إشارة إلى أن السلفادور باتت شريكًا أمنيًا مدفوع الأجر في احتواء تداعيات الهجرة والجريمة المنظمة.
لكن خلف هذه التصريحات الرسمية، تتشكّل معالم تجارة مربحة جديدة باتت تُعرف بـ”اقتصاد السجون”، تتقاطع فيها مصالح الدول، وتتداخل السياسات مع الأرباح، فالحكومة الأمريكية، وبموجب اتفاق غير معلن التفاصيل، تُقدّم دعمًا ماليًا للحكومة السلفادورية نظير قبولها استقبال المرحِّلين إليها، وهو ما يفتح بابًا جديدًا أمام الدول النامية لاستغلال بنيتها العقابية في جني العائدات.
- مجموعة من أعضاء العصابة المزعومين ما زالوا محتجزين في الزنازين، في سجن “سيكوت” الضخم في السلفادور.
من أمريكا إلى السلفادور، لم تعد السجون مجرد أماكن لاحتجاز الخارجين عن القانون أو إعادة التأهيل أو الردع، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من منظومة اقتصادية معقّدة، تُدار بمنطق السوق وبعقلية ربحية، ويتحكم فيها تحالف معقّد من الشركات الخاصة وصناع القرار، تغذّيها سياسات العقوبات المشددة، وترحيل المهاجرين، واستغلال العمالة الرخيصة خلف القضبان.
من العقوبة إلى الاستثمار
على مدار العقود الماضية، تحوّلت السجون تدريجيًا من مجرد مؤسسات عقابية إلى أدوات للاستثمار السياسي والاقتصادي، وأصبحت العقوبات مصدر دخل لهذه الدول، والأمن سلعة تُباع وتشترى، وتُبنى الزنازين لا لمكافحة الجريمة فحسب، بل لملء دفاتر الأرباح، وتسهم العديد من هذه المؤسسات في تعزيز مصالح خاصة تحت ما يُعرف بـ”مجمع صناعة السجون”، ويشمل مؤسسات احتجاز خاصة ومستشفيات الطب النفسي ومراكز الترحيل.
صيغت هذه التسمية أولًا في أمريكا كمصطلح موازٍ لمفهوم “المجمّع الصناعي العسكري” في خمسينيات القرن العشرين، لتوصيف العلاقة المتشابكة بين الحكومة والشركات الخاصة، التي بدأت في الدخول بقوة إلى إدارة السجون، مستفيدة من ارتفاع معدلات الاعتقال وبناء المزيد من السجون، ويشير ذلك إلى شبكة المصالح المعقّدة بين الحكومات والشركات الأمنية والمقاولين والبنوك، وحتى وسائل الإعلام، التي تُكرّس السياسات العقابية المتشددة، وتحافظ على تدفّق السجناء كمورد ثابت في سلسلة إنتاج مربحة.
لكن هذه الظاهرة لم تعد حكرًا على أمريكا، بل توسّعت في تسعينيات القرن الماضي تدريجيًا ليشمل دولًا أخرى في أمريكا اللاتينية، وأجزاء من أوروبا وآسيا وأفريقيا، حيث بدأت الحكومات بتبنّي عقود مع شركات خاصة لإدارة السجون، بهدف تقليص النفقات وتحسين الكفاءة، إلا أن هذا التوجّه سرعان ما اصطدم باتهامات متزايدة بتشجيع الاعتقال بدوافع ربحية، وتغليب الاقتصاد على مبادئ العدالة الجنائية.
ومنذ أواخر التسعينيات، وتحت غطاء العدالة والعقاب، بدأ يتشكّل في أمريكا وأجزاء من أوروبا تحالف نفوذ جديد يقف على تقاطع السياسة والاقتصاد والأمن، ويُعرف بـ”لوبي صناعة السجون”، الذي لا يقتصر فقط على الشركات الخاصة التي تُدير السجون، بل يشمل أيضًا مجموعات ضغط سياسية واقتصادية وشركات الأمن والتغذية والاتصالات والنقل، بل حتى شركات إنتاج الملابس والمفروشات التي تستفيد من كل معتقل يُزَجّ به خلف القضبان.
بدأ هذا اللوبي في التوسّع في أعقاب تبني سياسات صارمة تجاه الجريمة والمخدرات، عُرفت بـ”الحرب على المخدرات”، وأدَّت إلى ارتفاع هائل في أعداد السجناء، مما فتح المجال أمام خصخصة السجون وتحويلها إلى مصدر أرباح، وبلغت هذه العلاقة ذروتها مع تبني تشريعات مؤيدة لتشديد العقوبات، ورفع مدة الأحكام القضائية، وساهمت هذه القوانين في تضخّم أعداد السجناء، ما وفّر بيئة خصبة لنمو الشركات التي تدير السجون الخاصة.
كل سجين يساوي ربح إضافي
هكذا، وُلدت أولى الشركات الخاصة التي أدركت أن السجين يمكن أن يكون مصدر دخل، والعقوبة يمكن أن تكون سلعة، والقوانين أداة لتضخيم الأرباح، وأن السجون يمكن أن تصبح صناعة مربحة، مدفوعة بسياسات متشددة على حساب حقوق الإنسان للمهاجرين والأقليات العرقية والفئات ذات الدخل المنخفض.
من بين هذه الشركات، تقف شركتان في واجهة هذا الاقتصاد العقابي: GEO Group وCoreCivic، وهما اليوم أكبر شركتين خاصتين في العالم في إدارة السجون ومراكز الاحتجاز والمصحات النفسية عبر عقود حكومية تدفع لها مبالغ مالية مقابل كل سجين محتجز في منشآتها، وتستثمر في توسيع قدراتها لاستيعاب المزيد من المحتجزين، إذ تعتبر السجون مجالًا استثماريًا مربحًا يشبه إلى حد كبير قطاع الفنادق، فكلما زاد عدد المساجين زادت الأرباح.
هذا النموذج الربحي، الذي يُسهم في تحويل العدالة إلى سلعة، ويصبح فيه الإنسان مادة للاستثمار، يحفِّز الشركات الخاصة على إبقاء الزنازين ممتلئة لضمان استمرار الأرباح، ويخلق علاقة اقتصادية قوية بين تشديد السياسات وزيادة الأرباح.
كما يدفع نموذج “الدفع لكل نزيل” هذه الشركات إلى دعم سياسات التوسع العقابي، وتعطيل برامج الإفراج المبكر، والإبقاء على مدد الاحتجاز الطويلة، ومعارضة قوانين تخفيف العقوبات، والضغط السياسي ضد بدائل السجن مثل الخدمة المجتمعية أو التأهيل، وتشجيع الاستثمار في بناء المزيد من المرافق السجنية، التي تخدم مصالحها المالية، ما يجعلها فاعلاً اقتصاديًا وسياسيًا ذا نفوذ متزايد.
وتكشف الوثائق المالية وتقارير الشفافية أن هذه الشركات تُنفق ملايين الدولارات سنويًا على جماعات الضغط السياسي، وتلعب دورًا في التأثير على التوجهات التشريعية، لا سيما فيما يتعلق بالقوانين المتعلقة بالهجرة والجرائم المرتبطة بها، مثل قوانين الحد الأدنى للعقوبات، من أجل ضمان تدفّق مستمر للسجناء، مستفيدة من النمو الاقتصادي الذي يولده ارتفاع معدلات الاعتقال، ما يعكس مدى تغلغل الربح في قلب أنظمة العقاب الحديثة.
ومع تزايد عدد المساجين – الذي تجاوز مليوني نزيل في أمريكا وحدها (25% من سجناء العالم رغم أنها تمثل 4% فقط من السكان عالميًا)- بدأت هذه الشركات تُراكم الأرباح، وتُعمّق نفوذها السياسي في صناعة القرار عبر تمويل حملات انتخابية داعمة لتشديد السياسات العقابية بانتظام، واستقطاب مسؤولين سابقين من أجهزة الأمن إلى مجالس إدارتها، ما يعكس مدى تغلغل الربح في قلب أنظمة العقاب الحديثة، ويشكل تضاربًا واضحًا بين الربح والعدالة.
ويبدو تأثير السياسات الحكومية على هذا القطاع واضحًا، خصوصًا مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وتبنيه سياسات أكثر تشددًا في مكافحة الهجرة، ففي عام 2016، أدَّى فوزه بالانتخابات الرئاسية إلى ارتفاع أسهم شركات تشغيل السجون الخاصة، ولا سيما شركتي GEO Group وCoreCivic، حيث سجلتا قفزة بنسبة تجاوزت 70% خلال الأيام الثلاثة التي تلت إعلان نتائج الانتخابات، متفوقة على آلاف الشركات الأخرى المدرجة في الأسواق المالية.
- تتبنى إدارة ترامب سياسات أكثر تشددًا في مكافحة الهجرة.
كما ارتفعت أسهم الشركتين مع عودة ترامب بنسبة 42% و29% على التوالي، بسبب التوقعات بأن سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة ستؤدي إلى زيادة أعداد السجناء، ما يضمن استمرار تدفق الأرباح لهذه الشركات، بحسب مجلة “إيكونوميست” البريطانية التي علّقت بقولها “السياسات المتشددة تعني أرباحًا أكبر”، في إشارة إلى العلاقة المباشرة بين المناخ السياسي وتشغيل قطاع السجون الخاص.
الربح على حساب العدالة
يعتبر تجريم الهجرة عاملاً رئيسيًا في ارتفاع أعداد المحتجزين في مراكز تديرها شركات خاصة، حيث تزيد حملات الاحتجاز والترحيل الجماعية للمهاجرين، وتتعرض حقوقهم الإنسانية للانتهاك، ومع ذلك، ترى هذه الشركات في الأسرّة غير المشغولة فرصة لتحقيق إيرادات إضافية، حيث أشار الرئيس التنفيذي لشركة “GEO Group” إلى إمكانية تحقيق 400 مليون دولار سنويًا إذا تم إشغال هذه الأسرّة، مع خطط لتوسيع برامج المراقبة لتشمل ملايين المهاجرين، مما يزيد من مصادر الدخل.
وفي إطار التوسع في السياسات المتشددة في السنوات الأخيرة، أنفقت الحكومة الأمريكية مئات الملايين على بناء سجون ومراكز ترحيل جديدة، خاصة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وتبني إدارته لسياسات أكثر صرامة تجاه الهجرة والجريمة، ففي وقت سابق من هذا العام، أمر بإعادة فتح سجن “ألكاتراز” الشهير في سان فرانسيسكو، بعد أكثر من 60 عامًا من إغلاقه.
- أمر ترامب إعادة فتح سجن “ألكاتراز” بعد عقود من إغلاقه وتحوله إلى وجهة سياحية.
وتُظهر تلك التوجهات السياسية المتوافقة مع أجندة “مشروع 2025” اليمينية ميلاً نحو تشديد العقوبات وزيادة الاحتجاز، وتوجهًا نحو إلغاء الحماية من التمييز، وهو ما اعتبره مراقبون جزءًا من حملة لإعادة إحياء سياسات الردع الجماعي، مما قد يؤثر على الفئات الضعيفة ويزيد من أعداد السجناء.
وتُقدر الأرباح السنوية الناتجة عن استراتيجية إعادة تشغيل السجون القديمة وبناء مراكز جديدة بنحو 60 مليون دولار، ما يعكس كيف تحولت السجون إلى قطاع اقتصادي ضخم يدر مئات الملايين من الدولارات بعيدًا عن الاعتبارات الإصلاحية أو التأهيلية.
السجناء كأيدي عاملة رخيصة خلف القضبان
بعيدًا عن الصورة النمطية للسجين القابع في زنزانة، يكشف الواقع داخل العديد من السجون الحديثة عن مشهد اقتصادي خفي تُستغل فيه طاقات السجناء كقوة عمل منخفضة الأجر، خاصة في ظل غياب الرقابة الحقوقية على ظروف العمل أو عقود التشغيل.
في كثير من السجون، يُجبر السجناء على أداء أعمال يومية في قطاعات عديدة مثل صناعة الأثاث والتعبئة والتغليف وخدمات الدعم التقني البسيطة، مقابل أجور لا تتجاوز في كثير من الأحيان دولارًا واحدًا في الساعة، رغم أن القيمة السوقية لهذه الخدمات تُقدر بمليارات الدولارات سنويًا.
ما يجعل هذا الواقع أكثر إثارة للجدل – في دول مثل أمريكا – هو أن هذه العمالة تتم في ظل قوانين تُجيز “العمل القسري” للمحكومين بالسجن، بموجب استثناء دستوري في التعديل الثالث عشر، الذي يُحرّم الرقّ إلا في حال العقوبة الجنائية.
بعض الشركات الكبرى، خصوصًا تلك المتعاقدة مع الحكومة، تُفضّل التعامل مع منظومة السجون نظرًا لانخفاض التكاليف وارتفاع الانضباط، بينما تستفيد إدارات السجون من هذه “المشاريع الإنتاجية” في تغطية نفقات التشغيل وتحقيق دخل إضافي، لكن الثمن الحقيقي يُدفع من قِبل السجناء، الذين يُحرمون من حقوق العمَّال العاديين، ويُجبرون أحيانًا على العمل تحت التهديد بالعقوبات التأديبية.
وفي المقابل، تُقدّم الخدمات الأساسية داخل السجون – مثل المكالمات الهاتفية والرعاية الصحية والطعام – بأسعار مرتفعة تتحمّلها الأسر، ما يخلق بيئة استغلال اقتصادي ممنهجة، ويعزز من الأرباح على حساب السجناء الذين يتحولون إلى “مصدر دخل مزدوج”، من خلال عملهم القسري أولاً، ومن خلال ما يُدفع لهم أو عنهم داخل السجن أيضًا.
وبينما تُبرر بعض الجهات هذا الواقع بضرورات الأمن القومي، تصفه بعض المنظمات الحقوقية بأنه أقرب إلى نوع من العمل القسري الحديث، في ظل ضعف الحماية القانونية وانعدام الخيارات البديلة لدى السجناء، الذين لا يُمنحون حق التفاوض أو الامتناع عن العمل، ما يفتح الباب أمام انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، ويجعل من السجون فضاءً ينتج قيمة اقتصادية دون محاسبة.
هذا النموذج الاقتصادي والسياسي يثير جدلاً واسعًا حول تأثيره على حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، حيث يشير مراقبون إلى أنه يستهدف الفقراء والأقليات بشكل غير متكافئ، ويُكرّس التمييز البنيوي داخل المنظومة القضائية، ويُرسخ أنماطًا من الظلم الاجتماعي، ويُغذّي التفاوتات القائمة في المجتمع، خاصة تجاه الفئات المهمشة.
فجوة بين الشمال والجنوب
يُظهر الواقع تباينات صارخة بين الدول في ما يتعلق بتمويل أنظمة السجون ومستوى الخدمات بين الدول المتقدمة والنامية، حيث تعاني السجون في العديد من الدول النامية من الاكتظاظ ونقص الموظفين، ووفق التقديرات، تعمل سجون ربع دول العالم بأكثر من 150% من طاقتها، ما يعكس أزمة هيكلية عالمية.
وفي معظم الدول العربية، لا تُنشر إحصاءات شفافة عن عدد السجناء أو ميزانيات السجون إلا أن هناك مؤشرات على ازدياد أعداد السجناء، خصوصًا في سياقات سياسية، مثل مصر وسوريا والسعودية، حيث أصبحت السجون وسيلة للسيطرة السياسية، مما أدى إلى اكتظاظ وانتهاكات.
وتُعد السجون عبئًا ماليًا على ميزانيات الدول، حيث يُقدر متوسط تكلفة السجين الواحد في الدول العربية ما بين ألفين إلى 10 آلاف دولار سنويًا، بحسب مستوى الدولة، لكن جزء كبير من الميزانية يُصرف على الأمن، بينما يُهمل التعليم والتأهيل وإعادة الإدماج.
وفي كثير من الدول، لا تكفي الميزانيات لتوفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، ما يؤثر على صحة السجناء وسلامتهم، ويقوّض الجهود التأهيلية، وتشير الإحصاءات إلى أن متوسط عدد السجناء لكل موظف يتجاوز 3.6 عالميًا، ويصل في آسيا إلى 6.8، مقارنة بأقل من اثنين في أوروبا.
هذا التفاوت في النفقات والسياسات يعكس الفجوة بين الأنظمة العقابية، حيث تميل الدول ذات الموارد المحدودة إلى إهمال البعد الإنساني والتأهيلي، لصالح مجرد الاحتجاز، بينما تُركّز الدول المتقدمة على إعادة دمج السجناء في المجتمع.
لذلك، تتوسع بعض الدول في خصخصة السجون، كما هو الحال في البرازيل، ثالث أكبر دولة من حيث عدد السجناء عالميًا، لكن ذلك لم يساهم في الحد من الاكتظاظ أو تحسين ظروف الاحتجاز، بل زاد من انتشار العنف والتمييز، أمَّا في أمريكا، فإن نسبة العائدين للسجن تتجاوز 67% خلال السنوات الثلاث الأولى من الإفراج، ما يشير إلى فشل النموذج الربحي في معالجة الجريمة.
في المقابل، تُقدم بعض الدول الأوروبية، مثل النرويج وهولندا، نموذجًا مختلفًا تمامًا، حيث تتجه نحو أنظمة تركز على إعادة التأهيل وتقليل معدلات العود إلى الجريمة، عبر توفير خدمات التعليم والرعاية النفسية والتدريب المهني، مع إنفاق يومي مرتفع نسبيًا على كل سجين.
في النرويج مثلاً، تنفق الدولة 93 يورو يوميًا على كل سجين، مقابل بيئات تعليمية وتأهيلية، تؤدي إلى نتائج أكثر استدامة على المدى الطويل، بدلًا من الردع الربحي، في حين تعاني دول نامية مثل كمبوديا من تقصير شديد، إذ لا يتجاوز ما يُنفق على غذاء السجين الواحد يورو واحد يوميًا.
وتفتقر معظم السجون العربية إلى برامج تأهيل حقيقية لإعادة دمج السجين في المجتمع، وهذا يعني فقدان يد عاملة منتجة كان يمكن أن تساهم في الاقتصاد، ويزيد من معدل العودة إلى الجريمة، ويطيل من الاعتماد الاقتصادي على السجون كمؤسسات “احتجاز دائمة”.
وبينما تعاني السجون من الاكتظاظ والإهمال وانعدام الرقابة في دول عديدة في أفريقيا وآسيا، تنحو دول أخرى إلى الاستثمار في العقوبات نفسها، سواء عبر استثمار سجنائها كقوة عمل، أو تصديرهم إلى دول أخرى، إمّا من خلال اتفاقيات ترحيل مدفوعة، أو عبر “تأجير الزنازين” كما يحدث في حالات استثنائية، في مشهد يُجسّد التحوّل العميق الذي يشهده اقتصاد العقوبات حول العالم.
إجمالاً، أصبح من الواضح أن قطاع السجون تجاوز وظيفته العقابية التقليدية، ليتحول إلى عنصر فاعل في منظومة اقتصادية أوسع، يتشابك فيها رأس المال والسياسة العقابية، ليشكل حاجزًا صلبًا أمام الإصلاح، وإن لم يتم كبح هذا التحالف، فإن منظومات العدالة في كثير من الدول ستتحول إلى أدوات لزيادة الأرباح لا لحماية المجتمعات أو تأهيل الجناة.