أعلن الرئيس السوري أحمد الشرع، فجر اليوم 17 تموز/يوليو، التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في محافظة السويداء، بالتنسيق مع دار طائفة المسلمين الموحدين الدروز، بهدف إنهاء الاشتباكات المسلحة التي شهدتها المدينة منذ أيام، واستعادة الاستقرار في الجنوب السوري، مشددًا في بيانه على أن “بناء سوريا جديدة يتطلب من الجميع الالتفاف حول الدولة والالتزام بمبادئها، وتقديم مصلحة الوطن على أي اعتبارات فردية”.
الاتفاق جاء بعد تصعيد عسكري واسع شهدته عدة مناطق جنوب البلاد خلال الساعات الماضية، تخلله قصف إسرائيلي على العاصمة دمشق أسفر عن مقتل سيدة مدنية وإصابة آخرين، إلى جانب تحركات ميدانية متزامنة في محافظتي درعا والقنيطرة.
وفي السويداء، وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل وجرح أكثر من 369 شخصًا منذ بدء الاشتباكات في 13 تموز/يوليو، من بينهم عناصر أمن ومقاتلون محليون ومدنيون.
ما الذي تضمّنه اتفاق وقف إطلاق النار؟
ينص اتفاق وقف إطلاق النار، الذي أعلن عنه الرئيس السوري أحمد الشرع وأكدته وزارة الداخلية، على مجموعة من البنود الواضحة التي تهدف إلى إعادة الاستقرار لمحافظة السويداء، وضمان اندماجها الكامل ضمن مؤسسات الدولة السورية.
في جوهره، ينص الاتفاق على وقف فوري وشامل لجميع العمليات العسكرية، والتزام الأطراف المحلية بوقف أي شكل من أشكال التصعيد أو الهجوم ضد القوات الأمنية أو حواجزها، مقابل إعادة تموضع قوات الجيش في ثكناتها.
لتثبيت الاتفاق ميدانيًا، تقرّر تشكيل لجنة مراقبة مشتركة بين الدولة ومشايخ الطائفة، تتولى الإشراف على تنفيذ بنود الاتفاق وضمان الالتزام بها. كما ستتولى أجهزة الأمن الداخلي والشرطة، مدعومة بعناصر من أبناء السويداء، الانتشار في المدينة ومحيطها لحماية السكان وتعزيز الأمن العام، مع إعطاء الأولوية لضباط وعناصر من أبناء المحافظة لتولي المهام القيادية في الملف الأمني.
بنود الاتفاق لوقف إطلاق النار ونشر الحواجز الأمنية داخل السويداء واندماجها الكامل ضمن الدولة السورية#الجمهورية_العربية_السورية #وزارة_الداخلية pic.twitter.com/wkpVS5FgM2
— وزارة الداخلية السورية (@syrianmoi) July 16, 2025
شمل الاتفاق كذلك احترام حرمة البيوت والممتلكات الخاصة، ومنع أي اعتداء أو تخريب داخل المدينة أو في محيطها، مع التزام رسمي بحماية المدنيين من أي انتهاكات.
أحد البنود الأساسية تناول مسألة السلاح، حيث تم التوافق على آلية لتنظيم السلاح الثقيل خارج إطار الدولة، بالتعاون مع وزارة الداخلية والدفاع، وبالتنسيق مع الوجهاء المحليين، مع مراعاة الطابع الخاص لمحافظة السويداء.
وأكد الاتفاق على وحدة الدولة السورية وسيادتها الكاملة على كامل أراضي المحافظة، بما في ذلك إعادة تفعيل كافة مؤسسات الدولة، وتقديم الخدمات العامة الأساسية للمواطنين، مثل المياه والكهرباء والصحة والمحروقات.
وشملت البنود أيضًا تأمين طريق دمشق–السويداء من قبل الدولة، وضمان سلامة المسافرين، إلى جانب التزام بالعمل على إطلاق سراح المعتقلين وكشف مصير المغيّبين خلال الأحداث الأخيرة.
كما تقرّر تشكيل لجنة مشتركة لتقصي الحقائق في الانتهاكات التي حدثت، ومحاسبة المسؤولين عنها، وتعويض المتضررين وفق القانون، بالإضافة إلى تشكيل لجنة متابعة لتنفيذ الاتفاق بكامل بنوده.
كيف استقبلت الزعامات الدينية الدرزية الاتفاق؟
تفاوتت مواقف الزعامات الدينية الدرزية تجاه الاتفاق، بين ترحيب عملي من بعض المرجعيات، ورفض قاطع من المرجعية الروحية العليا، ففي مقطع مصوّر، أعلن الشيخ يوسف جربوع تأييده للاتفاق، واصفًا إياه بخطوة إيجابية نحو استعادة الأمن والاستقرار في السويداء، مؤكدًا على أن العودة إلى مؤسسات الدولة هو المسار الطبيعي لحماية المحافظة من التفكك.
في المقابل، عبّر الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سوريا، الشيخ حكمت الهجري، عن رفضه الصريح للاتفاق، مكررًا أنه لا يوجد أي “تفاوض أو تفويض” مع الحكومة السورية، مهددًا بمحاسبة اجتماعية لكل من يتواصل مع الدولة بشكل فردي، وذلك في استمرار لنهج التصعيد ورفض الحلول المؤسسية، في وقت حساس يشهد فيه الجنوب تدخلات إسرائيلية مكشوفة تستغل حالة الفوضى.
بالتوازي مع هذه المواقف، تداولت وسائل إعلام إسرائيلية مقطع مصوّر لشيخ عقل الطائفة الدرزية في “إسرائيل”، موفق طريف، في اجتماع مغلق مع ضباط في الجيش الإسرائيلي طالبًا تدخلًا جويًا لحماية “الدروز في سوريا”، مدعيًا وجود ما وصفه بـ”خطر الإبادة الجماعية”.
ما أثار سخطًا سوريًا واسعًا في مواقع التواصل الاجتماعي، واعتُبره الكثيرون دليل قاطع على خيانة عظمى، يتعاون فيها الهجري مع دروز “إسرائيل” المشاركين أيضًا في حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة.
في شي بفيديو القصف على دمشق مو متل باقي الفيديوهات… شي بحطم القلب، مؤذي بطريقة ما بنوصف، بتحس كأنو القصف صار جوا صدرك كمان، مو بس على المدينة
— Ron (@TheTweetOfRon) July 16, 2025
على الجهة المقابلة، أكد ليث البلعوس، القيادي في حركة “رجال الكرامة”، على موقفه وجماعته “الواضح في رفض أي تدخل إسرائيلي في شؤون السويداء”، مجددًا “التزام الحركة بوحدة الأراضي السورية، واعتبار المحافظة جزءًا لا يتجزأ من الدولة السورية”، بعد أن وصف المناشدات الصادرة عن رئاسة الطائفة في هذا التوقيت بأنها “استغلال سياسي مرفوض”، يهدف إلى “فرض أجندة خارجية لا تعبّر عن إرادة الشارع الدرزي بأكمله.”
ردود الفعل الإقليمية والدولية
أطلقت واشنطن تحركًا دبلوماسيًا مكثفًا قاده الرئيس الأميركي دونالد ترمب ووزير الخارجية ماركو روبيو، بالتزامن مع دخول كل من تركيا وقطر على خط الوساطة، وسط اتصالات جرت بين عواصم إقليمية وأطراف سورية.
وفي مؤتمر صحفي عقدته وزارة الخارجية الأميركية، وصفت المتحدثة باسمها، تامي بروس، ما جرى بين “إسرائيل” والحكومة السورية بأنه “سوء فهم ناتج عن خلافات تاريخية بين مكونات جنوبية مثل الدروز والبدو”، مؤكدة أن وزير الخارجية روبيو يتبنى هذا التوصيف عن قناعة.
في المقابل، دعت الحكومة إلى عقد جلسة طارئة في مجلس الأمن الدولي اليوم الخميس 17 يوليو/ تموز، محمّلة “إسرائيل” المسؤولية الكاملة عن التصعيد، ومؤكدة على حقها في الدفاع عن السيادة الوطنية.
كما ادان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الغارات الإسرائيلية واعتبرها تصعيدًا غير مقبول، مشيرًا إلى “تقارير مؤكدة” عن إعادة انتشار وحدات عسكرية إسرائيلية داخل الجولان المحتل، كما شدد على ضرورة الالتزام باتفاق فصل القوات لعام 1974.
من جانبه، طالب المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، غير بيدرسن، بوقف فوري لإطلاق النار على جميع المحاور، والعودة إلى آليات الحوار المحلي والدولي، لتفادي انفجار أكبر في الجنوب السوري.
ودعا الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، إلى فتح حوار مباشر بين الحكومة السورية والأطراف الفاعلة في السويداء. مؤكدًا أن “إسرائيل لا تحمي الدروز، بل توظّف بعض الجهات لتمرير أجندتها”.
صدرت أيضًا بيانات رسمية من دول عربية عدة، أبرزها الإمارات وقطر والسعودية والكويت ومصر، الجزائر ولبنان والعراق، إلى جانب الجامعة العربية، ومجلس التعاون الخليجي، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وحركة “حماس”، و”حزب الله” اللبناني، أدانت جميعها الهجمات الإسرائيلية داعية إلى تحرك دولي عاجل.
التحديات أمام الهدنة
تواجه المرحلة المقبلة جملة من التحديات المعقدة على المستويين السياسي والأمني، وهو ما يجعل من الاتفاق محطة انتقالية أكثر من كونه نهاية حاسمة للتصعيد، فعلى الصعيد السياسي، يبقى الخطر الأبرز متمثلًا في استمرار محاولات الالتفاف على سيادة الدولة عبر منح تفويض غير رسمي لـ”إسرائيل” من قبل رئاسة الطائفة الروحية، ممثلة بالشيخ حكمت الهجري، لمواصلة التدخل في الشأن السوري الداخلي بحجة “حماية الطائفة الدرزية”.
أما أمنيًا، فلا تزال احتمالات التصادم قائمة بين المجموعات المسلحة، سواء بين فصائل “الفزعة” العشائرية في ريف درعا ومجموعات الهجري المسلحة، أو حتى داخل السويداء نفسها، وهذا السيناريو يعيد المشهد إلى نقطة الصفر، لكن هذه المرة في ظل تداخلات دولية حساسة قد تعيق قدرة الحكومة السورية على التدخل كما فعلت سابقًا.
في موازاة هذه التحديات، تبرز تداعيات اجتماعية مقلقة تشير لتأثر صورة محافظة السويداء داخل النسيج السوري الأوسع، فمع تأثر ملايين السوريين من مشاهد القصف الإسرائيلي لقلب العاصمة دمشق، تشكلت حالة من النقمة الشعبية بدأت تنعكس سريعًا على شكل حملات محلية تدعو إلى مقاطعة سكان السويداء اقتصاديًا.
حملات مقاطعة الدروز لا تنسجم مع مسار الدولة ولم تطلبها الدولة ولا تعبر عما يطمح إليه الرئيس الشرع في بناء سوريا موحدة تتجاوز الانقسامات.بل على العكس هذه دعوات ستعقد المشهد عليه وتكرس شرخا نحن بأمس الحاجة لرأبه. بل هذه الاقتراحات الشاذة تعيدنا إلى سيناريوهات فاشلة جربت سابقا،…
— Siba Madwar صِبا ياسر مدور (@madwar_siba) July 17, 2025
وبينما لا تزال هذه المواقف محدودة، إلا أنها تحمل قابلية للتوسع والتحول إلى سلوك جماعي أشمل، ما يهدد بعزل المحافظة اجتماعيًا واقتصاديًا عن محيطها، ويزيد من تأثر فئات محددة بهذه الموجة، مثل طلبة الجامعات والموظفين، الذين قد يترددون في مغادرة السويداء خشية التعرض لمواقف عدائية.
ما يواجهه السوريون اليوم لا يقتصر على اشتباك موضعي في الجنوب، بل اختبار حقيقي لوعيهم الوطني وقدرتهم على تمييز الخطر الحقيقي من الاصطفافات العابرة، وقد وضع خطاب الرئيس الشرع معايير واضحة لنهاية هذه المحنة تقوم على الالتفاف حول الدولة، والتعامل مع الأحداث بمنطق المؤسسات لا بمنطق العصبيات، أما التصدي للكيان الإسرائيلي، الذي اعتاد استغلال لحظات الانقسام، فيكون أولًا بعدم منحه الفرصة لتحويل الجنوب إلى ساحة مفتوحة للابتزاز.