قبل أيام عُقد في العاصمة دمشق اجتماع جمع وفدًا من “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا مع وفد من الحكومة السورية، في محاولة جديدة لتحريك الاتفاق المجمد بين الجانبين. لكن اللقاء، الذي لم يخرج بأي نتائج ملموسة، أعاد إلى الواجهة السؤال المعتاد: ما جدوى هذا الاتفاق إذا ظلّ بلا خطوات عملية؟
ما تزال “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) وجناحها السياسي يصرون على المطالبة باللامركزية والحفاظ على كتلة مستقلة لهيكل قواتها ضمن الجيش السوري، كنوع من الفيدرالية ضمنياً، تحت غطاءًّ فضفاض ومسمى “اللامركزية” وهو ما ترفضه الحكومة السورية بشكلٍ مطلق، والتي ما تزال تصر على تطبيق اتّفاق 10 مارس بحذافيرهِ ودمج للمنظومة العسكرية لـ”قسد” والمؤسسات الحكومية بالكامل، تحت سلطة العاصمة دمشق.
وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي تحرزه الحكومة السورية في عدة أوجه داخلياً وخارجياً بهدف النهوض للبلاد، إلا أن ملف “قسد” لازال يمثل تهديداً لأستقرار البلاد، ونفق مظلم يقود لأكثر من سيناريو على رأسها حربٌ جديدة.
غليان شعبي ضد ممارسات “قسد” بحق العرب:
يُقال إن العنف هو ملاذ الضعفاء الأخير، ويبدو أن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) باتت تجسّد هذا القول بشكل صارخ في مناطق سيطرتها بالجزيرة السورية. ففي ظل تصاعد الغضب الشعبي بمحافظات الحسكة والرقة وريف دير الزور الشرقي، تتجه قسد نحو مزيد من القمع، في محاولة يائسة لاحتواء التململ الشعبي ومنع انفجار ثورة جديدة ضدها.
عمليات الاعتقال بحق السكان لم تتوقف، بل تصاعدت بشكل لافت، حيث تجاوز عدد المعتقلين حاجز الـ500 شخص، بحسب شبكات محلية. تُنفذ الاعتقالات على خلفيات واهية، مثل رفع صور وطنية أو شعارات مؤيدة للدولة السورية أو للرئيس أحمد الشرع، بينما طالت الملاحقات أيضًا منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم تسلم منها حتى فئات كالمسنين والأطفال.
وفي مشهد يعكس تصاعد الانتهاكات، شهدت الأيام القليلة الماضية سلسلة من الحوادث الدامية، حيث قتلت قسد أربعة مدنيين، من بينهم ثلاثة أطفال، خلال أقل من أسبوعين. آخر الضحايا كان الطفل عمر اليوسف (8 سنوات) في ريف حلب الشرقي بتاريخ 11 يوليو، سبقه الطفل علي العوني (14 سنة) في الرقة بتاريخ 2 يوليو، وقبله الطفل فريد الهويش (13 سنة) في ريف دير الزور بتاريخ 26 يونيو.
كما فارق الشاب علاء فواز الهردو، أحد المنشقين عن قسد، الحياة تحت التعذيب في سجن الشدادي بالحسكة في 11 يوليو.
ولا تقتصر انتهاكات الميليشيا على القتل والاعتقال، بل تتواصل عمليات خطف الأطفال، خاصة في حي الشيخ مقصود بحلب، إلى جانب اعتقال ذوي وأقارب المطلوبين، في سياسة عقابية جماعية تؤجج التوتر.
هذه الممارسات القمعية، بدلًا من أن تعزز السيطرة، تُفاقم الغضب الشعبي وتدفع الأوضاع في الجزيرة السورية نحو مزيد من الاحتقان والانفجار، في وقت يبدو فيه أن قسد تفقد توازنها وتغرق في وهم السيطرة عبر القمع.
تعنت في الموقف وحلم الفيدرالية الهدف
ما تزال “قسد” تُصرّ في كل محادثاتها مع الحكومة السورية على مطلب “اللامركزية” كشرط أساسي لأي اتفاق سياسي مستقبلي، لكن هذا المطلب الذي يبدو في ظاهره إدارياً، يخفي في جوهره مشروعاً فيدرالياً مبطّناً، يهدف إلى الحفاظ على كتلة عسكرية مستقلة في الجزيرة السورية، وهو ما ترفضه دمشق بشكل قاطع.
هذا الإصرار يكشف عن قراءة ضحلة أو متجاهلة من قيادة قسد للمتغيرات المتسارعة على الساحة السورية والإقليمية، خصوصاً في ما يتعلق بتبدل السياسة الأميركية في التعامل مع الملف السوري، وكذلك الإعلان التاريخي لحزب العمال الكردستاني (PKK) – الأب الروحي لميليشيات YPG/YPJ التي تشكّلت منها “قسد” عام 2015 – بإلقاء السلاح أمام الدولة التركية بعد صراع استمر 40 عاماً، ما يضع ضغوطاً إضافية على “قسد” ويحرج موقفها أمام المطالبات الإقليمية والدولية بتفكيك بنيتها العسكرية.
اليوم، تتحكم في قسد قوتان متنافرتان داخلياً:
- التيار الأول، يقوده مظلوم عبدي، وهو أقرب إلى التحالف الدولي، ويحاول الحفاظ على خط توازن هش بين واشنطن ودمشق، دون مواقف صدامية علنية.
- التيار الثاني، وهو الأكثر تطرفاً، بقيادة خليل آلدار وإلهام أحمد، وتُمثّله فوزة اليوسف في ملف التفاوض، ويتمسك بالإبقاء على كتلة قسد كما هي، ويدفع نحو إدارة منفصلة للجزيرة السورية، مع تبعية شكلية فقط للدولة.
وفي ختام اجتماع قصر تشرين يوم 9 يوليو، لمّحت الحكومة السورية بوضوح إلى هذا الانقسام الداخلي في قسد، معتبرة أن تياراً متطرفاً داخل اللجنة التفاوضية يعرقل أي خطوة لتنفيذ اتفاق 10 مارس، الذي ينص على حل الهيكل العسكري لقسد ودمج مؤسساتها ضمن الدولة السورية.
ويبدو أن هذا التيار المتناغم مع تطرف حزب العمال الكردستاني “PKK” هو الذي يقود دفة سفينة “قسد” اليوم ولازال مصراً على موقفه، وهذا ما يعطل أي مساعي للتقدم بتنفيذ الاتّفاق.
في تحول لافت في الموقف الأميركي، جاء تصريح المبعوث الأميركي إلى سوريا، توماس باراك، ليعكس دعماً واضحاً للموقف الرسمي السوري في ملف المفاوضات مع “قسد”، منتقدًا ما وصفه بـ”تباطؤ الإدارة الذاتية” في تنفيذ خطوات الدمج ضمن مؤسسات الدولة السورية.
باراك لم يكتفِ بالإشارة، بل كان حادًا في عباراته، مؤكدًا أن “لا طريق سوى دمشق”، ومحملاً “قسد” مسؤولية تعثر المحادثات. كما وجه تحذيرًا مبطنًا بأن “الوقت ينفد”، وأن الإبقاء على كيانات عسكرية منفصلة على أسس إثنية – كردية أو غيرها – لن يُسمح به تحت أي غطاء. “لا يمكن أن تكون هناك جيوش ترتدي أزياء طائفية أو قومية”، قال المبعوث، مضيفًا أن “فكرة دولة كردية أو كيان مستقل لقسد غير مطروحة“.
الأهم أن باراك لمّح بشكل واضح إلى أن الوجود العسكري الأميركي في سوريا “لن يكون دائماً”، في رسالة قرأها كثيرون على أنها بداية تخلٍ تدريجي عن الدعم غير المشروط لـ”قسد”، وإعادة التموضع باتجاه دعم التسوية بين الأطراف السورية تحت مظلة الدولة.
وفي ما بدا وكأنه استجابة سريعة للضغوط الأميركية، خرج المتحدث باسم “قسد” في تصريحات لقناة “العربية” ليعلن استعداد قوات سوريا الديمقراطية للانضمام إلى الجيش السوري، مؤكدًا أنه “من الطبيعي أن تكون قسد جزءاً من الجيش الوطني”، نافياً وجود نوايا للانفصال أو التقسيم، ومؤكدًا استمرار المفاوضات مع دمشق.
لكن رغم هذا التصريح الإيجابي ظاهرياً، أعاد المتحدث التذكير بأن “قسد” تختلف عن الجيش السوري في هيكلها وتكوينها، وأن الأمر يحتاج إلى “إعادة ترتيب”، ما يفتح باب التأويل حول مدى جدية هذا القبول، وهل هو مجرد محاولة لامتصاص الضغوط أم بوابة فعلية للتنفيذ.
في المحصلة، يبدو أن واشنطن قد حسمت خيارها، وأنها بدأت بنقل “الملف الكردي” إلى الطاولة السورية، بما ينسجم مع رؤية إقليمية ودولية ترى أن لحظة إنهاء الكيانات الخارجة عن بنية الدولة السورية قد اقتربت، وأن بقاء “قسد” بصيغتها الحالية بات عبئًا لا يمكن الدفاع عنه، لا عسكريًا ولا سياسيًا.
الوقت لم يعد في صالح “قسد” والمماطلة عقيمة
وأمام هذا السجال والضغط الشديد على “قسد” لازالت تحاول المماطلة بالمساحة الزمنية المتبقية لها، فقد تحدثت مصادر إعلامية عن مهلة أمريكية ممنوحة لـ”قسد” حتى منتصف أغسطس القادم لأجل التحرك الجدّي في تطبيق الاتّفاق، وبعيداً عن التوقيت، لم يعد الوقت لصالح قسد فعلياً، فالورقة الوحيدة التي كانت تراهن عليها وتمتلكها فقدتها وهي “محاربة تنظيم الدولة الإسلامية ـــ داعش ” التي تمكن الرئيس أحمد الشرع من كسبها وسحبها بهدوء.
ولعل حادثة تفجير كنيسة “مار إلياس” في حي دويلعة بمدينة دمشق في 22 حزيران يونيو الماضي كانت الحادثة التي حركت المياة الراكدة، حينها أكدت الداخلية السورية أن أحد الأشخاص الضالعين بالتفجير والذي تم القبض عليه بريف دمشق خلال عملية أمنية، هو عراقي الجنسية وأحد قاطني مخيم “الهــــول” شرقي الحسڪة، وتمكن من الفرار من المخيم والوصول لدمشق.
حادثة حركت الشكوك حول دور “قسد” هناك، وحذت بالتحالف الدولي للتحرك، وهو مما يفسر تسارع عجلة ترحيل قاطني المخيمات التي تديرها “قسد” من العراقيين والسوريين وإعادتهم لمناطقهم الأصلية، ومن جهة ثانية يلاحظ تغير تعاطي الحكومة السورية مع “قسد” ولو بشكلٍ غير معلن.
حيث اِعْتَقَلْت الاستخبارات السورية أعداد كبيرة من الخلايا التابعة للميليشيا في حلب ودمشق، وداهمت مقرات لهم في العاصمة، بعد حصول الاستخبارات على دلائل مؤكدة تفيد بضلوع هذه الخلايا بأعمال تخريبية في مناطق الحكومة، خطوة قد يراها البعض متأخرة، لكنها جائت لكبح جماح مزيد من زعزعة الاستقرار في البلاد.
ولعل الحدث الأبرز كان في 30 يونيو الماضي، عندما صرح محافظ دير الزور غسان السيد أحمد، أن الخيار العسكري ضد “قسد” لا يزال مطروحاً على الطاولة في حال فشلت جميع المساعي والجهود التفاوضية معها.
وأكد أن هناك استعداداً عسكرياً له، حيث تم تجهيز ثلاث فرق عسكرية كاملة وجاهزة للتدخل في الجزيرة في حال تعثرت المفاوضات، مؤكداً أن وجود “قسد” يؤثر بشكل سلبي على عمل بعض المرافق الحيوية، مثل استمرار تعليق العمل بمطار دير الزور، نظراً لحاجة الطيران إلى “التحليق الجوي فوق المناطق التي تسيطر عليها”، وهو ما يتطلب ترتيبات أمنية وفنية خاصة، وكذلك منعها من ترميم الجسور الرابطة بين ضفتي دير الزور.
العمل العسكري خيار غير مستبعد ولكن مؤجل
ثمة توافق وأجماع نسبي في الشارع السوري بمناطق الجزيرة خصوصاً، وبقية سوريا عموماً على ضرورة شن عملية عسڪرية ضد “قسد” للخلاص منها، ومن ممارساتها، وهناك دعوات علنية نحو هذا المنحى، ومطالبات للحكومة السورية بالتحرك، كون أن هناك شريحة واسعة من السوريين لا تثق بقسد وتؤمن أنها تماطل بتنفيذ الاتّفاق، وتريد سرقة جزء من الأرض السورية لخدمة طموحات وأحلام خارجية، لاسيما أن المخاوف تتزايد محلياً من تحول منطقة الجزيرة السورية إلى معقل بديل للعناصر الرافضين لإلقاء السلاح في حزب العمال الكردستاني “PKK” بعد تخلي قيادته عن القتال، خاصة أن الحزب استثمر الكثير من نفوذه وثقله التنظيمي في تلك المنطقة، وحولها كقاعدة له طوال سنوات مضت.
ويبرز هنا سؤال جوهري: هل تمتلك الحكومة السورية حالياً الأرضية اللازمة لشنّ عملية عسكرية ضد “قسد”؟
الإجابة المباشرة: لا، فالمناخ الميداني والسياسي لا يوفر الشروط المناسبة لأي تحرك عسكري واسع، وذلك لثلاثة أسباب رئيسية تعيق هذا الخيار حاليًا:
- وجود الولايات المتحدة، ووجود مخيمات وسجون تنظيم “الدولة الإسلامية” وبالتالي منع أمريكي علني، يهدد أي خطر قد يطال هذه المخيمات، قبل البت في مصيرها وتسليمها للحكومة السورية.
- يضاف لهذا الرغبة التركية بعدم التصعيد حالياً مع حزب العمال الكردستاني “PKK” ومشتقاته في سوريا، المتمثلة بـ (قسد) ريثما تنتهي تركيا من ملف نزع سلاح حزب العمال، والذي أعلن عن إلقائه للسلاح بعد 40 عاماً.
- رغبة الحكومة السورية بحسم ملف “قسد” سلمياً، والتعويل على المفاوضات حالياً، وعدم التصعيد كونه مزيد من الاستنزاف للدولة الوليدة، والتعويل على ضعف موقف “قسد” فهي بالمنظور القريب فاقدة لأي مساحة للمناورة.
ومع تقدم الوقت، والمماطلة ستزداد الضغوطات على “قسد”، والأهم عامل صبر الولايات المتحدة وتركيا الذي سيتلاشى عند نقطة معينة مستقبلاً، لذلك رفاهية الوقت ستكون معدومة قريباً وستضطر “قسد” بالنهاية للرضوخ، وفي ذات السياق سيكون التيار المتطرف الذي يقود “قسد” بدون أي مكاسب، فالرهان على القوة العسكرية، وإسقاط الحكومة بات خاسراً، كون الحكومة السورية تحصد المزيد من الأعتراف الدولي، وتتقدم بعديد الملفات خارجياً وداخلياً، لذلك رهان هذا التيار المتبقي هو مجرد آمال فقط، في خانة ( يا ليت).
وأمام هذه التطورات يقف قسم كبير من الأكراد الموالين لـ”قسد” من حاضنتها، وهم يتأملون بتحقيق سيناريوهات أقرب للخيال منها للواقع، ومنها تأمل نشوء سيناريو مماثل لما حصل في شمال العراق، واستحضار قصة بريمير وبارازاني التي تخمضت عن إنشاء أقليم “كردستان العراق”، متناسين أن الحال والظروف في سوريا مغايرة تماماً، جغرافياً، وجيوسياسياً، وديموغرافياً.
فكيف ستقوم فيدرالية بمنطقة غالبيتها الساحقة من العرب، عدا عن غياب الغطاء الدولي لخلق هكذا سيناريو، فـ”قسد” هي ميليشيا عسكرية أوجدها الظرف الطارئ لأجل غاية واحدة، وهي قتال تنظيم “داعش” وتلاشت هذه الغاية اليوم، بوجود الحكومة السورية، التي باتت تمثل البلد خارجياً، عدا عن الحاجة لخلق سوريا مستقرة واحدة بصفر مشاكل.