صعَّدت سلطات الاحتلال من خطواتها التهويدية بحق المقدسات الإسلامية، وصولًا إلى القرار الذي كان من الواضح أن كل المعطيات تشير إليه كمصير محتوم، إذ كشف الإعلام العبري عن صدور قرار بنقل صلاحيات الإشراف على الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، جنوبي الضفة الغربية، من بلدية الخليل ووزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية إلى “المجلس الديني اليهودي” التابع لمستوطنة كريات أربع، المقامة على أراضي المدينة.
وتُعدُّ هذه الخطوة، حسب الإعلام العبري، “بشرى كبيرة للاستيطان”، و”إجراء غير مسبوق سيُحدث تغييرًا جذريًّا في الوضع القائم داخل الحرم”، وستفتح الباب أمام تنفيذ “تعديلات هيكلية في المكان”، من ضمنها إعادة تسقيف الحرم، ما يعني الانتقال إلى حالة فرض سيطرة دينية وإدارية شاملة عليه، ونسف الوضع القائم بالكامل.
ولا يمكن فصل هذه الإجراءات بحق الحرم الإبراهيمي عن السياق المتسارع لحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني، والذي يشمل تهويدًا شاملًا لكل المقدسات، بالتوازي مع سياسات التوسع الاستيطاني ومحو الهوية الفلسطينية الجمعية. وهو مسار يضع المسجد الأقصى في قلب العاصفة، في ظل غياب استراتيجية فلسطينية جادة للمواجهة، تتجاوز حدود التصريحات والتنديدات.
نزع الصلاحيات وفرض السيطرة
في تفاصيل القرار، كشفت صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية أن سلطات الاحتلال قررت تنفيذ تغيير غير مسبوق في الوضع القائم داخل الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل، يتمثل بسحب الصلاحيات من بلدية الخليل ونقلها إلى ما يُسمى بـ “المجلس الديني في مستوطنة كريات أربع – الخليل”، تحت إشراف “الإدارة المدنية” التابعة لجيش الاحتلال.
ويأتي هذا القرار تمهيدًا لتنفيذ تغييرات إنشائية واسعة داخل الحرم، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ قرارات “لجنة شمغار” عام 1994، التي نظَّمت تقسيم الحرم بين المسلمين والمستوطنين عقب مجزرة باروخ غولدشتاين.
ووفقًا للصحيفة، تسعى “الإدارة المدنية” منذ فترة إلى إحداث “تغييرات جوهرية” في الحرم، من بينها إقامة سقف دائم لساحة “يعقوب”، التي يسيطر عليها المستوطنون ويؤدون فيها صلواتهم خلال نحو 90% من أيام السنة.
وكانت سلطات الاحتلال قد نصبت سابقًا سقفًا مؤقتًا ومفتوحًا جزئيًّا في المكان، ما أبقى المصلِّين اليهود، حسب وصف الصحيفة، عرضةً لأشعة الشمس والمطر. كما تتضمن التغييرات المخططة تركيب منظومة متطورة لإطفاء الحرائق، وهي خطوة يواجهها الجانب الفلسطيني برفض شديد، على الرغم من زعم الصحيفة أن “الأمر يتعلق بخطر على الأرواح”.
علمًا بأن صلاحية مراقبة كاميرات المراقبة الأمنية كانت حتى وقت قريب بيد موظفي الأوقاف الإسلامية، ما كان يتطلب – في حالات الطوارئ – تسليم مفاتيح التشغيل إلى سلطات الاحتلال.
وأوضحت الصحيفة أن القرار جاء عقب اجتماع “دراماتيكي” عُقد يوم الاثنين برئاسة وزير حرب الاحتلال، وبُني على “عمل تحضيري” قامت به الإدارة المدنية، أدى إلى إزالة العقبات القانونية التي حالت سابقًا دون سحب الصلاحيات من بلدية الخليل والأوقاف الإسلامية.
وبموجب القرار، نُقلت هذه الصلاحيات رسميًّا إلى ما يُسمى بـ “المجلس الديني لمستوطنة كريات أربع – الخليل”، ما يعني فعليًّا أن الإشراف على الحرم لم يَعُد بيد أية جهة فلسطينية، بما في ذلك “الإدارة المدنية” ذاتها.
ونقلت الصحيفة عن شاي غليك، مدير منظمة “بتسلمو” الاستيطانية، ترحيبه بالخطوة، وقد عدَّ أن “الحرم الإبراهيمي مسجَّل في الطابو باسم الشعب اليهودي منذ سفر التكوين”، مهاجمًا ما وصفه بـ “القرار المشؤوم لموشيه ديان” الذي منح الأوقاف الإسلامية حق السيطرة على الحرم. وأضاف: “آن الأوان أن يصبح الحرم مثل أي قبرٍ لرجلٍ صالح في إسرائيل: مغطى، مكيَّف، مزوَّد بخدمات ومَرافق”، وختم بالقول: “لقد حان وقت السيادة”.
من المجزرة إلى السيطرة
منذ المجزرة الدموية التي ارتكبها المستوطن المتطرِّف باروخ غولدشتاين، فجر 25 شباط/فبراير 1994، داخل الحرم الإبراهيمي، وأسفرت عن استشهاد 29 مصلِّيًا أثناء السجود، تلاها استشهاد 20 آخرين خلال احتجاجات شعبية اندلعت في أعقاب الجريمة، وإصابة نحو 150 آخرين، فرضت سلطات الاحتلال سلسلة من الإجراءات المشدَّدة على الحرم.
وبموجب توصيات لجنة “شمغار” الإسرائيلية، التي شُكِّلت عقب المجزرة، قُسِّم الحرم الإبراهيمي، ليُمنَح 63% من مساحته للمستوطنين اليهود، مقابل 37% للمسلمين.
وعُوقب الضحية وكُوفئ الجاني، فأغلقت قوات الاحتلال الحرم والبلدة القديمة في الخليل لمدة ستة أشهر كاملة بذريعة التحقيق، وشكَّلت لجنة تحقيق من طرف واحد، خرجت بتوصيات، أبرزها: تقسيم الحرم، وفرض واقع أمني صارم، ونشر الحراسات، وإعطاء اليهود السيادة على الجزء الأكبر من الحرم.
يشمل القسم الذي استولى عليه المستوطنون مقامات وقبور أنبياء، منها: قبر النبي إبراهيم وزوجته سارة، وقبر حفيده يعقوب وزوجته ليئة، وقبر النبي يوسف بن يعقوب، إضافةً إلى صحن الحرم، وهي الساحة الجميلة المكشوفة.
تبلغ مساحة المسجد الإبراهيمي نحو 2,040 مترًا مربعًا، وتحيط به جدران حجرية ضخمة من الحجر الجيري الأبيض. ويقع في البلدة القديمة من مدينة الخليل، وهي منطقة خاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة بموجب اتفاق الخليل بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل” عام 1997.
نصَّ الاتفاق حينها على التزام “الطرفين بالحفاظ على الطابع التاريخي للمدينة”، دون الإضرار به أو تغييره، وعلى أن تكون الخدمات البلدية والبنية التحتية – من مياه وصرف صحي وكهرباء واتصالات – تحت مسؤولية الجانب الفلسطيني، مع إمكانية طلب الجانب الإسرائيلي تنفيذ بعض الأعمال عبر مكتب الارتباط المدني.
وعلى الرغم من هذا الاتفاق، لم تتوقف المحاولات الإسرائيلية لتكريس الأمر الواقع. ويمكن التأريخ لتصعيد هذه المحاولات بدءًا من العام 2010، حين قررت الحكومة الإسرائيلية ضم الحرم الإبراهيمي في الخليل، ومسجد بلال بن رباح (ما يُسمى بـ “قبر راحيل” في بيت لحم)، إلى قائمة “التراث القومي اليهودي”، ورصدت 400 مليون شيكل (أكثر من مئة مليون دولار) لترميمها.
ومنذ العام 2012، تبنَّت حكومة بنيامين نتنياهو سياسة عدم الانسحاب من الخليل القديمة، وطرحتها في المفاوضات مع الفلسطينيين كجزء من الكتل الاستيطانية التي يجب الاحتفاظ بها ضمن معادلة تبادل الأراضي، إلى جانب “عتصيون”، و”معاليه أدوميم”، و”أريئيل”.
وفي العام ذاته، افتُتح طريق استيطاني جديد يربط الحرم الإبراهيمي بمستوطنة “كريات أربع” شرق المدينة. وخلال الافتتاح، صرَّح وزير المواصلات آنذاك، يسرائيل كاتس: “مدينة الخليل بيتنا، وهنا بدأ الاستيطان وسنبقى للأبد”.
ومنذ ذلك الوقت، تصاعدت الخطوات التهويدية، إذ كُشف عن تنفيذ حفريات تُسمَع بوضوح أسفل الحرم، وتمديد خطوط كهرباء جديدة داخل القسم المغتصب، ورفع العلم الإسرائيلي والشمعدان (رمز ديني يهودي) على سطح الحرم في بعض المناسبات. كما نفَّذ جنود الاحتلال تدريبات عسكرية داخل الحرم، شملت طرد المصلين بالقوة، في محاكاة لاجتياحات أمنية.
وفي العام 2021، شرعت سلطات الاحتلال في تنفيذ مشروع تهويدي على مساحة 300 مترٍ مربعٍ من ساحات الحرم ومرافقه، يشمل تركيب مصعد كهربائي لتسهيل اقتحامات المستوطنين. وفي 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، اقتحم رئيس دولة الاحتلال، يتسحاق هرتسوغ، الحرم الإبراهيمي، في سابقة خطيرة، وتحت حماية أمنية مشددة، في خطوة فُهمت على أنها إعلان سياسي مباشر بدعم تهويد الحرم ورعاية المستوطنين.
وفي السياق نفسه، صرَّح عضو الكنيست من حزب الليكود، أفيخاي بوارون، في نوفمبر/تشرين الثاني 2024: “سنأخذ مغارة المكفيلة (الحرم الإبراهيمي) مترًا مترًا… لن يبقى المكان عالقًا في سنة 1967… هذه فرصتنا!”
وفي مطلع العام الجاري 2025، حاولت سلطات الاحتلال تنفيذ مشروع تسقيف صحن الحرم الإبراهيمي، في انتهاك صارخ للمكانة التاريخية والتراثية للموقع، وللصلاحيات الحصرية التي تملكها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية. وتزامن ذلك مع إغلاق الحرم أمام المصلين المسلمين، ومنع رفع الأذان مرارًا، في خطوة تعكس استكمال مشروع فرض السيادة اليهودية الكاملة على الحرم.
تنديد رسمي بلا أفعال
في تعقيبات رسمية متتالية، حذَّرت وزارة الخارجية الفلسطينية من تداعيات فرض السيطرة الإسرائيلية على الحرم الإبراهيمي. وأوضحت، في بيان، أن “ما نقله الإعلام الإسرائيلي بشأن نقل صلاحيات إدارة الحرم من بلدية الخليل إلى مجلس استيطاني يُعد خطوة غير مسبوقة، تهدف إلى فرض السيطرة الكاملة على الحرم، وتهويده، وتغيير هويته ومعالمه بالكامل، إلى جانب كونه انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي والقرارات الأممية ذات الصلة”.
وطالبت الوزارة منظمةَ الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونسكو” والمجتمع الدولي “بالتدخل العاجل لوقف تنفيذ هذا القرار فورًا”، محذِّرةً من “تداعياته على مجمل المقدسات الإسلامية”.
من جهته، نفى رئيس بلدية الخليل، تيسير أبو سنينة، في بيان صحفي، تسلُّم أي قرار رسمي من الجانب الإسرائيلي، مؤكدًا: “من حيث المبدأ، نرفض هذا القرار جملةً وتفصيلًا، ونعتبره عدوانًا سياسيًّا وثقافيًّا ودينيًّا على مدينة الخليل”.
وأضاف أن سحب الصلاحيات “خطوة تهدف إلى تهويد الحرم الإبراهيمي ومحيطه، وفرض سيادة احتلالية غير شرعية على أحد أقدس المعالم الإسلامية”، مشيرًا إلى أن “الحرم الإبراهيمي، المُسجَّل على قائمة التراث العالمي الإنساني، هو ملكية فلسطينية خالصة، وممتلك حضاري وإنساني”.
بدورهما، أدانت حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” القرار الإسرائيلي، وعدَّتاه جزءًا من “مخطط صهيوني ممنهج لتهويد المسجد الإبراهيمي، وتقسيمه زمانيًّا ومكانيًّا، على غرار ما يجري في المسجد الأقصى”.
وفي بيانيهما، أكدت الحركتان أن القرار يكشف النوايا الحقيقية للاحتلال وتصميمه على فرض سيطرة كاملة على المسجد، وطمس هويته الإسلامية، مشددتين على أن “المسجد الإبراهيمي ملكية وقفية خالصة للمسلمين”، وأن جميع محاولات التهويد ستفشل أمام صمود الشعب الفلسطيني، ولا سيما في مدينة الخليل.
ودعت الحركتان إلى “النفير العام والرباط في المسجد الإبراهيمي”، وضرورة حماية المقدسات من مشاريع الاحتلال التهويدية، مؤكدتين أن “هذه الخطوات لن تمر مرور الكرام، وأن شعبنا الذي أفشل محاولات الاحتلال سابقًا، سيواصل التصدي لها بكل ثبات”.
وجدير بالذكر أن فلسطين كانت قد سجَّلت، في العام 2017، كلًّا من البلدة القديمة في الخليل والمسجد الإبراهيمي على قائمة التراث العالمي لمنظمة “يونسكو”، وكذلك على قائمة التراث العالمي “المهدَّد بالخطر”.
اليوم الحرم الإبراهيمي.. والعيون نحو الأقصى
لا يمكن النظر إلى ما يتعرض له الحرم الإبراهيمي بمعزل عن السياق الفلسطيني العام، وسلسلة الإجراءات المتتابعة التي تنفِّذها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بهدف تهويد جميع المقدسات الإسلامية في الأراضي الفلسطينية، ومحو الهوية التراثية والتاريخية للشعب الفلسطيني، وقطع روابطه الدينية والحضارية بأرضه.
وتُشكِّل الحكومة الإسرائيلية الحالية، والتي تُعدُّ الأكثر تطرفًا في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي، العامل الأكثر تأثيرًا في تسريع هذه الإجراءات، بوصفها تنتمي إلى تيار اليمين الديني الصهيوني الذي يدفع في اتجاه تطبيق “خطة الحسم”، الرامية إلى الإجهاز على كل مقومات الهوية الجمعية الفلسطينية، وتصفية الوجود الفلسطيني المتماسك في كامل الأرض المحتلة.
وفي هذا السياق، لا تتوقف المخاطر عند حدود ما جرى مؤخرًا من إجراءات تهويدية بحق الحرم الإبراهيمي، بل تمتد إلى ما هو قادم، إذ يمتلك قادة المستوطنين وزعماء التيارات الدينية المتطرفة أجندة مفتوحة لاستهداف ما تبقَّى من المقدسات الإسلامية، وفي مقدمتها المسجد الأقصى، الذي يواجه تهويدًا متسارعًا وفرضًا يوميًّا لوقائع جديدة على الأرض.
ويُجمِع مراقبون على أن ما يجري في الحرم الإبراهيمي اليوم يُمثِّل مرحلة متقدمة لما يُحاك للمسجد الأقصى، إذ إن التقسيم الزماني وتحديد أوقات الاقتحامات الذي نشهده اليوم في الأقصى، سبق أن طُبِّق في الحرم الإبراهيمي قبل العام 1987، وتوسَّع لاحقًا إلى اقتطاع جزء كبير منه، وصولًا إلى سحب صلاحيات الأوقاف الإسلامية، ما يهدِّد بتكرار السيناريو ذاته في المسجد الأقصى خلال السنوات القادمة.
وفي ظل غياب استراتيجية فلسطينية فعَّالة للمواجهة، تتجاوز التصريحات والإدانات الشكلية، بات من الصعب صد الهجمة التهويدية المتصاعدة. فالمتابِع لما يجري في محيط المسجد الأقصى في الأشهر الأخيرة يلحظ بوضوح حجم التغيرات التي فرضها الاحتلال، من نصب أبراج مراقبة وتجسس مزوَّدة بكاميرات وأجهزة تنصُّت، وتعزيز شبكات الكاميرات، وتثبيت حواجز حديدية وأسلاك شائكة، إلى جانب تغييرات ميدانية واسعة عند باب الأسباط ومدخل باب الرحمة.
كل ذلك يؤكد أن المخططات الإسرائيلية لن تتوقف عند حدود الحرم الإبراهيمي، وأن السيادة الفلسطينية تتآكل فعليًّا في غياب مشروع مقاومة ميداني وسياسي موحَّد. وعليه، فإن اللحظة تتطلب تداركًا فلسطينيًّا جادًّا لوقف هذا النزيف السيادي، من خلال بناء خطة مواجهة متكاملة، تبدأ بالتصدي الحازم للإجراءات في الحرم الإبراهيمي، وتمتد لحماية المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس وبيت لحم من التغوُّل الإسرائيلي المستمر.