في مثل هذا اليوم من عام 2016 أجهض الشعب التركي أحد أخطر المؤامرات التي حيكت ضد الدولة في تاريخها الحديث، حين تصدى لمحاولة الانقلاب التي نفذها حفنة من العسكريين والمتواطئين الذين استهدفوا تقويض البنية التركية وضرب الاستقرار وإعادة البلاد نحو عقود الرجعية والظلام بدعوى التغيير والإصلاح المستتر خلف عباءة الدين.
وقبل نحو أربعة أيام، وفي الحادي عشر من يوليو/ تموز الجاري، وأمام كهف كاسينا في مدينة السليمانية العراقية، أحرق 30 عنصرًا ( 15 رجلا + 15 امرأة) من حزب العمال الكردستاني (PKK) أسلحتهم، على مرأى ومسمع من الجميع، في استجابة عملية لقرار الزعيم التاريخي للحزب، عبدالله أوجلان (المقبوض عليه عام 1999 وحُكم عليه بالسجن المؤبد) حلّ التنظيم من الناحية الأيديولوجية، ليتبخر حلم الانفصال الذي طارد التنظيم لنحو خمسين عامًا كاملة.
حزب العمال الكردستاني يبدأ تسليم أسلحته في العراق، بعد إعلان حل نفسه تلبية لدعوة أوجلان، في محاولة لإنهاء نزاع استمر لعقود مع #أنقرة. pic.twitter.com/hR1LY9oNsz
— نون بوست (@NoonPost) July 11, 2025
وما بين التاريخين، قطعت تركيا شوطًا مٌرهقًا وطويلا من الانتقال من الدولة التي تواجه خطر الانقلاب الذي يستهدف أمنها واستقرارها وتماسكها وثقلها، إلى دولة خالية من الإرهاب، تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق التوازن الإقليمي والازدهار الاقتصادي، وتستعيد مكانتها على خارطة العالم كأحد اللاعبين المؤثرين في المشهد.
تسع سنوات كاملة، أعلن فيها الأتراك حالة الطوارئ على كافة المستويات، رافعين شعار “تركيا أولا”، محاولين تحقيق أكبر استفادة ممكنة من محاولة الانقلاب الفاشلة، والتصدي لكافة الشروخات التي مهدت الطريق نحو الوصول إلى تلك اللحظة المفصلية، إيمانًا بأن الضربات التي لا تقصم ظهرك تقويك، فحولت المشهد من محاولة للانقلاب على الدولة إلى قوة دافعة للبناء والنهضة.
نهضة شاملة.. الدرس المستفاد الأول
كشفت محاولة الانقلاب رغم فشلها الهشاشة التي تعاني منها العديد من القطاعات التركية، والثغور المتعددة في جدار الصمود والاستقرار، كما فضحت ما تعاني منه الجبهة الداخلية من تفسخ على بعض الجبهات، والمؤامرات الداخلية والخارجية التي تٌحاك بالدولة، فكان الدرس الأول من تلك الواقعة ضرورة الاعتماد على النفس وترميم كل تلك الشروخات وإعادة النظر في بنية الدولة التحتية وقدراتها والعمل على سد كافة الاحتياجات الاقتصادية والتقنية والتعليمية والدفاعية.
الصناعات الدفاعية.. قطعت أنقرة شوطًا مهمًا في هذا المجال، حتى باتت واحدة من أكثر الدول الرائدة في الصناعات الدفاعية، وتصدرها لقرابة 180 دولة، خاصة الطائرات المسيرة من طراز “بيرقدار” “أقينجي” (AKINCI) “آق صونغور” (AKSUNGUR) و”كيزل ألما” أول مسيرة نفاثة محلية الصنع، بجانب المقاتلة الوطنية “KAAN”، كذلك دخول حاملة الطائرات “تي سي جي أناضولو” (TCG Anadolu) الخدمة كأوّل حاملة طائرات تركية محلّية الصنع.
النهضة الاقتصادية.. حققت أنقرة على مدار السنوات التسعة الماضية نموًا غير مسبوق، رغم التحديات والأزمات التي تعرض لها الاقتصاد العالمي مثل جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، والزلزال المدمر الذي ضرب البلاد في فبراير/شباط 2023، حيث ارتفعت قيمة الصادرات التركية لنحو 260 مليار دولار في عام 2024، وسط توقعات بأن يتخطى حاجز الـ 270 مليار دولار خلال العام الحالي، فيما ارتفعت حصّة الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي إلى أكثر من 15 ألف دولار.
وفي المجال السياحي عززت البلاد من مكانتها كوجهة سياحية عالمية بعد عزوف نسبي بعد محاولة الانقلاب، ففي العام الماضي استقبلت أكثر من 60 مليون سائح، وسط خطط ممنهجة ومدروسة لزيادة هذا العدد وتحقيق أكبر عائد ممكن من السياحة واستثمار ما لديها من قدرات وإمكانيات تجعلها قبلة للملايين من السائحين من مختلف دول العالم.
وفي قطاع الطاقة تواصل تركيا تعزيز استقلالها في هذا المجال، وفرض السيادة على مياهها الاقتصادية، مع انطلاق عمليات تشغيل الغاز الطبيعي المكتشف في البحر الأسود، ومواصلة جهود التنقيب في البحر المتوسط عبر سفن الاستكشاف البحري التي تمسح المياه الاقتصادية؛ بحثًا عن مكامن الطاقة.
طفرة تعليمية.. بعد عقود من ترك المنظمات والكيانات التعليمية غير الرسمية للعمل بأريحية كاملة في الحقل التعليمي ما نتج عنه كوارث في العقليات والإدراك وقيم المواطنة أعادت الدولة التركية- بعد 2016- هيكلة قطاع التعليم الداخلي من جذوره، عبر ضمّ كافة المؤسّسات المستقلة إلى وزارة التربية الوطنية مما فرض حالة من السيادة المطلقة على المنظومة التعليمية، مع إعادة النظر في المناهج وأليات التدريس.
أما على المستوى الخارجي فتعزز دور مؤسّسة المعارف التركية التي أصبحت لاعبًا دوليًا في خارطة التعليم العالمي، حيث وسّعت أنشطتها لتشمل 586 مؤسّسة تعليمية في 55 دولة، ضمن علاقات رسمية مع 108 دول، مقدّمة التعليم لأكثر من 70 ألف طالب، وهو ما كان له أثره التعليمي والدبلوماسي كأحد أدوات القوى الناعمة التركية.
تعزيز النفوذ الدبلوماسي.. بنت أنقرة شبكة هائلة من البعثات الدبلوماسية حول العالم، تضم حاليًا نحو 262 بعثة دبلوماسية، تحتل بها المرتبة الثالثة في قائمة أكبر البلدان ذات التمثيل الدبلوماسي العالمي، كما عززت من علاقاتها الخارجية المبنية على الاحترام المتبادل والتعاون البناء، كما أولت اهتمامًا كبيرًا بالمنطقة العربية، والخليج العربي بشكل خاص، منتهجة سياسة “تصفير الأزمات” مع الجميع، حيث فتحت قنوات اتصال وأبقت الباب مواربًا حتى مع البلدان التي تعاني العلاقات معها من توترات بين الحين والأخر.
ونتيجة لهذا التنامي الدبلوماسي قامت تركيا بدور الوساطة في العديد من الأزمات الدولية منها وساطتها في تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، ورعايتها اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود عام 2022، وهو ما جنّب العالم أزمة غذاء كبيرة، ومؤخرًا استضافة المباحثات بين موسكو وكييف من أجل التوصل إلى حلول لإنهاء الحرب بينهما.
ما لم يُحل بالمفاوضات يُحل بالمواجهة
ومن أبرز الدروس التي استفادت منها أنقرة من محاولة الانقلاب، ووظفتها بشكل احترافي من أجل الوصول إلى اللحظة الراهنة، تركيا بلا إرهاب، ضرورة إعادة النظر في أسلوب واستراتيجيات مكافحة الإرهاب، والانتقال من خانة المفاوضات العقيمة الجدلية إلى المواجهة المباشرة لاستئصال البؤر الإرهابية من جذورها.
وعليه بدأت السلطات التركية، بعد الطفرة التي شهدتها في مجال الاستخبارات، في تنفيذ عمليات نوعية دقيقة، جزت من خلالها عشب المنظمات الإرهابية في الداخل والخارج، فكانت عمليات “درع الفرات”، و “غصن الزيتون”، و “نبع السلام” في سوريا، و”المخلب” في العراق، والتي لعبت دورًا محوريًا في القضاء على الكتل الإرهابية وإضعافها بصورة دفعت قيادات تنظيم PKK للتفكير مليًا في الاستمرار في سياسة المواجهة والتصعيد مع الدولة التركية.
— نون بوست (@NoonPost) July 12, 2025
وبالتوازي مع ذلك شرعت الدولة في تنفيذ إصلاحات جذرية شملت أجهزة الأمن والدفاع والعدالة، بهدف تحصين الدولة من الاختراقات، وضمان ولاء المؤسّسات للدستور وللشعب، وهو ما كان له أثره البالغ في توسعة الفجوة بين التنظيمات المسلحة وحواضنها الشعبية، خاصة بعد الضربات التي تلقتها خلال السنوات الماضية وأجبرتها على تسليم سلاحها وحلّها تنظيميًا، أيديولوجيًا وعسكريًا.
وفي مؤتمر تنظيم PKK الذي عٌقد بين 5 و7 مايو/أيار الماضي أعلن قادته عن حل التنظيم من الناحية التنظيمية، بعد أن سبق لأوجلان أن أعلنه من الناحية الأيديولوجية، ثم تبع بحرق الأسلحة في العراق، في رسالة ذات دلالة رمزية واضحة، ورغم ذلك فإن السلطات التركية وبلغة رصينة أكدت أن الأمر لم ينته بعد بهذه الطريقة.
الرئيس #أردوغان أثناء إلقائه كلمة تاريخية في الاجتماع الاستشاري لحزب العدالة والتنمية في #أنقرة: "نحن، الأتراك والأكراد والعرب، نقشنا التوحيد معًا." pic.twitter.com/l8Zd1omoaf
— نون بوست (@NoonPost) July 12, 2025
إذ أن تصفية جناحه في إيران المعروف بـPJAK، وجناحه السوري PYD/YPG، ودمج العناصر غير المتورطة في جرائم في بنية النظام السوري، يعدّان أهدافًا قائمة حسبما أكد نائب رئيس حزب العدالة والتنمية والمتحدث باسم الحزب الحاكم، عمر تشيليك، بقوله: “إن عملية نزع السلاح لا تقتصر على تنظيم PKK، بل يجب أن تشمل أيضًا امتداداته كـPYD/SDG وPJAK، إضافة إلى البنى الأيديولوجية والمالية غير الشرعية مثل KCK.”
وتدير تركيا تلك المعركة بمفردها دون طرف ثالث، بعدما تمترست خلف مصادر قوتها الذاتية، على رأسها جهاز الاستخبارات الوطنية والقوات المسلحة، معلنة تعافيها السريع مما تعرضت له في 2016، وقدرتها على لملمة شعثها مبكرًا قبل أن يتجاوز الوضع خطوطه الحمراء ويستغله المتربصون بالدولة التركية من الداخل والخارج.
وهكذا يٌحيي الأتراك الذكرى التاسعة لتلك المحاولة الفاشلة، مستلهمين منها الدروس والعبر، بعد أن حولوها من محنة كادت أن تهدد أمن واستقرار الدولة وتقوض مكتسبات عقود مضت من الديمقراطية والمدنية، إلى منحة نحو الازدهار والتوازن والنهضة واستعادة الثقل، ليقدم الشعب التركي بكل أطيافه، مؤيدين ومعارضين، نموذجا فريدًا في اللحمة الوطنية والتصدي لمخططات العودة لعصر العسكرة والديكتاتورية مرة أخرى.