رغم محاولات التهدئة والانخراط في مسار تفاوضي بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والحكومة السورية الجديدة، فإن فجوة الثقة والملفات العالقة ـ وعلى رأسها مستقبل الإدارة الذاتية وسلاح قسد ـ لا تزال تحول دون أي اختراق حقيقي، فبينما تراهن دمشق على خيار “الدمج التدريجي” ضمن بنية الدولة، تتمسّك قسد بـ”الخصوصية السياسية والعسكرية” في مناطق سيطرتها.
في هذا السياق، لم يعد سؤال فشل التفاوض مجرّد احتمال، بل أصبح سيناريو مطروحًا على طاولة صنّاع القرار في دمشق، يرافقه نقاش داخلي حول مشروعية الخيار العسكري وحدوده.
غير أن هذا السيناريو لا يتحرّك في فراغ، بل تحكمه معادلات معقّدة؛ من الوجود الأميركي المباشر شرق الفرات، إلى الحسابات التركية المتحفّزة، فضلًا عن شبكة توازنات إقليمية ودولية متشابكة.
فهل تسير سوريا نحو مواجهة داخلية جديدة تُعيد خلط الأوراق؟ أم أن الضغوط الدولية كفيلة بكبح هذا المسار وتثبيت المسار السياسي، ولو بشكل مؤقّت؟
مفاوضات على صفيح ساخن
رغم ما حمله “اتفاق 10 آذار” من مؤشّرات أولية على انفتاح بين الحكومة السورية الجديدة و”قسد”، سرعان ما تبيّن أن التقدّم الشكلي لا يعكس توافقًا حقيقيًا على الملفات الجوهرية. فالتدخّل الأميركي الذي تجلّى في زيارة مبعوث البيت الأبيض توم باراك إلى دمشق ولقائه الطرفين مطلع يوليو/تموز، لم ينجح في تحويل التفاهم السياسي إلى خارطة طريق تنفيذية، بل كشف عن عمق التباينات وغياب الإرادة المشتركة للحسم.
على طاولة التفاوض، بدا كل طرف متمسّكًا بسقف مطالبه: الحكومة تصرّ على وحدة الدولة ومركزية القرار السياسي والعسكري، وترفض أي طموح فدرالي أو استقلالي، فيما تصرّ “قسد” على الاحتفاظ بهيكلها العسكري المستقل، والإبقاء على نموذج الحكم الذاتي كأمر واقع لا رجعة فيه.
هذا التباعد لا يعكس مجرّد خلاف إداري أو تقني، بل يعكس رؤيتين متعارضتين لطبيعة الدولة السورية في المرحلة المقبلة. وفي ظلّ غياب تنازلات جدّية من الجانبين، باتت المفاوضات تراوح مكانها، وتتحوّل تدريجيًا إلى عملية تأجيل لا معالجة، في انتظار متغيّرات إقليمية أو ضغوط دولية قد تفرض على الطرفين تحريك الجمود.
وفي السياق، ذكرت مواقع إخبارية محلية أن محافظة دير الزور شهدت خلال الأيام الماضية تحرّكات وتعزيزات عسكرية جديدة، في ظل تصاعد التوتّر بين الجيش السوري وقوات “قسد”، رغم غياب أي اشتباكات مباشرة حتى الآن.
في المقابل، دفعت “قسد” بتعزيزات إضافية إلى ريف دير الزور الشرقي، ونشرت عناصرها على طول الشريط النهري المواجه لمناطق سيطرة الحكومة السورية، وذلك وسط تحليق مكثّف للطيران المروحي الأميركي في المنطقة.
وتشير الأخبار والمعلومات القادمة من شمال شرق سوريا، إلى أن “قسد” لم تتوقّف عن حفر الأنفاق، استعدادًا ربما لخوض مواجهة في حال فُرضت عليها.
الحل العسكري خارج الحسابات
رغم تصاعد التوتر بين الطرفين إلا أن المعطيات الميدانية والسياسية تشير إلى أن الخيار العسكري لا يبدو واقعيًا أو مرغوبًا لدى أي من الطرفين. ليس فقط لأنه مكلف ومعقّد، بل لأن البيئة السورية بمجملها غير مهيّأة لتحمّل حرب جديدة، في وقت لا تزال فيه جراح الصراع مفتوحة، والتحدّيات الأمنية قائمة في أكثر من منطقة وخاصة بعد الأحداث الأخيرة التي عصفت بالسويداء جنوب سوريا.
الباحث الكردي أسامة شيخ علي يلفت الانتباه إلى هذه الحقيقة بوضوح، مؤكّدًا أن “الخيار العسكري صعب جدًا للطرفين”، مشيرًا في حديثه لموقع نون بوست إلى أن الهشاشة الأمنية التي تشهدها مناطق متفرّقة من سوريا قد تُشكّل ثغرة خطيرة إذا ما اندلعت المواجهات في الشرق.
وأضاف أن “أي انشغال عسكري في الشمال الشرقي قد يُستغل من قبل أطراف أخرى، سواء في الجنوب أو الغرب أو حتى من قبل تنظيم داعش”، بحسب تعبيره.
هذه القراءة الواقعية يتقاطع معها تصريح المتحدث باسم “قسد”، أبجر داوود، الذي قال في تصريحات صحفية إنّه “لا توجد نية ولا مؤشّرات لصدام عسكري”، مشدّدًا على أن الطرفين يعتمدان مبدأ الحوار، رغم صعوبة المسار وطول الطريق.
بدورها عبّرت دمشق في بيانها الصادر عقب اجتماعها مع وفد الإدارة الذاتية في 9 تموز، عن تفهّمها لبعض الهواجس، لكنها حذّرت من المماطلة أو التردّد في تنفيذ التفاهمات، باعتبار أن ذلك قد يُعقّد المشهد ويقوّض الاستقرار.
وفي السياق ذاته، يرى الصحفي الكردي شفان إبراهيم أن المعادلة واضحة: لا مزاج دولي ولا محلّي، ولا قدرات حقيقية لخوض مواجهة عسكرية، منوّهًا في حديثه لموقع نون بوست أن “أي تصعيد سيكون مغامرة بلا أفق، وقد يفتح الباب لتدخّلات جديدة أو يُنعش تنظيم داعش”.
وأضاف إبراهيم أن “واشنطن نفسها لن تسمح بانزلاق الأمور إلى هذا المنحدر”، واصفًا الحل العسكري بأنه “خيار خاسر للطرفين، ولن يستفيد منه سوى القوى الطامعة في استمرار الفوضى”.
وفي السياق ذاته، أكّد وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة، في مقابلة سابقة مع صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، أن الحكومة السورية لا تميل إلى “الحل العسكري” مع قوات “قسد”، الذي “سيسبب إراقة دماء على كلا الجانبين”.
ويبدو من خلال قراءة هذه التصريحات أن الاصطدام المسلح لم يعد أداة حسم في المشهد السوري، بل عبئًا إضافيًا على بلد يئنّ من أثقال الحرب والخراب. وفي ظلّ التداخلات الدولية المعقّدة، وغياب توافق استراتيجي داخل “قسد” أو بين أطراف السلطة في دمشق، يبدو أن الحوار ـ مهما بدا صعبًا أو متعثّرًا ـ لا يزال الطريق الوحيد الممكن.
واشنطن ترفع الغطاء عن قسد
بدأت إشارات التبدّل الأميركي في الموقف من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تظهر بوضوح، في ظلّ تزايد مؤشّرات الفتور السياسي وغياب الدعم المعنوي الواضح الذي طالما كانت تعتمد عليه هذه القوات في صراعها السياسي والعسكري.
أثارت تصريحات لافتة صدرت عن المبعوث الأميركي إلى سوريا، توماس باراك، جدلًا واسعًا في الشارع السوري الكردي، وأعادت طرح تساؤلات حول ما إذا كانت واشنطن قد بدأت فعليًا برفع الغطاء السياسي عن “قسد”، لصالح تسوية شاملة تُعيد هيكلة النفوذ في سوريا على أسس مختلفة.
وفي لقاء مع صحفيين في مركز الصحافة الأجنبية في نيويورك، أكّد باراك أن بلاده لا تؤيد الفدرلة في سوريا، مشدّدًا على أن “واشنطن لن تقبل بوجود دولة داخل دولة”، وأن سوريا ينبغي أن تبقى موحّدة تحت قيادة الحكومة الشرعية برئاسة أحمد الشرع، التي قال إنها “تبذل جهودًا جادّة رغم التحدّيات”.
وأضاف باراك بلهجة مباشرة أن “على قوات سوريا الديمقراطية أن تُدرك سريعًا أن طريق المفاوضات الحقيقي يؤدي إلى دمشق”، محذّرًا من أن “قسد ستواجه مشكلات حقيقية مع الحكومتين السورية والتركية في حال لم تندمج بسرعة في الجيش السوري”، معتبرًا أن عملية الاندماج معقّدة وستأخذ وقتًا بسبب انعدام الثقة المتبادلة.
هذه التصريحات دفعت قياديين أكرادًا إلى إطلاق مواقف متشنّجة تعكس خشيتهم من تخلٍّ أميركي محتمل، خصوصًا مع غياب أي تأكيد رسمي من واشنطن بدعم مشروع الإدارة الذاتية في المرحلة المقبلة، أو ضمانات بحماية مناطق سيطرة قسد.
من ناحيته، يرى الباحث السياسي الكردي علي تمي أن احتمال فشل المفاوضات هو السيناريو الأكثر واقعية، مشيرًا إلى أن “قسد تُصرّ على الاحتفاظ بسلاحها، بينما الحكومة السورية ترى أن هذا السلاح يجب أن يكون بيد الدولة وحدها”.
ويضيف: “نحن أمام خلافات استراتيجية لا يمكن تجاوزها بسهولة، وإذا لم تُحلّ عبر التفاوض، فالتصعيد العسكري يبدو مسارًا لا مفرّ منه”. ويؤكّد تمي أن “واشنطن بدأت بالفعل بإعادة تموضعها السياسي، وربما تدفع باتجاه رفع الغطاء عن قسد كجزء من ترتيبات إقليمية جديدة تسعى لترسيخ الاستقرار، حتى ولو جاء ذلك على حساب مشروع الفيدرالية”.
تركيا تكبح التصعيد في سوريا بعد حل “العمال الكردستاني”
شكّل إعلان حزب العمال الكردستاني عن حلّ نفسه وإلقاء السلاح، استجابةً لدعوة زعيمه التاريخي عبد الله أوجلان، تحوّلًا مفصليًّا في المعادلة الأمنية والسياسية في المنطقة، انعكست تداعياته سريعًا على أكثر من ملف، لا سيما في شمال شرق سوريا. فقد أشادت أنقرة رسميًّا بالخطوة، ووصفتها بأنها “مرحلة مهمة نحو تركيا بلا إرهاب”، مؤكّدة أن نهاية العنف تفتح بابًا لحقبة جديدة في الداخل التركي والمنطقة.
هذا التطوّر ـ بحسب المتابعين ـ يُعيد رسم أولويات تركيا ويخفّف من حدّة هواجسها الأمنية في سوريا، ما قد يدفعها إلى الكفّ عن تشجيع أي خيار عسكري ضد “قسد”، وفتح المجال أمام تسوية تفاوضية بين دمشق والقوى الكردية.
ويُعلّق الباحث الكردي أسامة الشيخ علي على هذه النقطة بالقول إن حلّ حزب العمال يعطي “قسد” هامش راحة في التفاوض مع الحكومة السورية، لأن تركيا لن تدفع باتجاه التصعيد العسكري، في ظلّ رغبتها الحثيثة بإنجاح محادثات السلام مع الكُرد داخل حدودها.
ويشير إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حريص على ألا تتكرّر تجربة انهيار المسار السلمي في عام 2015، والتي كان من أسبابها أحداث أمنية داخل سوريا، مثل هجوم تنظيم داعش على كوباني، ولذلك فإن أنقرة باتت تميل إلى الاستقرار الإقليمي، لا سيما بعد الخطوة الرمزية الكبيرة من حزب العمال.
في هذا السياق، من المرجّح أن ينعكس غياب “العمال الكردستاني” ومسلّحيه عن الساحة السورية بشكل إيجابي على علاقة “قسد” بدمشق، ويمنح الطرفين فرصة لتقليل التوتّر وتعزيز الثقة المتبادلة، في ظلّ تراجع المخاوف الإقليمية، وتبدّل أولويات القوى الفاعلة.
يُشار إلى أن تركيا تعتبر قوات “قسد” كيانًا إرهابيًا تابعًا لحزب العمال الكردستاني، وقد شنّت ضدّه عمليتين عسكريتين بالتعاون مع قوى المعارضة السورية: الأولى “غصن الزيتون” عام 2016، والثانية “نبع السلام” عام 2019.
في ضوء التحولات الإقليمية وتبدّل المواقف الدولية، تقف العلاقة بين “قسد” والحكومة السورية على مفترق حاسم. وبين مفاوضات متعثّرة ومخاوف من تصعيد عسكري، يبدو أن الواقع يدفع الطرفين نحو خيار وحيد ممكن: التسوية السياسية تحت ضغط التوازنات الدولية. فمع تضاؤل الغطاء الأميركي، وغياب الحاضنة الإقليمية لأي مغامرة عسكرية، وتغيّر أولويات القوى الكبرى، تزداد الحاجة إلى حلّ يعيد دمج مناطق الشمال الشرقي ضمن الدولة السورية دون كسر الخصوصية التي فرضها واقع ما بعد الحرب.