تُعد مدينة تعز واحدة من أبرز المدن اليمنية التي تشهد صراعًا مستمرًا منذ بداية الحرب في عام 2015، حيث تقع في جنوب غرب البلاد، وتتمتع بموقع جغرافي استراتيجي يجعلها نقطة وصل حيوية بين شمال وجنوب اليمن، بالإضافة إلى قربها من مضيق باب المندب، الذي يُعد من أهم الممرات المائية العالمية.
ورغم الأهمية السياسية والعسكرية لهذه المدينة، فإن تعز قد عانت من ويلات الحرب، حيث تعرّضت لعدة جولات من القتال العنيف والحصار المستمر من قبل جماعة الحوثيين، ولا يقتصر هذا الصراع على الجوانب العسكرية فقط، بل يمتد إلى تأثيرات اقتصادية واجتماعية وإنسانية عميقة.
التقسيم العسكري والجغرافي للمحافظة
تعتبر تعز من أكبر المحافظات اليمنية من حيث عدد السكان، فبحسب التعداد السكاني لعام 2004، يشكل سكانها ما نسبته 12.16% من إجمالي سكان اليمن، وفي عام 2009، بلغ عدد سكان تعز نحو 2.7 مليون نسمة، وتُقدّر الكثافة السكانية بـ26 نسمة لكل كيلومتر مربع.
تتكون محافظة تعز إداريًّا من 23 مديرية ثلاث منها تمثل مديريات المدينة، وهي: المظفر والقاهرة وصالة. وتُسيطر حاليًا القوات الحكومية على نحو 12 مديرية من مديريات المحافظة، وهي: القاهرة والمظفر وصالة والشمايتين وصبر الموادم والمسراخ ومشرعة وحدنان والمعافر والمواسط وجبل حبشي والصلو.
أما الحوثيون، فيُسيطرون على 7 مديريات، وهي: التعزية وخدير وشرعب السلام وشرعب الرونة وماوية وحيفان ومقبنة، فيما تُسيطر “القوات المشتركة” على مديريات الساحل الغربي للمحافظة، وهي: ذوباب والمخا والوازعية وموزع.
تقع محافظة تعز في الجزء الجنوبي الغربي من الجمهورية اليمنية، وتربط بين المحافظات الجنوبية والشمالية. تحدّها من الشمال محافظتا إب والحديدة، ومن الشرق بعض المناطق التابعة لمحافظتي لحج والضالع، وتطل على البحر الأحمر من الغرب، ومن الجنوب محافظة لحج. وتصل المسافة بينها وبين العاصمة صنعاء إلى حوالي 256 كيلومترًا.
ويضيف هذا الموقع الاستراتيجي للمحافظة أهمية استثنائية، باعتبارها نقطة وصل حيوية بين البحر الأحمر والخليج العربي، مرورًا بمضيق باب المندب.
وقد أكّد الكاتب والصحفي ياسين التميمي على الأهمية الاستراتيجية الكبيرة التي تحتلها محافظة تعز في الجغرافيا اليمنية، مشيرًا إلى موقعها الحيوي الذي يطل على باب المندب، ويشكّل نقطة ربط أساسية في بنية المواصلات البرية والبحرية.
وأضاف التميمي أن هذا الموقع يمنح تعز دورًا محوريًا في التأثير على العديد من المشاريع والمخططات التي تسعى إلى إعادة تمزيق اليمن، حيث تُعد المحافظة مركزًا حاسمًا في حركة النقل والتجارة على المستويين الإقليمي والدولي.
وتابع التميمي قائلًا: “تعز لا تقتصر أهميتها على الموقع الجغرافي فقط، بل هي أيضًا موطن لأكبر كتلة سكانية في اليمن، مما يجعلها إحدى الركائز الأساسية لاستقرار البلاد. كما يتميّز سكان تعز بموقفهم الراسخ في دعم الدولة اليمنية، سواء كجمهورية أو كدولة موحدة، وهو موقف يعكس التزامهم العميق بالوطن ووحدته في مواجهة التحديات الكبيرة”.
من الناحية الاقتصادية، أشار التميمي إلى أن محافظة تعز تتمتع بعوامل متعددة تعزز من مكانتها الاقتصادية، أبرزها الدور التجاري التاريخي لميناء المخا، الذي بلغ ذروته في فترة ازدهار تجارة البن، وأضاف: “اليوم، من المتوقع أن يزداد دور ميناء المخا في النشاط التجاري لخدمة إقليم الجند والأقاليم المجاورة، بما يعكس أهمية الميناء في مجال التصدير، خاصة مع وجود بنية صناعية مهمة للصناعات التحويلية في المنطقة”.
تعز بين إرث الثورة ومآسي الحرب
تُعد مدينة تعز واحدة من أبرز المدن التي لعبت دورًا محوريًا في تاريخ اليمن الحديث، حيث كانت مسرحًا للعديد من الأحداث السياسية الهامة التي ساهمت في تشكيل المشهد الوطني، فعلى مدار عقود، كانت تعز حاضنة للثورات والنضالات الشعبية، ابتداءً من ثورة 26 سبتمبر 1962 ضد النظام الإمامي، وصولًا إلى مشاركتها الفاعلة في ثورة 14 أكتوبر 1963 ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب.
وقد ظلّت المدينة، على مرّ الزمن، أحد المحركات الرئيسية للأحداث السياسية في البلاد، ففي السياق المعاصر، كانت تعز منطلقًا رئيسيًا لثورة 11 فبراير 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس علي عبد الله صالح، حيث تُعدّ بمثابة عاصمة الثورة، وكانت قلب الحراك الشعبي الذي شهدته اليمن.
علاوة على ذلك، تُعد تعز مركزًا تاريخيًا للعلم والثقافة في اليمن، حيث اشتهرت بميناء المخا الذي يُعتبر من أقدم الموانئ في الجزيرة العربية، وقد لعب هذا الميناء دورًا أساسيًا في تصدير البن اليمني إلى الأسواق العالمية، مما جعل تعز وجهة تجارية هامة على مر العصور.
الحصار وآثاره الإنسانية والاقتصادية
تُعتبر مدينة تعز، التي كانت في يوم من الأيام قلب اليمن النابض بالحياة والتجارة، واحدة من أبرز الأمثلة على المعاناة الإنسانية التي فرضها النزاع الدائر في البلاد، فمنذ أن فرضت جماعة الحوثي حصارها الخانق على المدينة في عام 2015، أصبحت تعز محاصرة من جميع الجهات، حيث أُغلقت معظم الطرق الرئيسية المؤدية إليها، ما أجبر سكان المدينة على سلوك طرق بديلة مليئة بالمخاطر، بعيدة وصعبة، مما أدى إلى تفاقم الوضع المعيشي والإنساني بشكل غير مسبوق.
ويُعد الحصار أحد أبرز العوامل التي ساهمت في تدهور الأوضاع الإنسانية في تعز، حيث أصبح الوصول إلى المواد الأساسية، بما في ذلك الغذاء والدواء، أمرًا بالغ الصعوبة، كما ساهم الحصار في ارتفاع أسعار السلع الأساسية إلى مستويات قياسية، ما زاد من معاناة السكان الذين يكافحون يوميًا من أجل تلبية احتياجاتهم الضرورية.
يقول مدير عام مكتب شؤون الحصار، ماهر العبسي، إن “حصار تعز المستمر منذ أكثر من 10 سنوات يشكّل كارثة إنسانية تهدد حياة المرضى، ويُعد انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان”.
وأوضح العبسي، في تصريحٍ لـ”نون بوست”، أن الحصار أدى إلى ارتفاع هائل في أسعار السلع الأساسية داخل مدينة تعز، مما يُثقل كاهل المواطنين ويعيق حياتهم اليومية، وبيّن أن التجار يتعرضون لخسائر كبيرة بسبب انقلاب الشاحنات أو صعوبة الطرق، مما يضطرهم إلى رفع أسعار نقل البضائع إلى داخل المدينة، وهو ما يؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
وشدّد العبسي على ضرورة فتح الطرقات الثلاثة الرئيسية شرق وشمال المدينة، وهي: طريق حوض الأشرف – فرزة صنعاء، وطريق كلابة – فرزة صنعاء، وطريق عصيفرة – الحوجلة، ودعا العبسي المجتمع الدولي إلى “الضغط على الحوثيين لرفع الحصار فورًا، وفتح جميع الطرقات، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، خاصة الأدوية والمعدات الطبية، إلى مدينة تعز”.
ويضيف العبسي أن “حصار تعز تسبّب بأزمة مياه تؤثر على 75% من احتياجات السكان، وتدمير 50% من شبكة الطرق، وارتفاع تكلفة السفر بنسبة 1000%، وزيادة تكاليف نقل البضائع، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 35% مقارنة بالمناطق المحررة، بالإضافة إلى حرمان المدينة من مشروع محطة أوكسجين بقدرة 300 أسطوانة يوميًا، ومشروع بناء مركزين للأطراف الصناعية”.
وأشار إلى أن الحصار ألحق الضرر بـ180 مدرسة، وأدى إلى إغلاق 31 منها، وتضرر 32 ألف طالب وطالبة، بينما بلغ عدد الطلاب الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى الجامعات نحو 8000 طالب وطالبة.
وأوضح أن الحصار تسبب أيضًا في توقف الشركات والمؤسسات التجارية، وانعدام المشتقات النفطية، وتضرر 9000 عامل. كما أشار إلى أن عدد ضحايا الألغام بلغ 1700 قتيل وجريح، في حين تضرر 258 منزلًا و40 منشأة تجارية، وتم اختطاف 718 مدنيًا.
منفذ وحيد
بعد تسع سنوات من الحصار المفروض على مدينة تعز، أعلنت ميليشيا الحوثي في يونيو/حزيران 2024 عن فتح طريق جولة القصر، لتسهيل حركة المرور داخل المدينة، ورغم أهمية هذا التطور، إلا أنه لا يُعد حلًا شاملًا للأزمة التي لا تزال تعصف بالمدينة.
ما يزال سكان تعز يواجهون العديد من التحديات الاقتصادية، إذ شهدت المدينة ارتفاعًا حادًا في أسعار السلع الأساسية بسبب الحصار المستمر، إلى جانب انهيار العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، كما لا تزال عمليات النقل تعتمد على طرق بديلة صعبة ووعرة، مما يزيد من تكاليف النقل ويؤثر بشكل مباشر على الأسعار.
ورغم هذا التحسن الطفيف، يبقى الوضع الأمني المتقلب والتحديات اللوجستية من أكبر العراقيل أمام السكان، إذ لا يزال الوصول إلى معظم مناطق تعز صعبًا، ما يعمّق من معاناة المواطنين الذين يواجهون صعوبة في الحصول على السلع الأساسية والخدمات الضرورية.
قبل فتح المنفذ الوحيد، ظل المواطنون على مدار تسع سنوات يضطرون لعبور طرق وعرة، إذ يروي أحمد الصبري، الموظف في أحد المصانع في تعز، لـ”نون بوست” معاناته اليومية تحت هذا الحصار الطويل.
يقول أحمد: “قبل الحرب، كانت حياتنا طبيعية إلى حد ما، وكنت أستطيع الذهاب إلى عملي في حوالي ربع ساعة فقط. ولكن الآن، الأمور اختلفت تمامًا، بعد إغلاق الطرق الرئيسية التي كانت تربط المدينة ببقية المناطق”.
وأضاف: “أصبحنا مضطرين للسير عبر طرق غير آمنة، وخطرة في كثير من الأحيان. الطرق البديلة أصبحت أطول بكثير، وتستغرق الرحلة من منزلي إلى مكان عملي ساعات طويلة، لا سيما في حالة الطقس السيئ أو في الليل. وفي بعض الأحيان، أضطر إلى العودة إلى المنزل في نهاية الشهر فقط، إذا كان لديّ ما يكفي من المال لتغطية تكاليف النقل”.
التحديات المستمرة وآمال السلام
على الرغم من التحديات المتعددة التي تواجه مدينة تعز، تظل آمال السكان معلّقة على إمكانية فتح مزيد من الطرق والتوصّل إلى اتفاق سياسي ينهي المعاناة الإنسانية.
وفي تصريح لـ”نون بوست”، شدد نبيل عبد الحفيظ، وكيل وزارة الشؤون القانونية وحقوق الإنسان في الحكومة الشرعية، على أن حصار تعز “جريمة ضد الإنسانية يجب رفعها فورًا”، مؤكدًا أنه يمثل معاناة مستمرة منذ عشر سنوات من بداية الحرب.
وأوضح عبد الحفيظ أن الحصار يتخذ أوجهًا متعددة، بدءًا من كونه عملية ممنهجة تستهدف المدنيين، إلى استخدامه كأداة لإلحاق أقصى درجات الألم والمعاناة، دون تمييز بين نساء وأطفال وشيوخ.
وأشار إلى أن الحصار أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في تعز بشكل كبير، حيث أصبح المواطنون يعانون من صعوبة التنقل داخل المحافظة، مما يعيق حياتهم اليومية ويضاعف معاناتهم.
واعتبر عبد الحفيظ أن الحصار يُستخدم كسلاح انتقامي من تعز على مقاومتها، وهو ما يمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، مضيفًا أن عمليات القصف المستمرة التي تستهدف المدنيين تُعد جرائم ضد الإنسانية.
وبيّن أن ميليشيات الحوثي تماطل في رفع الحصار وتُعرقل جهود المجتمع الدولي لحل الأزمة، مستخدمة الملف كأداة للابتزاز السياسي. وشدد عبد الحفيظ على أن أي عملية سلام أو تسوية تتطلب إنهاء الحصار بشكل نهائي، داعيًا المجتمع الدولي إلى الضغط على الحوثيين لرفع الحصار فورًا، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى تعز.