لا حديث يُهيمن على خبراء الاقتصاد الأكاديميين وحتى السياسيين هذه الأيام سوى عن الرسوم الجمركية الأمريكية التي فُرضت على معظم دول العالم، بما في ذلك دول عربية مثل الجزائر، وذلك ضمن إطار ما أسماه ترامب “استعادة ثراء أمريكا”، وحاليًا يشغل بالهم أسئلة ملحّة تبحث عن إجابات منطقية؛ أولها: هل يُعتبر قرار ترامب إجراءً اقتصاديًا بحتًا، أم أنه مُلغَّم برسائل سياسية مُبطّنة؟ والسؤال الثاني: كيف بإمكان الجزائر أن تتموضع في المشهد الجيو-اقتصادي العالمي؟
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 8 يوليو/تموز 2025، عن فرض رسوم جمركية جديدة على معظم دول العالم، بما في ذلك الجزائر، وقد حُدّدت النسبة بـ30 بالمائة على السلع، وقال ترامب إن الرسائل التي تخطر الدول الأصغر بمعدلات الرسوم الجمركية الأمريكية المفروضة عليها، سيتم إرسالها قريبًا، مضيفًا أن إدارته ستحدد على الأرجح معدّلًا “يزيد قليلاً على 10 بالمئة” على تلك الدول.
وقد وصف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، منذ يومين، في حوار بثّه التلفزيون الجزائري، القرار الأمريكي بأنه “مسألة سيادية” تخصّ واشنطن وحدها، وتابع قائلاً إن “المعني بها هو المستهلك هناك، فصادراتنا إلى أمريكا نسبة ضعيفة وتمثل 0.5% من مجمل الصادرات، وهي مسألة لا تستحق أن ندخل بشأنها في معركة”.
أي خلفيات أوجبت القرار؟
المؤكد حاليًا أن ما يصدر اليوم عن ترامب وإدارته يُشي بحقيقة تبدو أكثر وضوحًا، فالمسألة ليست اقتصادية بحتة، بل تحمل أيضًا أبعادًا سياسية، لا سيما وأن هذه الرسوم الجمركية مُبالغ فيها، وهي تقارب نفس النسبة التي فُرضت على الصين، والتي تُقدّر بنحو 34 بالمائة (صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في العالم)، وإذا ما قارناها بدول عربية أخرى كدول الخليج ومصر والمغرب ولبنان والسودان واليمن وجيبوتي وموريتانيا وجزر القمر، حيث جاءت قيمة التعريفات الجمركية المفروضة عند الحد الأدنى بنسبة 10 بالمئة، يتّضح التمايز.
يُوجز زناسني محمد، الباحث الجزائري المتخصص في الدراسات الاستراتيجية والأمنية، في حديثه لـ”نون بوست”: “الجزائر تُعتبر من ضمن الفواعل الإقليمية المهمة في منطقة شمال إفريقيا والساحل الإفريقي، وأمريكا اليوم تسعى إلى تحقيق جملة من الأهداف، خاصة الأمنية والعسكرية، في إفريقيا. وزيارة قائد القيادة الأميركية لإفريقيا، الفريق مايكل لانغلي، إلى الجزائر دليل على هذا، لكن هذا التوجه يصطدم بممانعة جزائرية، فهي ترفض أي تواجد عسكري على أراضيها، حسب التصريحات المتواترة من صناع القرار الجزائريين”.
ولا يمكن قراءة رسوم ترامب من منظور سياسي فقط، بل لها خلفيات اقتصادية عميقة، تنسجم مع ما يُعرف بنظرية “الصدمة المُسبقة”، التي تعتمد بالأساس على تعريض الخصم لضربة استباقية تفقده وعيه وقدرته على تحليل المعطيات بشكل منطقي يمكّنه من الرد الفعّال، وبهذا، يخضع لشروط الطرف الأول وإملاءاته تحت وقع القوة الغاشمة على الصعيد العسكري، أو أزمة حادة على الصعيد الاقتصادي.
وقد تُستخدم هذه النظرية أيضًا كآلية تفاوضية من خلال رفع سقف المطالب أولًا، حتى يفاوض الطرف الآخر على خفض هذا السقف، وبالتالي الوصول إلى المطالب الحقيقية للطرف الأول بطريقة غير مباشرة ناتجة عن “صدمة مُسبقة”، وقد استعملها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كثيرًا في مفاوضاته الدبلوماسية، خصوصًا مع حلف الناتو وأوروبا أثناء التفاوض على استراتيجية الأمن الأوروبي التي تُشرف عليها واشنطن، كما استُعملت في ثمانينيات القرن الماضي لإخضاع اقتصاديات أمريكا اللاتينية وإلحاقها بالمنظومة الرأسمالية، خصوصًا التشيلي والأرجنتين.
للدلالة على هذا المُعطى، يقول الخبير الاقتصادي عبد الصمد سعودي لـ”نون بوست”: “وإن كانت الجزائر ليست من أكبر مُصدري السلع، فإن فرض رسوم جمركية مُرتفعة عليها يندرج ضمن إطار التفاوض حول توقيع اتفاقيات ثنائية وفتح قطاعات استراتيجية أمام الشركات الأمريكية مقابل خفض نسبة الرسوم، وقد لاحظنا مؤخرًا تعاقب زيارات عمالقة الطاقة الأمريكية، على غرار ممثلين عن شركتي شيفرون وإكسون موبيل الأمريكيتين، وقد التقيا الرئيس تبون بحضور وزير الدولة للطاقة والمناجم والطاقات المتجددة محمد عرقاب، وأبدوا رغبتهم في الولوج إلى السوق الجزائرية بشكل دائم”.
وهناك مُعطى آخر يجب أخذه بعين الاعتبار، حسب الباحث زناسني محمد، وهو “سيكولوجية صانع القرار الأول (مقاربة أمن سيكولوجي) في أمريكا، والمتمثلة في شخص الرئيس ترامب، خصوصًا كونه جاء من خلفية ريادة الأعمال، ويُعد من المحسوبين على التيار الانعزالي في السياسة الأمريكية، الذي يعطي الأولوية للداخل الأمريكي على حساب زيادة النفوذ في الخارج. وبالنظر إلى هيكلية الاقتصاد الأمريكي وارتفاع دينه العام مقارنة بالدخل الإجمالي الخام، إضافة إلى الحرب التجارية مع المنافس الصيني، كل ذلك دفعه إلى محاولة تقليل تكاليف الواردات الأمريكية، وبالتالي إعطاء الشركات الأمريكية هوامش ربح إضافية تُعزز من مكانتها في الاقتصاد الدولي، باعتبارها أحد الأدوات الأمريكية المهمة”.
تأثيرات رسوم ترامب
هنا يجب أن نتوقف ونطرح تساؤلًا ملحًا بالغ الأهمية: ما هي الثمار التي سيقطفها ترامب من وراء هذا القرار؟ وأي تأثير له على الاقتصاد الجزائري؟
الإجابة على هذين السؤالين تتطلب تسليط الضوء على حجم التبادل بين البلدين. وفي الحقيقة، لا تتوفر إحصائيات رسمية حديثة حول الميزان التجاري بين الجزائر وأمريكا، لكن إحصائيات الجمارك الجزائرية (هيئة حكومية تقوم بمراقبة التجارة الخارجية وتنظيم مختلف عمليات دخول وخروج السلع من وإلى الحدود الوطنية) تكشف أن واشنطن تأتي في المرتبة الخامسة في قائمة زبائن الصادرات الجزائرية، بنسبة تُقدّر بـ5.75 بالمائة، أي ما يُعادل 25.922 مليار دولار، وهي عبارة عن نفط خام ومواد بترولية وحديد صلب وإسمنت وأسمدة ومواد غذائية أخرى.
وتأتي بعد كل من إيطاليا (21.83 بالمائة)، وإسبانيا (12.13 بالمائة)، وفرنسا (9.94 بالمائة)، وهولندا (7.38 بالمائة)، وهذه الأرقام كافية لتؤكد أن تأثير الرسوم الجمركية محدود نسبيًا على المدى القصير، لكن قد يكون لها انعكاسات على المدى الطويل، لا سيما إذا تأثرت أسعار الغاز والنفط، وهو ما شهدناه في 24 ساعة التي تلت الإعلان عن هذه القرارات في أبريل/نيسان الماضي، إذ انهار خام برنت من حوالي 73 دولارًا للبرميل إلى حوالي 66 دولارًا. وفي حالة تكرار هذا السيناريو، ستواجه الدول الريعية أيامًا حالكة، وينطبق هذا الوضع على الجزائر، حيث يستحوذ قطاع المحروقات على أكثر من 97 بالمائة من إجمالي الصادرات.
يقول في هذا المضمار، زناسني محمد: “الجزائر لا تتأثر كثيرًا بالرسوم الأمريكية، نظرًا لأن مستوى التبادل الاقتصادي المتدني بين البلدين، بالإضافة إلى أن الرسوم الجمركية، كما هو معلوم في علم الاقتصاد، لا تضر المُوَرِّد بصفة مباشرة، وإنما المستورد؛ فهي ترفع تكاليف الاستيراد، وبالتالي قد تدفع الثاني إلى تقليص استيراده أو البحث عن مصادر أخرى أقل تكلفة. وعليه، فالجزائر، من وجهة نظر الدراسات الأمنية، تتضرر من الاستراتيجية الكبرى الأمريكية، وليس من رفع الرسوم الجمركية مباشرة”.
ما المطلوب اليوم؟
لأن القرار الأمريكي يحمل في باطنه رسائل سياسية واقتصادية، فالجزائر اليوم مطالبة برد فعل مُضاد عبر عدة محاور، أهمها: اعتماد مبدأ تنويع الشركاء الدوليين مع آسيا، إفريقيا، وحتى أمريكا اللاتينية، وقد بدأ هذا التوجه يبرز بانضمام البلاد إلى معاهدة الصداقة والتعاون لدول جنوب شرق آسيا “آسيان”، في خطوة قُرئت على أنها “استدارة اقتصادية مدروسة نحو الشرق”، رغبة منها في تنويع أوراقها الاقتصادية والدبلوماسية. فهي حاليًا تعتمد بشكل أساسي على السوق الأوروبية، باعتبارها الزبون الأول لصادراتها النفطية، لا سيما النفط والغاز.
واستُبقت الخطوة بمساعٍ حثيثة داخل مجموعة “بريكس”، وأفضت هذه التحركات إلى انضمام الجزائر إلى بنك المجموعة، وذلك في ختام الاجتماع السنوي التاسع لمجلس محافظي البنك الجديد للتنمية (NDB)، الذي انعقد في 31 أغسطس/آب 2024 في كيب تاون بجنوب أفريقيا، وهي اليوم مُقبلة على مراجعة اتفاق الشراكة مع الأوروبيين الذي دخل حيز التنفيذ عام 2005، في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
وقبلها، انضمت الجزائر إلى مبادرة “الحزام والطريق”، وهو توجه يكتسب أهمية بالغة، ليس فقط من حيث توسيع نطاق التعاون الثنائي ليشمل مجالات ذات أولوية، تأتي في مقدمتها الموانئ البحرية وحتى الجافة، مثل ميناء “الحمدانية” الواقع بمحافظة تيبازة، الذي من المتوقع أن يصبح أكبر ميناء في أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، بل أيضًا من حيث الموقع الاستراتيجي للجزائر بالنسبة إلى الصين، إذ تمثل بوابة القارة السمراء في مجال الاستثمار.
الحل المقترح الآخر هو جلب المستثمرين غير الأمريكيين في القطاعات التي شملتها رسوم ترامب، مثل قطاع الأسمدة، والحديد والصلب، حيث شهدت صادرات الجزائر من الصلب نحو السوق الأمريكية ارتفاعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، خاصة بعد دخول مركبات صناعية جديدة حيّز الإنتاج، مثل مصنع “بلارة” بشراكة قطرية بولاية جيجل الساحلية، والشراكة مع “توسيالي” التركية بوهران (غرب)، إلى جانب الصناعات الغذائية (كالتمور) والإلكترونية، وذلك من أجل تجريد القرار من مضمونه وتحويله إلى مجرّد إجراء شكلي بلا أثر فعلي.