أعلنت وزارة الداخلية السورية، صبيحة الأربعاء 16 يوليو/تموز الجاري، التوصل إلى اتفاق مع مشايخ ووجهاء الدروز لوقف العنف وإطلاق النار في محافظة السويداء، ونشر حواجز أمنية فيها، بما يضمن اندماجها الكامل ضمن الدولة السورية، وذلك بعد أن وصلت الأوضاع إلى مستويات مقلقة من التصعيد وسط قلق متنامٍ إزاء مخطط التقسيم وإشعال الفتنة الداخلية.
في هذا السياق، أعلن شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، يوسف جربوع، دعمه الكامل للاتفاق، مشيرًا إلى أنه يحظى بتأييد واسع من المجتمع الدرزي وغالبية أبناء المحافظة، ومؤكدًا رفضه أي استغلال للملف الدرزي، وشدد على أن أي اعتداء على الدولة السورية “هو اعتداء علينا”.
وفي المقابل، وبينما كانت الأنظار تتجه نحو ضرورة التهدئة بعد انكشاف المخطط الإسرائيلي لتوظيف هذا الملف لتحقيق مآربه الاستعمارية، أعلن الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، رفضه للاتفاق، مؤكّدًا تمسكه بالقتال، وكان قد سبق ذلك مناشدته الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التدخل من أجل ما سماه “إنقاذ السويداء”.
كشف دعم جربوع لمسار التهدئة، وسعيه لتفويت الفرصة على المتآمرين على الدولة السورية، في مقابل خطاب الهجري الذي اتسم بلغة تصعيدية ورفض صريح لأي اتفاق مع الحكومة التي وصفها بـ”العصابات المسلحة”، عن حالة انقسام درزي واضحة إزاء المشهد السياسي، سواء داخل سوريا أو تجاه الكيان الإسرائيلي.
لم يكن هذا الانقسام وليد اللحظة، بل له جذور ضاربة في الداخل والخارج، غذّته الآلة الإسرائيلية على مدى سنوات، وها هي اليوم تسعى لجني حصاد ما زرعته من إثارة للفتن والنعرات الطائفية، واستغلال التوترات الاجتماعية والاقتصادية بين الدروز والدولة السورية، في سبيل تحقيق مخططاتها التوسعية الإقليمية، التي تعتمد أساسًا على ورقة الأقليات، والتي باتت واحدة من أهم أدوات المشروع الصهيوني في الشرق الأوسط.
انقسام داخلي مبكر
يبدو أن الانقسام يشكّل ضلعًا أصيلًا في تكوين الطائفة الدرزية، وواحدة من السمات البنيوية المرتبطة بنشأتها وتطورها، إذ يعود هذا الانقسام إلى هويتها المرجعية وجذورها التاريخية وخلفيتها الأيديولوجية، وقد تباينت التفسيرات حول أصل التسمية؛ ففريق يرجعها إلى عهد الخليفة الفاطمي السادس، الحاكم بأمر الله (حكم بين عامي 996 و1021 ميلادي)، حيث ارتبطت بمحمد بن إسماعيل الدَرَزي (نسبة إلى أولاد درزة، أي صانعي الثياب)، الذي هاجر إلى الشام، واشتهرت الطائفة لاحقًا باسمه.
في المقابل، يرى آخرون أن المؤسس الفعلي للمذهب هو حمزة بن علي بن محمد الزوزني، أحد واضعي أسس العقيدة الدرزية والمؤلف الرئيسي لنصوصها، وينفون نسبة الطائفة إلى “الدَرَزي”، بحجة أن النسبة اللغوية الصحيحة لاسمه تكون “الدَّرَزيون” لا “الدروز”، ويُرجعون أصل التسمية إلى مفهوم “دَرْز الدماغ”، في إشارة إلى اعتمادهم على العقل كمصدر للمعرفة.
وتُعد الدرزية من الطوائف المنغلقة التي تميل إلى الانعزالية، حيث بدأت دعوتهم بين عامي 1017 و1020 ميلادي، واستمرت حتى عام 1043، حين تقرر إغلاق باب الانتساب نهائيًا، ليقتصر الانتماء على من وُلد درزيًا، ويُمنع من ذلك الحين دخول أي شخص جديد إلى الطائفة من خارجها.
ورغم هذا الانغلاق، فقد سمحت الطائفة – خلافًا لنهجها – لبعض الشخصيات السنية بالانضمام إليها، رغم المعارضة الداخلية، ففي عام 1611 انضم إليها الوالي السني السوري علي جنبلاط، وتبعه لاحقًا القائد السني اليمني محمد الأطرش، ليتحوّل أبناء هاتين العائلتين مع مرور الوقت إلى رموز قيادية في الطائفة الدرزية، المنتشرة بين سوريا ولبنان وفلسطين.
ومع الوقت، ظهرت دعوات للتقريب من المذهب السني، رغم رفض شريحة واسعة من أبناء الطائفة لها. وكان من أبرز الداعين إلى هذا التقارب الأمير شكيب أرسلان الذي أعلن صراحةً أنه سني المذهب، وكذلك كمال جنبلاط الذي أرسل طلابًا لدراسة الشريعة في الأزهر، وتبنى الفقه السني وفق المدرسة الشافعية، قبل أن يُغتال على يد نظام حافظ الأسد عام 1977.
وفي عام 2012، تعرّضت الطائفة لانقسام خطير كاد أن يعصف بتماسكها، بسبب التنافس على الرئاسة الروحية بين حكمت الهجري ويوسف جربوع. ومع تمسّك كل طرف بقيادته، جرى تقسيم المرجعية، فأنشئت هيئتان: الأولى بقيادة الهجري في دار قنوات، والثانية بقيادة الشيخين حمود الحناوي ويوسف جربوع في منطقة عين الزمان.
ورغم الجهود المتكررة في السنوات الأخيرة، والدعوات التي أطلقها وجهاء وأعيان الطائفة في السويداء لتشكيل مجلس موحّد والتوصل إلى توافق بين الزعامتين، فإن تلك المساعي باءت بالفشل، وبقي الانقسام متجذرًا في البنية الدرزية، وهو ما تعمّق أكثر مع الإطاحة بنظام بشار الأسد وتولي الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع.
الموقف الدرزي تجاه الحكومة السورية الجديدة
يستند موقف الدروز إزاء الإدارة السورية الجديدة إلى براغماتية صرفة، إذ يتفاوت هذا الموقف تبعًا لحسابات خاصة لا ترتبط بالمرجعيات الدينية أو العقدية، ولا حتى بالإيديولوجيات الحاكمة، ويمكن الوقوف على هذا التباين من خلال مواقف شيوخ العقل الثلاثة الذين يمثلون الطائفة الدرزية في سوريا، ويملكون الكلمة العليا في رسم مساراتها وتوجهاتها.
حكمت الهجري.. الحالم بالانفصال
يُعد حكمت الهجري الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سوريا، وُلد في فنزويلا عام 1965، حيث كان يعمل والده هناك، ثم عاد إلى سوريا وأكمل دراسته، وحصل على شهادة الحقوق من جامعة دمشق عام 1990، ثم تولى منصب الرئاسة الروحية عام 2012 عقب وفاة شقيقه أحمد في حادث سير، وهو منصب تتوارثه العائلة منذ القرن التاسع عشر.
منذ توليه، ظل حلم الانفصال عن الدولة السورية حاضرًا في ذهن الهجري، غير أن القبضة الأمنية لنظام الأسد حالت دون ترجمة هذا الحلم إلى واقع، ومع اندلاع الثورة السورية، وجد الهجري ضالته في اللحظة الثورية، فحاول أن يوظّفها لصالح مشروعه، فلعب دورًا بارزًا في تأليب دروز السويداء ضد النظام السابق، وتحول تدريجيًا إلى رمز وطني على المستوى السوري، مستلهمًا صورة الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى.
لكن مع مجيء الإدارة السورية الجديدة، وسعيها إلى بسط سيطرتها الأمنية على كافة المناطق السورية، بما فيها السويداء، وطرحها لخطة تسليم الفصائل والطوائف للسلاح وحصره بيد الدولة، شعر الهجري بأن مشروعه الانفصالي بات مهددًا، كما خشي على موقعه ومصالحه الشخصية، إذ كان يأمل بأن يُكافأ على دوره في إسقاط نظام الأسد بمنح السويداء وضعًا خاصًا، وربما استقلالًا جزئيًا عن الدولة المركزية.
زعيم الموحدين الدروز حكمت الهجري: "أدعو الرئيس #ترمب ودولة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للتدخل لإنقاذ #السويداء". pic.twitter.com/5s8AOrGuH3
— نون بوست (@NoonPost) July 16, 2025
ومن هنا، أعلن الشيخ حكمت الهجري صراحة رفضه للدستور المؤقت، كما رفض تسليم عدد من أبناء الطائفة المتورطين سابقًا مع النظام السوري في ملفات أمنية وقضائية حساسة، وفي فبراير/شباط 2025، أسّس ما سُمّي بـ”مجلس الدفاع الدرزي”، كقوة رديفة تتولى إدارة الأمن الداخلي في السويداء، في خطوة اعتبرها كثيرون بداية لمرحلة “الاستقلال الأمني” عن الدولة السورية.
ويؤكد مقربون من المشهد السوري أن الهجري تمكّن خلال السنوات الماضية من تعزيز قدرات ميليشياته المسلحة، وكان له دور محوري في إثارة الفوضى وصناعتها في الجنوب السوري، إذ يسعى – بحسب البعض – إلى فرض معادلة مشابهة لما حققته “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في شمال شرق البلاد.
انطلاقًا من ذلك، جاء موقفه المعارض للرئيس أحمد الشرع، ورفضه لأي جهود تهدئة، تحت ذريعة “الدفاع عن السويداء والمقاومة”، معتبرًا أن تسليم السلاح دون إرادة شعبية “خيانة”، ومشدّدًا على أن اللامركزية الديمقراطية هي السبيل الوحيد لتنظيم العلاقة مع دمشق، لا الخضوع لأوامر السلطة المركزية. وهو نفسه من سبق أن دعا لتدخل دولي لحماية الدروز.
يوسف جربوع.. رجل التهدئة
وُلد الشيخ يوسف جربوع في محافظة السويداء عام 1967، وتولّى منصب شيخ عقل الطائفة الدرزية عام 2012، خلفًا لابن عمه الراحل حسين جربوع، الذي تولّى المشيخة منذ عام 1965 خلفًا لوالده الشيخ أحمد جربوع. وتنتمي العائلة إلى سلالة احتكرت منصب مشيخة عقل جبل العرب لأكثر من ثلاثة قرون متتالية.
لم يكن جربوع من الشخصيات الصدامية، بل عُرف بطبعه الهادئ وميله إلى التسويات، ما أكسبه لقب “رجل التهدئة”، إذ يميل إلى الدبلوماسية وتجنّب التصعيد، وهو ما جعله يحافظ على علاقات جيدة مع نظام الأسد البائد، ويحظى بدعم كبير من مؤسساته، لا سيما في الإشراف على مشاريع تنموية وخيرية برعاية “الأمانة السورية” التابعة لأسماء الأخرس، زوجة الرئيس المخلوع بشار الأسد.
انعكست تلك السمات الشخصية على موقفه من الأحداث الأخيرة في السويداء، إذ رغم إدانته لدخول القوات السورية إلى المحافظة ووصفه ما جرى بـ”المذبحة”، إلا أنه أيّد الاتفاق مع الحكومة السورية لوقف العمليات العسكرية، كما دعا إلى تشكيل لجان مراقبة محلية بالتنسيق مع السلطات، وتفعيل مؤسسات الدولة داخل المحافظة، منفتحًا في الوقت ذاته على تجربة الإدارة الذاتية الكردية لتحقيق رؤية “متجانسة” لمستقبل سوريا.
حمود الحناوي.. الوسطي الغائب
الضلع الثالث في مثلث شيوخ عقل الطائفة الدرزية هو الشيخ حمود الحناوي، المولود في قرية سهوة البلاطة بمحافظة السويداء عام 1943، في أسرة دينية خالصة، حيث تلقى تعاليم المذهب منذ نعومة أظافره، وتتلمذ على يد كبار رجال طائفة الموحدين الدروز.
أكمل دراسته الثانوية في “دار الحكمة” بالسويداء وتخرّج عام 1963، ثم عمل معلمًا في محافظة دير الزور لأكثر من 14 عامًا، قبل أن ينتقل إلى مدارس قريتي الكفر وسهوة البلاطة، ثم التحق بالخدمة الإلزامية، ودرس اللغة العربية، وتخرّج منها عام 1975، وعمل لاحقًا معلمًا للغة العربية في دولة الإمارات، وامتهن العمل الصحفي في صحيفتي “البيان” و”الخليج” الإماراتيتين، قبل أن يعود إلى سوريا ويتولى منصب مشيخة العقل خلفًا لوالده بعد وفاته.
يُعرف عن الحناوي اعتداله ودعوته للحوار الوطني، ورفضه للعنف والتسلّح خارج مؤسسات الدولة، كما لطالما نادى بضبط السلاح وحماية المدنيين من خلال توافقات محلية لا تخضع للأجهزة الأمنية، بل تنطلق من المجتمع المحلي وتستند إلى العقل الجماعي لأبناء الطائفة.
ورغم التزامه الصمت خلال الأزمة الأخيرة بسبب إجرائه عملية جراحية ألزمتْه الفراش حتى اليوم، فإن مواقفه السياسية معروفة ومتّسقة، فقد حافظ على الحياد وتجنّب الانخراط في أية أزمات من شأنها تأجيج التصعيد أو توتير الأجواء، ولهذا يلقبه البعض بـ”الوسطي المعتدل”، فيما يرى فيه آخرون “البراغماتي العصري” الذي يحاول الحفاظ على التوازن بين المبدئية والواقعية السياسية.
أزمة ثقة
لا يمكن النظر إلى الانقسام الراهن بشأن السلطة السورية كحادث طارئ، أو بمعزل عن الموقف الدرزي العام من أي سلطة حاكمة في سوريا على مدار العقود الماضية، فما يحدث اليوم هو نتاج طبيعي لتراكمات ممتدة، تقاطع فيها السياسي بالاجتماعي والاقتصادي، في سياق معقّد ومتشابك.
تُخيّم أزمة ثقة عميقة على العلاقة التاريخية بين الدروز ودمشق، إذ ينظر أبناء الطائفة إلى السلطة الحالية بوصفها استنساخًا للنظام السابق، حتى وإن تبدّلت الوجوه، معتبرين أن التغييرات الحاصلة شكلية لا تمس جوهر السياسات ولا أساليب الحكم، وهو ما عمّق فجوة الثقة ورسّخ حالة التشكيك في أي تحرك ميداني تقوده حكومة أحمد الشرع.
جبل العرب بين خطاب المواطنة، والانفتاح، والتصعيد الطائفي… تعددية الزعامات تُنتج انقساماً.#سوريا_السويداء pic.twitter.com/tB7pWXc7ZM
— نون سوريا (@NoonPostSY) July 17, 2025
ولم تكن السياسة وحدها سببًا في توتير العلاقة بين الدروز والسلطة المركزية، بل ساهمت عقود من التهميش والإهمال في تعميق مشاعر الغضب والخذلان، فالدروز يرون أن السويداء مهمّشة أمنيًا واقتصاديًا، ولا تحظى باهتمام حقيقي من الدولة، وسط تردي الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه وفرص العمل، وغياب أي مشاريع تنموية جدية. أما التمثيل السياسي للطائفة، فغالبًا ما يُنظر إليه كتمثيل صوري لا يعكس تطلعات أبناء الجبل.
ورغم قتامة هذه الصورة، التي يرى فيها البعض “قنبلة اجتماعية” قابلة للانفجار في أي لحظة، فإن مشايخ السويداء تبنوا ما يمكن تسميته بسياسة “الحياد الإيجابي”، أي عدم الانخراط في أي صراع مسلح، مقابل حماية المدينة من التدمير، وحتى حين شاركوا في الانتفاضة السورية، جاء حراكهم رمزيًا أكثر منه انخراطًا فعليًا.
أما المجموعات المسلحة في المحافظة، مثل “رجال الكرامة” و”قوات الفجر”، فهي وإن كانت ترفض الولاء الكامل للنظام، إلا أنها لا تعلن العداء له صراحة، وهدفها الأساس هو حماية المحافظة ومنع تسلل أي فصائل مسلحة إليها، بما في ذلك القوات الرسمية نفسها، وقد تصاعد التوتر مؤخرًا مع محاولة الحكومة فرض سيطرتها بالقوة، مدفوعة ببعض الممارسات الاستفزازية لعناصر في أجهزة الأمن، والتي اعتبرها أبناء الطائفة إهانة لهويتهم الدينية وإذلالًا لمشايخهم.
الانقسام حول “إسرائيل”
لم يكن موقف الدروز من الكيان الإسرائيلي المحتل مختلفًا كثيرًا عن موقفهم إزاء الإدارة السورية، إذ تشهد الخارطة الدرزية انقسامات واضحة في الموقف من تل أبيب، بعيدًا عمّا تروّجه الآلة الإعلامية العبرية، وهذا الانقسام يتغذى على تعقيدات الجغرافيا السياسية والصراعات الداخلية التي تشهدها سوريا منذ سنوات، رغم أن السمة العامة للموقف الدرزي لا تزال تتسم برفض التطبيع، ومعارضة التدخلات الإسرائيلية، والتشبث بوحدة الأراضي السورية. ويمكن تقسيم الموقف الدرزي من “إسرائيل” إلى تيارين رئيسيين:
أولًا: التيار الرافض للاحتلال
وهو التيار الأوسع انتشارًا، ويتمركز أساسًا في السويداء وجبل العرب، ويُنظر إليه بوصفه الممثل للغالبية. يتبنى هذا التيار خطابًا عروبيًا قوميًّا يرى في “إسرائيل” كيانًا محتلًا، ويعارض بشدة أي شكل من أشكال التطبيع أو التقارب معها، معتبرًا ذلك خيانة وطنية، خصوصًا في ظل استمرار احتلال الجولان السوري.
ويمثّل هذا التيار معظم القيادات والمشايخ، بمن فيهم الشيخ حكمت الهجري، الذي كان لسنوات من أشدّ المعارضين لأي تواصل مع الاحتلال أو جهات خارجية تمسّ بوحدة سوريا، وكان يصف أي محاولة من هذا النوع بأنها “خيانة للدين والوطن”، قبل أن يتبدّل موقفه مؤخرًا، مدفوعًا بهواجس تتعلّق بمشروعه الانفصالي ومصالحه الذاتية.
كما تتبنى الفصائل المسلحة الدرزية، مثل “قوات الفجر” و”رجال الكرامة”، مواقف مناهضة للاحتلال الإسرائيلي، وتُحذّر من محاولات اختراق النسيج الاجتماعي الدرزي من قِبل قوى أجنبية، وتقدّم نفسها بوصفها حامية للهوية الدينية والروح الوطنية السورية في آنٍ واحد.
وفي الجولان المحتل، لا يزال معظم الدروز – وخصوصًا في بلدة مجدل شمس – متمسّكين بهويتهم السورية، رغم مرور أكثر من نصف قرن على الاحتلال، وقد رفض العديد منهم الجنسية الإسرائيلية، ولا يزالون يحيون سنويًا ذكرى الإضراب الشهير ضد فرضها، في تعبير رمزي عن رفضهم للسلطة القائمة.
إلا أن الأجيال الجديدة في الجولان قد تبدو أكثر انخراطًا في المجتمع الإسرائيلي، بحكم الامتيازات التي يحصلون عليها من حمل الجنسية أو الإقامة، وهو ما فتح نقاشًا داخليًا واسعًا داخل المجتمع الدرزي حول جدوى الصمود من جهة، ومعضلة الهوية والانتماء من جهة أخرى.
ثانيًا: التيار البراغماتي الداعم لـ”إسرائيل”
يمثل هذا التيار أقلية داخل الطائفة الدرزية، ويتركز بشكل رئيسي بين المقيمين في الجولان المحتل وداخل “إسرائيل”، ويتعامل مع تل أبيب بمنطق براغماتي صرف، انطلاقًا من المصالح المادية والتعليمية والوظيفية التي يتيحها هذا التقارب، وهو ما يبرز بشكل خاص لدى الجيل الجديد من الدروز الذين يسعون للدراسة في الجامعات الإسرائيلية والاستفادة من المزايا التي توفرها الدولة العبرية لمواطنيها.
كما تتبنى بعض الشخصيات الدرزية السورية في المهجر – خصوصًا في أوروبا وأمريكا الشمالية – مواقف أكثر براغماتية تجاه “إسرائيل”، فهناك من يدعو للتعامل معها باعتبارها “أمرًا واقعًا” لا يمكن تجاهله، حتى وإن كانوا يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية، وهناك من يجد نفسه مجبرًا على التعامل مع تل أبيب بحكم علاقاته العائلية والدينية مع دروز الداخل، وارتباطه بشبكات اجتماعية يصعب فصلها جغرافيًا أو سياسيًا.
ورغم أن هذا التيار لا يزال محدودًا مقارنة بالغالبية الرافضة، إلا أن تعقيدات المشهد السوري من جهة، والإغراءات التي تقدمها “إسرائيل” من جهة أخرى، قد تدفع بمرور الوقت إلى اتساع رقعة البراغماتيين والمطبعين داخل الطائفة، وقد فطنت “إسرائيل” إلى هذه التحولات مبكرًا، وبدأت توظيفها سياسيًا واجتماعيًا وإعلاميًا، لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب على مستوى الداخل السوري والجولاني، وأيضًا على الساحة الدولية.
الكيان وتغذية الانقسام
نجحت “إسرائيل” في توظيف الهوّة المتسعة بين الدروز ودمشق لتوسيع رقعة الانقسام، ومحاولة استقطاب الطائفة عبر مسارات متعددة، جمعت بين الاقتصاد والسياسة والاجتماع والدين، مستغلة هشاشة الواقع السوري وتعقيداته.
1. المسار الاقتصادي
استغلّت تل أبيب التدهور المعيشي والاقتصادي في الجنوب السوري، وبدأت بتوفير فرص عمل لأبناء الطائفة الدرزية، سواء في الجولان المحتل أو داخل أراضيها، بأجور مقبولة نسبيًا، كما منحت العمال الدروز امتيازات لا يحصل عليها السوريون السنّة المقيمون في مناطق سيطرتها، ما شكّل عامل جذب براغماتي لدى بعض الفئات، خصوصًا الشباب الباحثين عن فرص للعيش الكريم.
2. المسار الاجتماعي
سعت “إسرائيل” إلى التقريب بين الدروز في السويداء وأقاربهم في الجولان المحتل، فرتّبت زيارات متبادلة بعد انقطاع دام لعقود، وعملت على تليين العلاقات الاجتماعية عبر تقديم مساعدات طبية وعلاجية على الحدود، بما في ذلك نقل الحالات الحرجة للعلاج في مستشفياتها، وقدّمت هذه الخطوات على أنها “بوادر حسن نية إنسانية”، لكنها كانت تخدم في العمق أهدافًا سياسية واختراقية.
3. المسار السياسي والأمني
قدّمت “إسرائيل” نفسها كضامن سياسي وأمني للطائفة الدرزية، وتعهدت بحمايتهم من أي استهداف محتمل من قبل دمشق، وسعت إلى مدّ جسور التواصل مع شخصيات محلية وقادة ميدانيين، غالبًا من خلال وسطاء دروز من الداخل الفلسطيني أو الجولان، ما ساهم في توطيد العلاقة مع بعض الفاعلين المحليين، لا سيما من الأجيال الجديدة.
4. المسار الطائفي
حرصت “إسرائيل” على تقديم نفسها كـ”حامية” للطائفة الدرزية ومدافعة عن خصوصيتها العقدية، ففتحت الحدود أمام وفود دينية لزيارة مقام النبي شعيب، واستقبلت مشايخ من السويداء أكثر من مرة تحت غطاء “زيارات دينية”، في محاولة لتعزيز الروابط الروحية والمذهبية بين دروز الداخل والخارج، وتكريس نفسها كمرجعية دينية-سياسية للطائفة.
وهي زيارات، وإن حملت في ظاهرها طابعًا دينيًا، فإنها تخفي في باطنها أبعادًا سياسية خبيثة، تهدف إلى استغلال الروابط الاجتماعية بين دروز سوريا ودروز الداخل المحتل، لتنفيذ مشاريع خلف الكواليس، وتغذية النزعات الانفصالية، والدفع باتجاه تشييد كيان مذهبي خاص، كخطوة أولى في مشروع تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية.
ولطالما حذرت أصوات كثيرة من استغلال الكيان الإسرائيلي للأقليات المذهبية والسياسية، عبر إذكاء الانقسامات الداخلية، وتوظيفها في خدمة مشاريعه التوسعية والتفتيتية، تمامًا كما حدث مع “جيش لبنان الجنوبي”، الذي تخلّت عنه إسرائيل بعد أن استنفدت غاياتها من دعمه، ليُترك لمصيره ويدفع ثمن ارتمائه في أحضان الاحتلال.
محصلة ما سبق أن ما جرى في السويداء، وما تلاه من اعتداءات إسرائيلية على دمشق، كشف حجم المؤامرة الإسرائيلية، ومساعي تل أبيب الحثيثة لاستغلال الأقليات وتغذية الانقسامات بينها، في سبيل تنفيذ مخططاتها العنصرية الهادفة إلى تفكيك الوحدة السورية، وتمزيق الدولة إلى كيانات متناحرة تخدم الأجندة الصهيونية في المنطقة.
وقد أثبتت الأيام القليلة الماضية، منذ بدء التصعيد في السويداء، فشل الجميع – بلا استثناء – في إدارة الأزمة، وساهموا، بقصد أو بدونه، في تقديم ملف الطائفية على طبق من ذهب للمحتل الإسرائيلي، ليوظفه بالشكل الذي يخدم أهدافه الاستعمارية، وبينما تقف سوريا على مفترق طرق، يواصل الاحتلال قطف ثمار الفوضى والشرذمة.
وأمام هذا الانكشاف الصريح للمؤامرة، تتصاعد المسؤوليات الملقاة على عاتق الجميع: السلطة الجديدة، وشيوخ العقل، والشارع السوري بكل أطيافه، فوأد المخطط الإسرائيلي يجب أن يتقدّم على أي خلافات داخلية، ويتطلب من الجميع التراجع خطوة إلى الخلف، لصالح سوريا ومستقبلها، والعمل معًا لإغلاق الباب نهائيًا أمام محاولات الاحتلال توظيف ورقة الأقليات في الداخل السوري، فهل يعي السوريون الدرس قبل فوات الأوان؟