بعد أن تجاوز العدوان الإسرائيلي على مخيمات طولكرم حاجز الـ165 يومًا، عادت الأنظار لتتجه نحو استشراف ما يُحضَّر لمستقبل مخيمات شمالي الضفة الغربية، التي تخضع منذ أشهر لأوسع هجمة عسكرية تشهدها الضفة منذ عملية “السور الواقي” عام 2002.
شهدت المخيمات، وعلى رأسها مخيما طولكرم ونور شمس، إجراءات إسرائيلية غير مسبوقة منذ عقود، شملت تهجيرًا قسريًّا لآلاف السكان، وتدميرًا واسعًا للبنية التحتية والمنازل، وطمسًا لمعالم المخيمات، ضمن مسار ممنهج يتجاوز الأهداف العسكرية التقليدية إلى إعادة صياغة الواقع الديمغرافي والميداني للمنطقة.
وسط هذا المشهد، بات سؤال “ما الذي يُخطَّط له؟” العنوان الأبرز الذي يشغل أهالي المخيمات والمراقبين على حد سواء، لا سيَّما بعد الزيارة اللافتة التي نفَّذها المنسق الأمريكي مايكل فينزل إلى مخيم نور شمس، في ظل الحديث المتصاعد عن اتفاق أمني ترعاه واشنطن، يُصاغ بما يضمن تلبية الاشتراطات الإسرائيلية ويحظى بقبول السلطة الفلسطينية.
المخيمات تحت المقصلة
منذ أن أطلق الاحتلال الإسرائيلي عمليته العسكرية المسماة “السور الحديدي“، والتي قاربت على دخول شهرها السادس، لم تهدأ الآليات العسكرية الثقيلة، وفي مقدمتها الجرافات من طراز D9، عن تغيير معالم المخيمات الفلسطينية في شمالي الضفة الغربية، وتحديدًا في مخيمَي طولكرم ونور شمس.
وقد سبق الاجتياحات الميدانية تمهيدٌ ناريٌّ كثيف، استُخدمت فيه الدبابات لأول مرة منذ سنوات في الضفة، إلى جانب القصف الجوي، وأوامر الإخلاء القسري التي طالت آلاف السكان، في مشهدٍ يؤكد أن الحملة لا تستهدف تصفية المقاومة فحسب، بل تسعى إلى إعادة تشكيل البنية المكانية والهوية السياسية للمخيمات.
وعلى الرغم من تصاعد الحملة تصاعدًا واضحًا منذ يناير/كانون الثاني 2025، فإن ما يجري اليوم امتداد لمسار بدأ فعليًّا في العام 2023، حين تبنَّى جيش الاحتلال استراتيجية مغايِرة في اقتحام مخيم جنين، شملت تفجير البنية التحتية، وتجريف الشوارع، واستخدام الطائرات المسيَّرة لتوسيع نطاق الاستهداف، بما مهَّد الطريق لتطبيق نموذج مشابه في بقية المخيمات.
بات الهدف الإسرائيلي من هذه العمليات أكثر وضوحًا: تحويل المخيمات –التي طالما شكَّلت بيئةً معقَّدةً أمام قوات الاحتلال بسبب كثافة العمران وضيق الأزقة – إلى مناطق مفتوحة، يمكن ضبطها أمنيًّا والتحرك فيها بحرِّية.
ويقوم هذا التوجه على ما تسمِّيه المؤسسة الأمنية الإسرائيلية “هندسة أمنية للمكان“، عبر تدمير الأحياء السكنية وفتح محاور عسكرية داخل المخيم، ونشر نقاط مراقبة دائمة، واستخدام مكثَّف للطائرات المسيَّرة، بما يقلِّص من قدرة فصائل المقاومة على استخدام المخيم كقاعدة عملياتية أو حاضنة شعبية.
لكن ما هو أخطر من التغيير الميداني استهداف الهوية السياسية والرمزية للمخيمات الفلسطينية، بوصفها شاهدًا حيًّا على النكبة وركنًا مركزيًّا من قضية اللاجئين وحق العودة، إذ تسعى “إسرائيل”، من خلال هذه العمليات، إلى طمس البعد التاريخي والوطني المتجسد في المخيم، وإعادة تشكيله كحي سكني عادي يخضع لسيطرة الاحتلال.
وقد أقرَّ الجيش الإسرائيلي صراحةً بأن العمليات في جنين وطولكرم ونور شمس تهدف إلى “تغيير ملامح المخيمات”، وتحويلها إلى مناطق يسهل السيطرة عليها، وصرَّح أحد المتحدثين العسكريين بأن هذه الخطوة تتيح للجيش حرية الحركة و”إحباط العمليات”.
وحسب وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا”، فإن الاحتلال دمَّر أكثر من 600 منزل بالكامل في مخيم جنين وحده، وفتح 15 شارعًا جديدًا داخل المخيم. وفي طولكرم ونور شمس، أسفر العدوان عن تدمير ما لا يقل عن 400 منزل كليًّا، و2,573 منزلًا جزئيًّا، فيما ما تزال مداخل المخيمَين مغلقة، وقد تحوّلا فعليًّا إلى مناطق شبه خالية من الحياة. وتشير التقديرات إلى أن نحو 40 ألف فلسطيني هُجِّروا قسريًّا من المخيمات الثلاثة، ومُنعوا من العودة حتى لاستعادة ممتلكاتهم الأساسية.
المنسق الأمريكي على أرض نور شمس
في خطوة أثارت رفضًا شعبيًّا واسعًا، زار المنسق الأمريكي للشؤون الأمنية في الضفة الغربية، مايكل آر. فينزل، مخيم نور شمس في محافظة طولكرم، برفقة وفد رسمي فلسطيني ضم وزير الداخلية ومحافظ طولكرم، في ظل تصاعد التوترات الأمنية، وبعد سلسلة من الاقتحامات الإسرائيلية المتكررة للمخيم، ما زاد من حساسية توقيتها واستفزازيتها في نظر الأهالي.
خلال الجولة، اطَّلع الوفد الأمريكي والفلسطيني على حجم الدمار الذي خلَّفته العمليات العسكرية الإسرائيلية، وتجوَّل في عدد من المناطق المتضررة داخل المخيم، غير أن سكان المخيم عبَّروا عن غضبهم ورفضهم القاطع للزيارة، عادِّين أنها لا تعبِّر عن تضامن حقيقي مع معاناتهم، إذ قال رئيس اللجنة الشعبية لخدمات مخيم نور شمس في تصريحات صحفية: “الاحتلال يمارس التدمير في المخيم، ولن نستقبل المبعوث الأمريكي. نطالب بخروج الاحتلال وإعادة المواطنين إلى بيوتهم”.
وفي تصريحات لافتة، قال محافظ طولكرم، اللواء عبد الله كميل، إن المنسق الأمريكي أبلغه رسميًّا بانتهاء العملية العسكرية الإسرائيلية في مخيم نور شمس، موضحًا أن “إسرائيل أبلغت الأمريكيين أنها أنهت أهدافها في المخيم، وأن الهدم قد توقف، لكن الانسحاب العسكري لم يتم بعد”، وأشار إلى أن جيش الاحتلال يمنع حتى اللحظة أي عملية بناء في الشوارع التي شقَّها داخل المخيم، مضيفًا: “الاحتلال يهدِّد بقصف أي مكان تتم فيه أعمال ترميم أو بناء.. فماذا يمكن أن نفعل؟”.
وحول مسألة إعادة الإعمار، أوضح كميل أن “المطلب الفلسطيني واضح: على الاحتلال أن يعيد بناء ما دمَّره”، لافتًا إلى أن للمنسق الأمريكي أُبلِغ بهذا المطلب في خلال الاجتماع، كما أشار إلى وعود أمريكية بتوفير تمويل لمشاريع تتعلق بالبنية التحتية كالصرف الصحي والمياه والكهرباء.
وفي تعليقه على اللقاء مع المنسق الأمريكي، قال كميل: “نحن كسلطة نلتقي مع أي جهة تساهم في تحقيق أهدافنا. المهم هو الموقف الفلسطيني، وليس الجهة التي نلتقي بها. إن كان لقاء الأمريكيين أو الأوروبيين ضروريًّا لرفع الأذى عن شعبنا، فلن نتردد”.
خطة فينزل: مستوى جديد من التنسيق الأمني
أعادت تحركات المنسق الأمريكي للشؤون الأمنية، مايكل فينزل، تسليط الضوء على خطته الأمنية التي صاغها قبل أشهر من اندلاع “طوفان الأقصى”، في محاولة أمريكية لتفكيك المجموعات المسلحة في شمالي الضفة الغربية، وإعادة فرض سيطرة السلطة الفلسطينية على مدن مثل جنين ونابلس، التي تحوَّلت إلى معاقل بارزة للمقاومة.
وكان موقع “أكسيوس” الأمريكي قد كشف في وقت سابق عن ملامح هذه الخطة، التي طُرحت على كل من الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية ضمن أجندة زيارة وزير الخارجية الأمريكي السابق، أنتوني بلينكن، في فبراير/شباط 2023، والتي شملت القاهرة و”تل أبيب” ثم رام الله، تحت شعار “تهدئة الأوضاع” في الأراضي الفلسطينية.
الخطة –حسب التسريبات– ترتكز على تشكيل قوة أمنية فلسطينية خاصة، تتلقى تدريبًا مكثفًا، ثم تُنشر في مناطق شمالي الضفة بهدف القضاء على البنية المسلحة للمقاومة، وقد أُعلن عنها رسميًّا بعد اجتماع العقبة في الأردن، الذي عقد بإشراف أمريكي مباشر عبر مستشار الرئيس جو بايدن لشؤون الشرق الأوسط حينها، بيرت ماكغورك، وبمشاركة باربارا ليف، مساعدة وزير الخارجية في ذلك الوقت.
وشارك في الاجتماع من الجانب الإسرائيلي كل من مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي، ورئيس جهاز “الشاباك” في حينه رونين بار، ومنسق الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية اللواء غسان عليان. ومن الجانب الفلسطيني حضر كل من حسين الشيخ (نائب رئيس السلطة حاليًّا)، ورئيس جهاز المخابرات ماجد فرج، والمستشار الدبلوماسي مجدي الخالدي.
غير أن تعقيدات المشهد الميداني، واشتداد المواجهة المسلحة في مخيمات شمالي الضفة، دفعت نحو تعديل الخطة لتتوافق مع المتغيرات بعد “طوفان الأقصى”، والانتقال من فكرة استعادة السيطرة المنفردة إلى صيغة من التنسيق العملياتي المشترك مع جيش الاحتلال.
تجلَّى هذا التغيير في نمط الخطة بوضوح في خلال حملة “حماية وطن” التي أطلقتها السلطة في مخيم جنين، إذ مثَّلت تحولًا من محاولات التفكيك الأمني المنفرد إلى الدخول في تنسيق ميداني مباشر مع جيش الاحتلال، الذي أعقبها بإطلاق عملية “السور الحديدي”، وهو ما كشف أن الحملة لم تكن تحركًا معزولًا، بل جزءًا من خطة أمنية متكاملة، ترعاها الولايات المتحدة، وتُنفَّذ عبر توزيع أدوار واضح بين الاحتلال والسلطة.
وفي مشهد يعكس هذا التكامل العملياتي، كثَّفت أجهزة الأمن الفلسطينية من ملاحقة المقاومين الذين نجحوا في الانسحاب من المخيمات إلى القرى المجاورة، بالتزامن مع استمرار الاحتلال في تنفيذ عمليات ميدانية داخل تلك المخيمات. وبدا هذا التناغم الأمني ترجمةً مباشرةً لجوهر خطة فينزل المُحدَّثة، الهادفة إلى تفكيك البيئة المقاومة عبر أدوات محلية وخارجية تتحرك بتنسيق متزامن وتكاملي.
مكتب التنسيق الأمريكي: عرّاب المصالح الإسرائيلية
تعيد تحركات المنسق الأمريكي الحالي، مايكل فينزل، إلى الأذهان الدور المحوري الذي لعبه سلفه كيث دايتون، الذي أشرف على واحدة من أخطر مراحل “الهندسة الأمنية” في الضفة الغربية، عبر تصفية بُنى المقاومة الفلسطينية وإعادة هيكلة أجهزة السلطة بما يخدم المصالح الإسرائيلية.
عُيِّن دايتون في منصبه في العام 2005، بالتزامن مع بداية ترتيبات إنهاء “انتفاضة الأقصى”، وطرح في العام 2007 رؤيته الأمنية أمام قيادة السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، بالتوازي مع اجتماعات التفاوض بين الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت.
لكن دور دايتون تجاوز تقديم الاستشارات أو تطوير التدريب، فقد تولَّى الإشراف المباشر على تفكيك المجموعات المقاومة، وأعاد بناء عقيدة رجل الأمن الفلسطيني ليكون “شريكًا أمنيًّا” للاحتلال، يرى في المقاومة تهديدًا يجب اجتثاثه، وقد جاءت هذه المهمة بوصفها ردًّا أمريكيًّا-إسرائيليًّا على أحد دروس “انتفاضة الأقصى”، حين انخرطت عناصر من أجهزة الأمن في المواجهة، وكان بعضهم من أبرز الميدانيين في صفوف كتائب “شهداء الأقصى”، بقيادة الأسير مروان البرغوثي، وبتوجيه مباشر من الرئيس الراحل ياسر عرفات.
لقد شكَّلت مهمة دايتون نقطة تحول رئيسية في ولادة السلطة الفلسطينية بـ”نسختها الجديدة”، التي قادها محمود عباس وفريقه، وهي نسخة تجاوزت حدود التغيير الأمني لتطال بُنية حركة “فتح” ذاتها، وتقود لاحقًا إلى تحجيم الفعل الفصائلي، وتضييق الحيز الوطني العام في الضفة الغربية إلى أدنى مستوياته.
على النهج ذاته، تبدو خطة فينزل امتدادًا لهذا المشروع، بصيغة محدَّثة تستجيب للمتغيرات الميدانية وللاشتراطات الأمريكية الجديدة، إذ تسعى الخطة إلى إنتاج نسخة “متجددة” من السلطة الفلسطينية، تُعاد هندستها بما يجعلها صالحة سياسيًّا وأمنيًّا لنيل الدعم الأمريكي، و”مؤهَّلة” للضغط على “إسرائيل” كي تفسح لها هامش سلطة محدودة في بعض مناطق الضفة الغربية.
يأتي ذلك ضمن معادلة دقيقة تحاول واشنطن موازنتها: من جهة، ضمان استمرار السلطة كشريك أمني فاعل، ومن جهة أخرى، عدم التصادم المباشر مع أجندة حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة القائمة على الضم الزاحف والتوسع الاستيطاني المتواصل.
في هذا السياق، تبدو السلطة الفلسطينية حريصة على إثبات فعاليتها السياسية والأمنية، من خلال تأكيد قدرتها على تلبية المتطلبات الدولية، خاصةً الأمريكية والإسرائيلية، والسعي إلى تجديد شرعيتها كشريك “موثوق”.
يظهر ذلك جليًّا في سلسلة مواقف وإجراءات، بدءًا من تصريحات رئيس السلطة حول ضرورة “سحب سلاح المقاومة”، إلى قراراته المتلاحقة لتجريد المخيمات الفلسطينية في لبنان من السلاح، وصولًا إلى انخراط نائبه حسين الشيخ في تجديد قنوات التنسيق الأمني في الضفة الغربية وتعزيزها، إذ تسعى قيادة السلطة إلى توسيع أدوارها مستقبلًا، لا سيّما في ما يُعرف بـ”اليوم التالي” لقطاع غزة، عبر الترويج لنفسها كجهة مركزية قادرة على ملء الفراغ، والالتزام بالمعايير الأمنية والسياسية التي تطالب بها واشنطن و”تل أبيب”.