تشهد محافظة السويداء، جنوب سوريا، تصعيدًا عسكريًا غير مسبوق، في مواجهات مسلّحة اندلعت بين قوات من الجيش السوري والأمن الداخلي من جهة، ومجموعات مسلحة محلية تُعلن ولاءها للطائفة الدرزية، وتعمل تحت إشراف المرجعية الدينية والاجتماعية الأولى في المحافظة، الشيخ حكمت الهجري. وقد تفجّرت الأحداث عقب نزاع مسلح مع مجموعات بدوية مسلحة من محافظة درعا المجاورة، قبل أن يتّسع نطاق الاشتباك ليأخذ طابعًا إقليميًا ودوليًا.
بلغت التطورات ذروتها خلال الساعات القليلة الماضية، بعد تدخّل مباشر من جيش الاحتلال الإسرائيلي عبر غارات جوية استهدفت 160 هدفًا للنظام السوري، معظمها في منطقة السويداء، وشملت آليات عسكرية تابعة للجيش السوري، بالإضافة إلى مقر وزارة الدفاع السورية في دمشق، وذلك عقب مطالبات علنية وصريحة صدرت عن الرئاسة الروحية للطائفة الدرزية في سوريا، دعت فيها “إسرائيل” إلى “توفير الحماية لأبناء الطائفة” في عموم البلاد.
كيف اندلعت شرارة الاشتباكات؟
انطلقت شرارة الاشتباكات في محافظة السويداء مساء يوم 11 يوليو/ تموز 2025، عقب حادث احتجاز مسلح استهدف أحد تجّار المدينة أثناء مروره على طريق يربط السويداء بمحافظة درعا. وبحسب مصادر محلية، أقدمت مجموعة مسلّحة تنتمي إلى إحدى العشائر البدوية في ريف درعا الشرقي على اختطاف التاجر، واقتادته إلى جهة مجهولة، في خطوة فُسّرت محليًا على أنها جزء من سلسلة عمليات خطف ذات طابع انتقامي ومتبادل، تشهدها المنطقة منذ أشهر.
في اليوم التالي، نفذت مجموعات درزية مسلحة محلية، تنشط تحت غطاء “قوات الفزعة” و”مجموعات الحماية الذاتية”، عملية ردّ سريعة لاسترجاع المحتجز، ما أدى إلى اندلاع اشتباك مسلح أوقع قتلى وجرحى من الطرفين. ومع تزايد التوتر، توسّع نطاق التحرك العسكري داخل أحياء السويداء وامتدّ إلى أطرافها الجنوبية والغربية، حيث تنتشر قرى مختلطة درزية وبدوية.
تزامن التصعيد مع خطاب عالي النبرة صدر عن المرجعية الدينية للطائفة الدرزية، عبّر فيه الشيخ حكمت الهجري عن استيائه مما وصفه بـ”تكرار انتهاك كرامة أبناء السويداء على الطرق العامة”، ووجّه تحذيرًا مبطنًا من “السكوت على الإهانات”. في المقابل، أصدرت مجموعات عشائرية في درعا بيانات تتهم فصائل السويداء بمهاجمة قراها ومنازلها، الأمر الذي غذّى دورة عنف متصاعدة.
وبحلول 13 يوليو/ تموز، تحوّلت المواجهات إلى اشتباكات عسكرية منظمة، مع ظهور أسلحة ثقيلة واستخدام سيارات مزوّدة برشاشات، ما دفع الجيش السوري إلى إعلان حالة استنفار جزئي في المنطقة، تمهيدًا للتدخل، وهو ما تم فعليًا بعد ساعات قليلة.
كيف تدخلت الدولة السورية؟
أعلنت وزارة الداخلية السورية مساء 13 يوليو/ تموز، بدء عملية أمنية مشتركة بالتنسيق مع وزارة الدفاع، شملت تحريك وحدات من الجيش وقوات الأمن إلى مدينة السويداء ومحيطها. ومع ساعات الصباح الأولى من يوم 14 يوليو/ تموز، تمركزت قوات عسكرية في المداخل الجنوبية والغربية للمدينة، وانتشرت في الأحياء التي شهدت أعنف الاشتباكات، باستخدام عربات مدرعة وأسلحة ثقيلة.
في اليوم التالي، أعلن وزير الدفاع السوري، اللواء مرهف أبو قصرة، التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ودعا المدنيين إلى الالتزام بمنازلهم، مؤكدًا في تصريح رسمي أن هدف الدولة هو “حماية أرواح المدنيين وإعادة سيادة القانون”، وأن “أية تجاوزات ستُواجه بحزم ضمن الأطر القانونية”. كما طلب الوزير من سكان السويداء التعاون مع الجهات الأمنية والتبليغ عن أي نشاط مسلح غير شرعي.
إلى كافة الوحدات العاملة داخل مدينة السويداء، نعلن عن وقف تام لإطلاق النار بعد الاتفاق مع وجهاء وأعيان المدينة، على أن يتم الرد فقط على مصادر النيران والتعامل مع أي استهداف من قبل المجموعات الخارجة عن القانون.
— مرهف أبو قصرة (@Murhaf_abuqasra) July 15, 2025
على الأرض، نُفذت عمليات تمشيط واعتقال استهدفت مجموعات مسلحة متهمة بالمشاركة في الاشتباكات أو بعرقلة وقف إطلاق النار، شملت التحقيق مع بعض عناصر الأجهزة الأمنية بعد تداول تسجيلات مصورة تظهر أقدامهم على تجاوزات غير أخلاقية خلال العمليات.
دعم هذه التحركات تصريح وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، بأن “حمل السلاح في سوريا مسؤولية الدولة وحدها، ولا يحق لأي طرف خارجي التدخل في شؤوننا الداخلية”، مؤكدًا أن “حماية الطائفة الدرزية شأن وطني لا يقبل الوصاية أو التوظيف السياسي”.
فيما أصدر وجهاء محليين ورجال دين دروز بيانات موازية ترحب بعودة الدولة وتدعو إلى التهدئة، ما ساعد في خفض وتيرة التوتر لساعات قليلة، قبل أن تقوم طائرات الجيش الإسرائيلي باستهداف آليات عسكرية تتبع للجيش السوري.
كيف كان موقف “إسرائيل”؟
في أعقاب ساعات من إعلان وقف إطلاق النار وبدء انتشار الجيش السوري داخل مدينة السويداء، شنّ سلاح الجو الإسرائيلي في 15 يوليو/تموز غارات جوية استهدفت آليات عسكرية ومواقع تابعة للجيش السوري في محيط بلدة صلخد جنوب المحافظة، أسفرت عن استشهاد 250 من الجنود السوريين في حصيلة أولية، وإعطاب معدات عسكرية.
وجاء في بيان عسكري إسرائيلي أن الغارات كانت “ردًا على تهديدات مباشرة يتعرض لها السكان الدروز في المنطقة”، دون تقديم تفاصيل إضافية عن طبيعة تلك التهديدات أو الجهة المسؤولة عنها.
سياسيًا، صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن حكومته “لن تسمح بتكرار سيناريوهات تهديد حياة الدروز كما حدث في مناطق أخرى من سوريا”، مشيرًا إلى أن “إسرائيل” “تراقب التطورات في السويداء عن كثب”، وأن أمن الطائفة الدرزية يُعدّ “جزءًا من مسؤوليات دولة إسرائيل تجاه مواطنيها”، في إشارة إلى الدروز داخل الخط الأخضر.
زعيم الموحدين الدروز حكمت الهجري: “أدعو الرئيس #ترمب ودولة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للتدخل لإنقاذ #السويداء“. pic.twitter.com/5s8AOrGuH3
— نون بوست (@NoonPost) July 16, 2025
ترافق الموقف العسكري مع تحركات داخلية إسرائيلية، شملت تظاهرات في عدة بلدات درزية داخل “إسرائيل”، طالب خلالها المحتجون الحكومة “بالتحرك العاجل لوقف استهداف الدروز في سوريا”، بعد أن أغلقوا عدة طرق رئيسية تعبيرًا عن تمسكهم بـ”حماية الطائفة ولو بالقوة”.
وعلى الصعيد الأمني، أكدت مصادر استخباراتية إسرائيلية، في تسريبات صحفية، أن الجيش الإسرائيلي أعدّ خرائط انتشار للمجموعات المسلحة في جنوب سوريا، وخصوصًا في السويداء ودرعا، ضمن خطة طوارئ لتدخل محدود “حال تصاعد الخطر على القرى الدرزية الحدودية”.
وبعد أقل من 48 ساعة على الغارات الإسرائيلية في الجنوب، نفّذت طائرة مسيّرة إسرائيلية ظهر اليوم 16 يوليو/تموز غارة استهدفت مبنى هيئة الأركان العامة في قلب العاصمة دمشق، عبر طائرة مسيّرة، كما نقلت وكالة “رويترز” عن مصدرين أمنيين سوريين أن الضربة أصابت بشكل مباشر مبنى وزارة الدفاع الواقع ضمن المجمع العسكري المركزي، أسفرت عن استشهاد مدنيَين اثنين.
هل ضغطت واشنطن باتجاه التهدئة؟
صرّح المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، في بيان مقتضب نشره عبر منصة “إكس”، إن الولايات المتحدة “تتابع الاشتباكات في السويداء بقلق عميق”، مؤكّدًا أن واشنطن “تعمل على التوصل إلى حل سلمي وشامل يشمل الدروز، وعشائر البدو، والحكومة السورية، والقوات الإسرائيلية”.
فيما نقلت تقارير صحفية عن مصادر أميركية مطّلعة، أن واشنطن أجرت اتصالات مباشرة مع الحكومة السورية عبر قنوات غير معلنة، شددت فيها على ضرورة التزام التهدئة، وعدم توسيع الانتشار العسكري في الجنوب بما قد يُفسّر إسرائيليًا على أنه تهديد مباشر.
كما شملت الاتصالات الحكومة الإسرائيلية، حيث طلبت منها الولايات المتحدة وقف غاراتها الجوية على مواقع الجيش السوري في محافظة السويداء.
We are actively involved with all constituencies in Syria to navigate towards calm and continued productive integration discussions. The recent skirmishes in Suwayda are worrisome on all sides, and we are attempting to come to a peaceful, inclusive outcome for Druze, Bedouin…
— Ambassador Tom Barrack (@USAMBTurkiye) July 15, 2025
إلى جانب ذلك، دعا المبعوث باراك إلى فتح مسارات تفاوض محلية تشارك فيها الأطراف السورية ذات الصلة، بما في ذلك ممثلو الطائفتين الدرزية والبدوية، مشيرًا إلى أن “أحد التحديات الرئيسة التي تؤجج التوتر هو التضليل الإعلامي وسوء التواصل بين الأطراف”. في المقابل، لم تُصدر الإدارة الأميركية أي إدانة للهجوم الذي نفذته “إسرائيل” على مبنى هيئة الأركان العامة في دمشق حتى الآن.
ما الدوافع العميقة خلف التصعيد؟
تتشابك خلفيات ما جرى في السويداء على مدى الأشهر الماضية ضمن سياق سياسي–اجتماعي معقد، يتجاوز الاشتباك الظاهر إلى أزمة ثقة متراكمة بين الرئاسة الروحية للطائفة الدرزية والحكومة السورية المؤقتة.
مع اتساع الهوة بين الطرفين، وتصاعد الاعتراضات داخل المحافظة على الأداء الأمني والتمثيل السياسي، برز موقف واضح من الشيخ حكمت الهجري، المرجعية الدينية الأولى في السويداء، عبّر فيه صراحة عن رفضه للدستور المؤقت، ومخرجات “الدولة المركزية”، إضافة إلى رفض تسليم عدد من أبناء الطائفة المتورطين سابقًا مع النظام السوري في ملفات أمنية وقضائية حساسة.
وعليه أُعلن في فبراير/ شباط 2025، عن تأسيس “مجلس الدفاع الدرزي” بقيادة طارق الشوفي، كمؤسسة ميدانية رديفة لقوى الدولة، تتولى إدارة الأمن المحلي وتنظيم انتشار السلاح، في مؤشر على دخول الطائفة في مرحلة استقلال أمني فعلي عن مؤسسات الدولة.
وقد تزامن ذلك مع بروز متسارع لنفوذ الشيخ الهجري، الذي يدير فعليًا ميليشيا مسلّحة محلية تحت، ويعمل على توسيع قاعدته الشعبية داخل المحافظة من خلال خطاب ديني–اجتماعي يُغذّي شعور التهميش الجماعي.
تتداخل على الطرف الآخر توترات دينية وطائفية وجغرافية معقدة، فالمحافظة الجبلية المتاخمة لمحافظة درعا تشكّل نقطة تماس ساخنة منذ سنوات، وتُعدّ معبرًا تقليديًا لتهريب الأسلحة والمخدرات، ما يجعلها ساحة مفتوحة أمام شبكات مافيوية تتخطى الانتماء الوطني، مما خلق بيئة من العداء المزمن، استُحضرت بقوة في لحظة الانفجار الأخيرة.
في ظل هذه التطورات الميدانية المتسارعة، لم يعد ممكنًا تثبيت أي تقدير سياسي بشكل قاطع، إذ تتغير تفاصيل الموقف على الأرض بوتيرة متلاحقة، فالاشتباكات التي بدأت بطابع محلي، تنفتح اليوم على تدخلات إقليمية مباشرة، في تحوّل يُنذر بإعادة تشكيل معادلة الاشتباك في الجنوب، وسط غياب أفق سياسي واضح حتى اللحظة.