مع تصاعد الأزمات السياسية بين بغداد وأربيل حول العديد من الملفات والقضايا العالقة بين الطرفين، وتحديداً حول ملفات النفط والغاز، ورواتب موظفي إقليم كردستان، وحصة الإقليم من الميزانية العامة للبلاد، تأتي الهجمات المستمرة التي تتعرض لها مدن إقليم كردستان، وتحديداً المنشآت النفطية، عبر طائرات مسيرة انتحارية، يُعتقد بأنها إيرانية الصنع، لتضفي بعداً آخر للأزمة، وتُعقد أكثر من مسارات الحل السياسي بين الطرفين.
تحول الضغوط التي تتعرض لها أربيل اليوم، من ضغوط ذات طابع سياسي إلى ضغوط ذات طابع عسكري، يشير إلى أن أفق العلاقة بين بغداد وأربيل وصلت لطريق مسدود، خصوصاً في ظل إصرار كلا الطرفين على تحقيق حل سياسي وفق شروطه السياسية، ما يجعل بدوره أفق العلاقة خاضعة لسيناريوهات معقدة في المرحلة المقبلة.
الخيارات الكردية المعقدة
مما لا شك فيه إن هذه الهجمات وإن كانت غير جديدة، إلاّ أن تصاعدها وبشكل متكرر يحمل في طياته العديد من الأسئلة والاستفسارات حول الدوافع الحقيقية التي تقف خلفها، فعلى الرغم من أن الحكومة العراقية لا تزال تؤكد على عدم وجود جهة معينة تقف خلف هذه الهجمات، إلاّ أن السلطات الأمنية في حكومة إقليم كردستان حملت فصائل مسلحة منضوية ضمن الحشد الشعبي مسؤولية الوقوف خلفها، وأدت مثل هذه الاتهامات إلى توتر سياسي بين بغداد وأربيل منذ مطلع شهر يوليو/ تموز، خصوصاً وإن الحكومة العراقية وحتى الإطار التنسيقي رفض مثل هذه الاتهامات الكردية.
ورغم التوتر الذي لم تنجح حتى الآن العديد من المبادرات السياسية الداخلية في حله، سواءً تلك التي قادها القيادي في الإطار التنسيقي هادي العامري، أو رئيس مجلس النواب العراقي محمود المشهداني، أو حتى مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الاعرجي، إلاّ إن الثابت هو إن أربيل ماضية في حل هذه الأزمة مع الحكومة العراقية مباشرة، وحتى مثل هذا التوجه يصطدم بعقبة كبيرة، خصوصاً وإن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لا يستطيع التعاطي مع أي مطالب كردية خارج سياق القانون والدستور العراقي، خشية أن يتم التعاطي مع أي حل سياسي مع أربيل، على إنه تنازل سياسي من بغداد، وبالتالي يتم استغلال ذلك انتخابياً ضده، من قبل منافسيه في الإطار التنسيقي، وتحديداً رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
ولتحقيق مزيد من الضغط على بغداد، عملت أربيل على إعادة تطبيع علاقاتها مع السليمانية من جديد، رغم الخلافات السياسية الموجودة بينهما حول تشكيل الحكومة الجديدة لإقليم كردستان بعد ما يقرب من عام على إجراء الانتخابات البرلمانية في إقليم كردستان في أكتوبر / تشرين الأول من العام الماضي.
وأثارت عملية استقبال زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني لزعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بافل طالباني في أربيل يوم الأحد الموافق 13 يوليو / تموز الجاري، تحول نوعي في سياق العلاقات بين الشخصين، خصوصاً وإن بارزاني كان يرفض الجلوس مع طالباني على طاولة واحدة، وإن اللقاء الأخير بينهما هو الأول منذ عام 2022، ما يشير بدوره لحاجة أربيل لدعم السليمانية في خلافها مع بغداد.
ورغم إن الهدف من هذا اللقاء كان الوصول لموقف كردي موحد من بغداد، بين الاستمرار بالعملية السياسية العراقية، أو الانسحاب منها، إلاّ إن البيان المشترك الذي خرج به الاجتماع يشير إلى حجم الفجوة بينهما، ففي الوقت الذي أكد فيه بارزاني على ضرورة الانسحاب من العملية السياسية، إلاّ إن طالباني اكد على ضرورة الاستمرار بنهج الحوار والتهدئة مع بغداد.
ولعل هناك أسباب عديدة تدفع طالباني لمثل هذا الموقف، أهمها استحواذه على منصب رئاسة الجمهورية العراقية ونائب رئيس مجلس النواب العراقي، ووزارتين من أصل أربع وزارات للمكون الكردي في حكومة السوداني، والأهم من ذلك كله علاقاته المتميزة مع قيادات الإطار التنسيقي وإيران، وهي أسباب تجعله يفكر ملياً قبل الانسحاب من العملية السياسية.
وليس هذا فحسب، إذ قدمت في الفترة الماضية العديد من الإغراءات السياسية للسليمانية من قبل بغداد، خصوصاً فيما يتعلق بتسليم رواتب الموظفين فيها من قبل بغداد مباشرة، وهي مسألة مهمة لطالباني في تحقيق استقرار سياسي في السليمانية قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة في نوفمبر / تشرين الثاني المقبل، وسحب ورقة مهمة من أوراق الضغط التي يمكن أن يستغلها منافسيه السياسيين في الانتخابات المقبلة.
إيران المستفيد الأكبر
تدرك طهران بأن الأدوار التي تقوم بها أربيل اليوم، ليس فقط السياسية والدبلوماسية والأمنية، وإنما حتى الاقتصادية، تمثل تهديدًا واضحًا لها، بكونها بديل محتمل ومدعوم أمريكياً لتصير النفط والغاز العراقي للخارج، ما سيجعلها في موقف صعب للغاية، ليس فقط على صعيد رؤيتها السياسية والاستراتيجية للوضع في مناطق شمال العراق بعد نزع سلاح حزب العمال الكردستاني، وتصاعد فرص الحل السياسي بين مظلوم عبدي وأحمد الشرع، بل على طبيعة مصالحها الاقتصادية أيضاً، إذ إن تحول أربيل لممر لعبور النفط والغاز العراقي، يعني إنها ستفقد العديد من المزايا الخاصة بعمليات تهريب النفط عبر مياه الخليج، من خلال (أسطول الظل) الذي تمتلكه هناك.
إن خروج العديد من الأوراق السياسية والأمنية التي كانت تناور بها إيران في إقليم كردستان بالضد من تركيا، وتحديداً بعد تراجع أدوار حزب الاتحاد الوطني الكردستاني ذي العلاقات الجيدة مع إيران، ونزع سلاح حزب العمال الكردستاني وحله من قبل زعيمه عبدالله أوجلان) يشير بما لا يقبل الشك أن إيران حتى وإن لم تدعم علناً الهجمات المتصاعدة للطائرات المسيرة على مدن ومنشآت إقليم كردستان، إلاّ إنها المستفيد الأكبر منها، بالنظر للديناميات المتغيرة وغير المتوافقة مع مصالحها في إقليم كردستان مؤخراً.
حلول صعبة وخيارات أصعب
مهما كانت طبيعة الخيارات السياسية التي تلجأ إليها أربيل في المرحلة المقبلة، إلاّ إنها ستراعي بالتأكيد العديد من المسارات المهمة، منها ما يتعلق بطبيعة المعادلة الكردية الداخلية، ومنها ما يتعلق بطبيعة الحسابات الإقليمية والدولية، فعلى الصعيد الكردي تدرك أربيل أن أي إجراء أحادي تتخذه، بخصوص موقفها من العملية السياسية أو الانتخابية في المرحلة المقبلة، قد ينعكس عليها سلباً، إذا لم يكن هناك موقف سياسي داعم لها من السليمانية، وقد يُعاد سيناريو التفكك السُني إنتاج نفسه مرة أخرى مع الموقف الكردي، خصوصاً إذا ما إنسحب طرف وبقي الطرف الآخر بالحكومة البرلمان.
أما بخصوص الحسابات الإقليمية والدولية، فإن تركيا والولايات المتحدة تدركان أهمية عدم إقدام أربيل على خطوة تصعيدية من شأنها أن تنعكس سلباً على موقعهم السياسي في العراق، ولذلك سيحاولون دفع الأمور نحو الحل السياسي بين بغداد وأربيل، دون دفع أربيل للابتعاد كثيراً، لأن مثل هذا الموقف قد يعطي دفعة مهمة لإيران لإعادة إنتاج نفسها داخل المعادلة السياسية في إقليم كردستان من جديد.
الخيارات السياسية المطروحة أمام إقليم كردستان تبدو صعبة للغاية، ورغم الدعم التركي والأمريكي الذي تتلقاه أربيل، إلاّ إن مثل هذا الدعم لم يغير حتى الآن من طبيعة الضغوط السياسية والأمنية التي تتعرض لها أربيل، ما يعني بأن هناك رغبة كاملة من قبل الأطراف السياسية العراقية في بغداد، وتحديداً القريبة من إيران، لتعديل سلوك أربيل أولاً، ومن ثم البحث عن الحلول السياسية في مراحل لاحقة.