ترجمة وتحرير: نون بوست
عادةً ما يُنظر إلى الجهل على أنه النقيض السلبي للمعرفة، كالظلام الذي يتراجع أمام انتشار التنوير.
لكن… تخيّل جهلًا يقاوم.
تخيّل جهلًا يرد الضربة.
تخيّل جهلًا ميليشيويًّا، عدوانيًّا، لا يعرف الخوف، جهلًا نشطًا، ديناميكيًّا، يرفض أن ينسحب بهدوء، ليس محصورًا بالجهلة أو غير المتعلمين، بل يُنشر على أعلى المستويات في الدولة، بل ويقدّم نفسه دون خجل على أنه معرفة.
– تشارلز ميلز، “الجهل الأبيض”
قمع ثلاثي للمعرفة
من الشائع هذه الأيام أن يقول الأكاديميون إنهم يعملون في مجال “إنتاج المعرفة”. قد يبدو هذا التعبير في بعض الأحيان متكلّفًا قليلًا، لأنه يوحي وكأننا نعمل على خط إنتاج نصنّع فيه بضائع فكرية ضرورية. لكن مهمة إيصال المعرفة إلى الجمهور الأوسع في الولايات المتحدة لم تبدُ يومًا أكثر إلحاحًا ولا أكثر تعرضًا للتهديد مما هي اليوم.
ويرجع ذلك إلى حدّ كبير إلى أن إدارة ترامب لا تواجه إنتاج المعرفة بالإهمال، بل بمحاولة نشطة لإنتاج الجهل، في عدة مجالات، فيما قد يكون أشد حملة قمع تشهدها الجامعات في تاريخ الولايات المتحدة. وفي السياقات السياسية خاصةً؛ يمكن فهم الجهل ليس فقط على أنه غياب للمعرفة، بل كمحصّلة عملية نشطة لقمع وتشويه المعرفة التي تهدد البنى السلطوية والنخب المهيمنة.
وتتناقض نتائج العديد من مجالات البحث الأكاديمي مع الأيديولوجيا اليمينية للإدارة الأمريكية الحالية، بما في ذلك البحوث العلمية المتعلقة بتغير المناخ، وسلامة اللقاحات، وحماية البيئة، ومصادر الطاقة البديلة، والدراسات التاريخية حول العرق والنوع الاجتماعي، على سبيل المثال لا الحصر، وهذا يفسر إلى حدّ بعيد الهجوم الحالي على الجامعات.
وتقع الأبحاث الأكاديمية الأخيرة حول فلسطين بشكل مباشر ضمن هذه الفئة، ولهذا السبب تحديدًا أصبحت في مرمى الحكومة الفيدرالية وتعرّضت لاستهداف مباشر خلال الأشهر الأخيرة. وكان هذا واضحًا في الرسالة الشهيرة من وزارة التعليم إلى جامعة كولومبيا بتاريخ 13 آذار/ مارس 2025، التي استهدفت قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا، وطالبت بوضعه تحت وصاية أكاديمية لمدة لا تقل عن خمس سنوات. كما ظهر ذلك في رد الفعل المذعور من جامعة هارفارد على إدارة ترامب، عندما أقالت مدير مركز دراسات الشرق الأوسط ونائبه دون تقديم أي مبرر، بحجة أن الأمر “يتعلق بشؤون الموظفين”.
ويتم استهداف هذه المؤسسات لتكون عبرة لغيرها، بالدرجة الأولى لأنها تجرأت على تدريس الحقيقة حول فلسطين. كان الأمر مقبولًا طالما كانت المعرفة محصورة في القاعات الجامعية المغطاة باللبلاب والمكتبات المغبرة، لكن عندما أشعلت حركة طلابية واسعة وانتشرت إلى النقابات والمنظمات غير الحكومية، وقادة الكنائس، والحاخامات، وشرائح أخرى من المجتمع، كان لا بد من اتخاذ إجراء.
ولهذا فإن ما تحاول الحكومة الفيدرالية فعله الآن لا يقل عن كونه قمعًا شاملًا للمعرفة حول فلسطين؛ حيث فرض الجهل في هذا المجال يأخذ ثلاثة أشكال: تقويض مصداقية الباحثين الأكاديميين، قمع وإنكار نتائج أبحاثهم، اتهام الحركة الطلابية، المتأثرة بهذه الأبحاث، زورًا بمعاداة السامية.
مشروع إستير: العودة من جديد
كما لوحظ على نطاق واسع، فإن الخطة المتّبعة للهجوم على الجامعات فيما يتعلق بتدريس وبحث القضية الفلسطينية تستند إلى تقرير “مشروع إستير” الصادر عن مؤسسة “هيريتيج”، والذي يُزعم أنه كشف عن مؤامرة معقدة وخبيثة تهدف إلى السيطرة على عقول الأساتذة والطلاب، وتحويلهم إلى كارهي يهود وعدائي إسرائيل. قراءة تقرير “مشروع إستير” تُدخل القارئ في دوامة نظريات المؤامرة من نوعية “بروتوكولات حكماء صهيون”؛ حيث يفبرك التقرير قصة خيالية ذات أبعاد عالمية، يزعم فيها أن إمارة قطر استخدمت ثروتها النفطية لتمويل الجامعات من أجل رشوة مئات الأساتذة المتخصصين في دراسات الشرق الأوسط لغسل أدمغة الطلاب وإقناعهم بمقولات معادية للسامية.
وبحسب هذا السرد المشوّه، فإن هذه المؤامرة العالمية أنشأت ما يسمى “شبكة دعم حماس” التي تُخطّط لتدمير دولة إسرائيل. وتتكون هذه الشبكة المظلمة من عدة “منظمات دعم لحماس”، مثل “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” و”الصوت اليهودي من أجل السلام”، والتي تُصوَّر بأنها موحّدة ضمن شبكة وطنية تدعم حماس.
ويدّعي التقرير أيضًا أن ما مجموعه 856 أستاذًا في 240 جامعة قد تم “إفسادهم” بأموال أجنبية من داعمين أثرياء للقضية الفلسطينية للتأثير على المناهج الأكاديمية ضد إسرائيل وضد اليهود.
ويضيف التقرير: “”هؤلاء ‘الأساتذة” في الجامعات والكليات، وغالبًا ما يكونون محميين في أقسام العلوم الاجتماعية أو برامج دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أو الدراسات الإسلامية، هم معادون للسامية بشكل واضح وعدائيون تجاه إسرائيل.”
كيف يتمكّن هؤلاء الأساتذة الفاسدون، الذين تقاضوا أموالًا من قطر لصالح حركة حماس، من التأثير على طلابهم وتحريك قطاعات أخرى في المجتمع، بينما يعجزون في الأصل عن إقناع طلابهم بالكفّ عن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي.
ومع ذلك، فإن نفوذهم يمتدّ ليشمل أساتذة ومعلمين إضافيين ونشطاء اجتماعيين وخبراء في مختلف المجالات، حيث يجري تلقينهم الفكر المعادي لليهودية الذي تتبنّاه حماس، ثم يتسرّب هذا الفكر إلى المناهج التعليمية في المدارس والمرحلة الثانوية، لينتشر سُمّه داخل المناهج وأذهان الشباب الأمريكي.
وفي حبكه لهذه النظرية المعقدة، يصبح تقرير “مشروع إستير” أحيانًا مادة ساخرة بشكل غير مقصود. فبدلًا من تقديم أدلة على معاداة السامية في الجامعات، يدّعي التقرير أن هذه الأدلة قد “اختفت” بشكل معجز من الإنترنت.
وفي نسجه لهذه النظرية المؤامراتية المعقّدة، لا يخلو تقرير «مشروع إستير» من بعض الجوانب الطريفة عن غير قصد. فعوضًا عن تقديم أدلّة واضحة على تفشّي معاداة اليهودية في الجامعات الأمريكية، يدّعي التقرير أن هذه الأدلّة اختفت بشكلٍ غامض من شبكة الإنترنت. وقد أعرب معدّو التقرير عن أسفهم قائلين إن “البحث عن أمثلة موثّقة للتصريحات والأفعال المعادية لليهودية التي شهدتها أمريكا مباشرة بات أكثر صعوبةً من أي وقت مضى.”
ويوضح التقرير أنّ “عمليات البحث عبر الإنترنت عن صور للطلبة والمتظاهرين المؤيدين لفلسطين وهم يردّدون شعارات معادية لليهود أو يرفعون لافتات بذيئة أو مقاطع مصوّرة توثّق أعمال عنف ضد اليهود، أصبحت تعطي نتائج أقل صلة بالموضوع. سواء كان ذلك بذريعة عدم نشر دعاية معادية لليهودية، أو خشيةً من الدعاوى القضائية، أو بدافع تهذيب الصورة الحادّة للمتظاهرين، يبدو أن هناك عملية ممنهجة لتطهير الإنترنت من هذه المواد.”
وهذا الادعاء سيكون مفاجئًا لأي شخص حاول يومًا إزالة أي محتوى من شبكة الإنترنت، خصوصًا إن كان يحمل طابعًا مثيرًا أو حتى متواضع الإثارة، إذ إن بقاء مثل هذه المواد وانتشارها أمر شبه مؤكّد. ومع ذلك، يصرّ التقرير على أن مظاهر معاداة اليهودية قد اختفت من السجل الرقمي، ولم يعد بالإمكان تقديمها كأدلّة. وعليه، فإن غياب الدليل هنا يُقدَّم بوصفه دليلاً بحد ذاته، في مشهد يكشف كيف يمكن توظيف الجهل المصطنع كحجّة لإثبات رواية بعينها.
البحث والتدريس عن فلسطين وإسرائيل
إن اضطرار مشروع «إستير» إلى نسج رواية مؤامرة ضخمة تموّلها قطر وتقودها حماس لتسميم عقول الأساتذة والطلاب الأمريكيين، يكشف عن حقيقة يصعب على الدوائر الصهيونية تقبّلها، رغم أنها أبسط وأقل إثارة. فعلى مدى العقود القليلة الماضية، شهدت الأبحاث والدراسات الغربية حول الشرق الأوسط عمومًا، وقضية فلسطين خصوصًا، تحوّلًا داخليًّا عميقًا؛ بدأ الأمر مع بعض المؤرخين الإسرائيليين الذين تمكنوا، عبر الوصول إلى الأرشيفات الإسرائيلية التي رُفعت عنها السرية، من إعادة سرد حقائق تاريخية عن نشأة دولة الاحتلال، ما هزّ السردية الرسمية الإسرائيلية والأمريكية المؤيدة لها.
ويُعدّ كتاب “ميلاد إسرائيل” (1987) للمؤرخ سمحا فلابان من أوائل هذه الإصدارات الرائدة، وإن كان غالباً ما يُهمَل لصالح أعمال بني موريس، وآفي شلايم، وإيلان بابيه، وتوم سيغيف، وزئيف شترنهل، وغيرهم من الباحثين.
ومنذ أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، بدأ هؤلاء المؤرخون الجدد في التنقيب داخل الأرشيفات الإسرائيلية لتوثيق الكيفية التي جرى بها تحويل فلسطين إلى دولة يهودية، بما في ذلك التطهير العرقي الممنهج وخطط “الترحيل” المعقدة للسكان الأصليين، وارتكاب مجازر واسعة بحق المدنيين العزّل، في مشهد يعكس أبشع مظالم الاستعمار الاستيطاني. والمفارقة أن هذه «الاكتشافات» لم تكن جديدة فعلاً، إذ كان المؤرخون الفلسطينيون قد كشفوا ووثّقوا «النكبة» منذ زمن وربطوها بالسياق الاستيطاني الاستعماري.
ومع ذلك، أسهمت هذه الموجة من الدراسات الإسرائيلية في إدخال إعادة قراءة التاريخ الفلسطيني والإسرائيلي إلى الخطاب الأكاديمي الغربي، وأعادت تسليط الضوء على الحركة الصهيونية من منظور مختلف. وعلى مدى جيل كامل، أصبحت هذه الرواية تُدرَّس في الجامعات الأمريكية ويتلقاها الطلاب كحقيقة تاريخية. ولذا، لم يكن مستغربًا أن يثور غضب هؤلاء الطلاب المثقفين عندما واجهوا حقيقة «النكبة المستمرة» في غزة والحملة الإبادة الأسوأ ضد الفلسطينيين منذ قرن.
إلى جانب هذه الأبحاث التاريخية، جاءت دراسات حديثة في العلوم السياسية وعلم الاجتماع والتخطيط الحضري والأنثروبولوجيا وغيرها، لتوثّق بجهد دقيق طبيعة الفصل العنصري لدولة الاحتلال. وأثبتت هذه الأعمال أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بدعم كامل من الولايات المتحدة، عملت بلا كلل لضمان عدم وجود أي «أرض مقابل سلام» أو أي فرصة لسيادة الفلسطينيين وتقرير مصيرهم. وقد تمكّن الأكاديميون من ترسيخ حقيقة أن إسرائيل اليوم نظام فصل عنصري يسعى لمستقبل عنصري يحتل فيه كامل الأرض «من النهر إلى البحر»، مع حرمان الفلسطينيين داخل حدودها من أبسط حقوقهم، وفي مقدمتها الحق في تقرير المصير.
أثر البحث الأكاديمي
كان للأبحاث والدراسات الأكاديمية تأثير بالغ، إذ غيّرت من طبيعة التعليم الجامعي وامتد أثرها ليصل من قاعات المحاضرات إلى صفوف الناشطين والمجتمع الأوسع. هذا التحوّل يعني أن جمهورًا واعيًا، وخاصة من الأجيال الشابة، صار يعبّر عن معارضة متزايدة للاحتلال ويطالب بتفسير للدعم الأعمى الذي تقدّمه الإدارات الأمريكية المتعاقبة لإسرائيل، مهما اختلفت توجهاتها السياسية.
وهذا الغضب المشروع من سياسات الحليف الأقرب هو ما تسعى إدارة ترامب وحلفاؤها اليمينيون اليوم لقمعه بشتى الوسائل. وقد امتدت هذه الحرب على البحث الأكاديمي لتطال مجال الدراسات الإسرائيلية نفسه، حيث شعر بعض الممولين بالإحباط بعدما اكتشفوا أن ملايينهم تُموّل أبحاثًا نقدية تجاه إسرائيل والصهيونية (أي أبحاث جادة وموثوقة)، ما دفع بعضهم إلى سحب تبرعاتهم كرد فعل.
إن محاولات طمس المعرفة حول فلسطين وإسرائيل تستهدف منع نتائج هذه الأبحاث من الوصول إلى جمهور أوسع يؤثر في النقاش العام وصنع القرار. وفي هذا السياق، لا يقلّ إنكار النكبة الفلسطينية المستمرة ونظام الفصل العنصري عن إنكار التغيّر المناخي أو نظرية الخلق أو الأوهام الطبية القديمة. ولتمرير هذا الإنكار، يجري الترويج بأن خلاصات الأبحاث الأكاديمية الأخيرة منحازة، وبالتالي يمكن تجاهلها بوصفها هراءً. أما اتهام معظم الخبراء الأكاديميين في الولايات المتحدة بمعاداة السامية، فيشبه الزعم بأن غالبية علماء المناخ قد تمّ رشوتهم من قبل منظمات بيئية وأن أبحاثهم لا يُعوَّل عليها.
وعلى الرغم من الطابع العبثي لنظرية المؤامرة التي يروّج لها تقرير «مشروع إستير»، إلا أن شرائح واسعة من كتّاب الرأي الأمريكيين، وحتى قطاعات من الحزب الديمقراطي، باتت تتبنّى بعض مزاعمه. فالمشهد الإعلامي يعجّ بمن يردّدون أن الجامعات الأمريكية صارت مرتعًا لأفكار معادية لليهودية، مع تأكيد خجول على أن حملات القمع الترامبية قد تجاوزت الحدود. إذ يدّعي البعض: نعم هناك معاداة منتشرة في الجامعات، لكن دعوا مؤسسات مثل هارفارد وكولومبيا تعالج الأمر بنفسها دون تدخل اتحادي ثقيل اليد.
حتى البروفيسور ستيفن بينكر من جامعة هارفارد كتب مؤخرًا في «نيويورك تايمز» أن «بعض العداء لهارفارد كان مبررًا»، مكرّرًا التذمر المعتاد من نزعات «اليقظة» والمناهج التقدمية مثل مساقات «الإثنوغرافيا الكويرية» و«تفكيك النظرة الاستعمارية». ومع ذلك، يؤكد بينكر نفسه، إلى جانب عدد كبير من الأساتذة اليهود في هارفارد ومؤسسات أخرى مستهدفة، أنه لم يتعرض مطلقًا لأي شكل من أشكال معاداة السامية داخل جامعته.
توظيف معاداة السامية كأداة قمع
لا شك أن التلويح بتهمة معاداة السامية ليس سوى تشويه وافتراء، يكفي للدلالة على ذلك الدور البارز الذي يضطلع به العديد من الطلاب وأعضاء الهيئات التدريسية من اليهود غير الصهاينة أو المناهضين للصهيونية في طليعة الحركة المدافعة عن الحقوق الفلسطينية. إذ إن يهود أمريكا يتمتعون بتنوع فكري واسع ويعبّرون عن طيف واسع من الآراء بشأن إسرائيل.
وتُظهر استطلاعات الرأي أن الأجيال الشابة من اليهود – كغيرهم من الشباب الأمريكي – أكثر نقدًا ورفضًا. ففي استطلاع أجراه «المعهد الانتخابي اليهودي» لناخبين يهود مسجلين بين حزيران/ يونيو وتموز/ يوليو 2023، وافق 38 بالمئة ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عامًا على عبارة «إسرائيل دولة فصل عنصري»، فيما أيد 33 بالمئة مقولة «إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين»، وكان ذلك قبل أشهر من اندلاع الحرب الأخيرة على غزة.
وهذا ينسجم مع ما لمسته شخصيًا في حواراتي مع عشرات الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في جامعات عدة، إذ إن بعض أكثر الأصوات نقدًا لإسرائيل ينتمون إلى الهوية اليهودية دينيًا أو ثقافيًا أو كليهما. من هنا، يبدو الاتهام المتكرر بأن الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل تسببت في إزعاج الطلاب اليهود – وكأنهم كتلة واحدة – إهانة بالغة.
في المقابل، بينما تُستخدم تهمة معاداة السامية كعصا لقمع الأصوات المعارضة فيما يخص فلسطين وإسرائيل، نادرًا ما يُشار إلى أن الإسلاموفوبيا والتحيّز ضد العرب والفلسطينيين تمثّل مشكلة أكبر بكثير في كل جامعة جرى فيها قياس هذه المؤشرات. فعلى سبيل المثال، أظهر استطلاع أُجري بين طلاب هارفارد حول شعورهم بالأمان أن «الطلاب المسلمين كانوا الأكثر شعورًا بانعدام الأمان الجسدي في الحرم الجامعي بنسبة 47 بالمئة، مقارنة بـ15 بالمئة من الطلاب اليهود، و6 بالمئة من المسيحيين، و6 بالمئة ممن يُعرّفون أنفسهم بلا انتماء ديني». أي أن عدد الطلاب المسلمين الذين يشعرون بانعدام الأمان الجسدي يزيد بثلاثة أضعاف عن الطلاب اليهود، ومع ذلك لا نجد أي ضجة بشأن الإسلاموفوبيا أو التمييز ضد المسلمين، فضلًا عن غياب الاهتمام بمظاهر العنصرية ضد الفلسطينيين أو ضد السود واللاتينيين أو التمييز ضد الجنس أو الطبقة أو الإعاقة.
إن الادعاء بأن الجامعات الأمريكية المرموقة، التي تحتضن عددًا كبيرًا من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس اليهود، وتدرّس في بعضها التوراة ضمن مناهجها، وتكرّس تعليمها لمناهضة كل أشكال العنصرية والتعصّب، أصبحت بؤرًا لمعاداة السامية، هو محض هراء. بل تُظهر الأبحاث الأكاديمية والاستطلاعات الحديثة أن معظم معاداة السامية في الولايات المتحدة تنبع من اليمين السياسي.
ولخّصت ورقة بحثية مُحكّمة صادرة عام 2022 الأمر بقولها: «تبيّن أن المواقف المعادية للسامية نادرة في صفوف اليسار لكنها شائعة في أوساط اليمين، خاصة بين الشباب اليميني. وحتى حين يُذكر لهؤلاء أن معظم يهود أمريكا لديهم مواقف إيجابية تجاه إسرائيل – وهي دولة لا تحظى بشعبية في الأوساط اليسارية – نادرًا ما يؤيد اليساريون عبارات مثل أن اليهود يملكون نفوذًا مفرطًا أو ينبغي مقاطعتهم.»
وكما كتب البروفيسور جوناثان زيمرمان، أستاذ التربية بجامعة بنسلفانيا، في صحيفة «نيويورك ديلي نيوز» مؤخرًا: «رغم أن الجامعات شهدت زيادة في حوادث معاداة السامية بعد هجوم حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فإن رواد الجامعات أقل تحاملًا تجاه اليهود مقارنة بعامة السكان”.
ولا شك أن من واجب الجميع التصدي لمعاداة السامية وكل أشكال العنصرية أينما وُجدت، غير أن ما نشهده من حملة شرسة ضد الجامعات لا يندرج ضمن هذا الإطار، بل هو أقرب إلى ما وصفه المدير التنفيذي السابق لـ«هيليل» بجامعة هارفارد، بيرني شتاينبرغ، بأنه «الاستخدام الانتهازي لمعاداة السامية من قبل جهات نافذة تسعى لتخويف الأصوات الناقدة لإسرائيل وللسياسة الأمريكية تجاهها، وإسكاتها في نهاية المطاف.»
صناعة الجهل
إن صناعة الجهل بما يتعلق بفلسطين تقوم على ثلاثة مستويات من قمع المعرفة. أولًا، يجب طمس الأبحاث التاريخية والدراسات الاجتماعية التي توثق الطرد المتعمّد للفلسطينيين والظلم التاريخي الواقع عليهم، إلى جانب حقيقة أن وجود دولة الاحتلال الإسرائيلي يقوم أصلًا على إنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. ثانيًا، لا بد من ترويج رواية زائفة – دون أي دليل – تزعم وجود شبكة أسطورية من «المنظمات الطلابية» وأساتذة الجامعات الذين يتلقون رشاوى من قطر لدعم حماس، بهدف تفسير سبب إنتاج الأوساط الأكاديمية لأبحاث نقدية بشدة للصهيونية وللدولة الإسرائيلية. وأخيرًا، ينبغي تشويه الحركة الساعية إلى السلام والعدالة في فلسطين – وهي حركة تقودها الأجيال الشابة – عبر تصويرها عمدًا كحشد معادٍ للسامية.
إن هذا المسعى الثلاثي لقمع المعرفة واستبدالها بالجهل يوضح إلى أي مدى يضطر اللوبيات الصهيونية إلى المضي فيه اليوم لإخفاء الحقائق والتصدي للصحوة الشعبية ضد الظلم الفادح والفظائع المستمرة في فلسطين.
المصدر: موندويس