شكَّلت محاولات الاحتلال الإسرائيلي لفرض قيادة بديلة على الشعب الفلسطيني جزءًا محوريًّا من استراتيجياته منذ بداية احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، بهدف تفكيك الحركة الوطنية الفلسطينية، خاصة منظمة التحرير، وخلق أدوات محلية تخدم مصالحه العسكرية والأمنية ومشروعه الاستيطاني وأجندته في الشريط الحدودي، خاصة في جنوب لبنان.
منذ ذلك الحين، لم تكف “إسرائيل” عن استيلاد أدوات افتقدت لأي شرعية وطنية أو شعبية، مستندة في ذلك إلى القاعدة الذهبية للمحتلين عبر التاريخ: “يد في الداخل أقوى من 1000 خارجها”، ومع إخفاق قواتها في إخضاع الفصائل الفلسطينية، رغم فارق القوة والعتاد والدعم، بدأت في التفكير بالطريقة ذاتها، مع تبديل الوجوه لا الأدوات.
أبو شباب و”إسرائيل”.. ثنائية الإجرام والاحتلال في غزة
منذ بدء حربها الأخيرة على غزة، فتَّشت “إسرائيل” كثيرًا، وانتهت إلى أحد هؤلاء، ممن هم دائمًا في ركاب قواتها، يتحرك بأوامرهم، ويستكشف لهم المواقع، ويشاغل المقاومة، ويثير البلبلة، وذاك خيار يعكس بؤس المآل وهشاشة البدائل إن وُجدت.
إنه ياسر أبو شباب، الذي يمثِّل حالة في غزة يختصرها مراقبون بأنه “يتجاوز كونه مجرد سارق، دون أن يبلغ مستوى قائد ميليشيا”، ويسمي نفسه “قوات شعبية”، ولا تجد له “إسرائيل” اسمًا، ومن يراه قد يستحضر المثل القائل: “تسمع بالمعيدي خير من أن تراه”.
وأبو شباب هذا ثلاثيني من قبيلة الترابين البدوية، لم يكن معروفًا في قطاع غزة إلا لدى الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية، التي كانت قد اعتقلته قبل السابع من أكتوبر بتهم تتعلق بالسرقة والاتجار بالمخدرات. أما هو، فيدّعي أن له “ثأرًا مع حركة حماس”، ويزعم أن هدفه “تحرير الشعب منها، لا من الاحتلال”.
خرج أبو شباب، والذي يُوصَف بأنه “رجل نتنياهو في قطاع غزة”، من سجن “أصداء” في خان يونس بعد تعرضه لقصف إسرائيلي، ثم توارى عن الأنظار حتى بدأ اسمه يُتداول لاحقًا في غزة، لا سيما بعد الاجتياح الإسرائيلي لمدينة رفح في مايو/أيار 2024، في ظل تزعمه لعصابة اتهمتها حماس ومعظم الأهالي، على مدار أشهر، بالنشاط في عمليات السطو على المساعدات الإنسانية كي لا تجد طريقها إلى بطون المجوَّعين.
رغم ذلك، يقول أبو شباب إنه يقود “مجموعة من المواطنين ممن تطوّعوا لحماية المساعدات الإنسانية من النهب والفساد”، حسب ما قال لمحطة “سي إن إن“، لكن للأمم المتحدة رأيًا آخر في الرجل الذي كان وراء إحدى أكبر عمليات نهب المساعدات الأممية في التاريخ، إذ نهبت عصابته 109 شاحنات في عملية واحدة، بتشجيع من جيش الاحتلال، بحسب بيان مشترك لـ 29 منظمة دولية.
في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، قالت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية إن مذكرة أممية حدَّدت أبو شباب بوصفه “المسؤول الرئيسي والأكثر نفوذًا عن النهب الممنهج لقوافل المساعدات”، ويستثمر فيها لتمويل مجموعته ببيعها في الأسواق بأسعار باهظة، إذ وصل سعر كيلو الطحين الواحد إلى 600 دولار، وفرضت الميليشيا إتاوات بلغت 4 آلاف دولار على كل شاحنة مقابل تأمين وصولها إلى داخل القطاع.

لم تكتفِ “عصابة أبو شباب” بهذا الدور، بل ساندت جيش الاحتلال عسكريًّا، وعملت على تمشيط المنازل قبل جنود الاحتلال خشية أن تكون مفخخة، وكشف مناطق وجود المقاومين، ومراقبة المناطق المحيطة بتجمعات قوات الاحتلال، وعثرت مؤخرًا على جثث 3 أسرى إسرائيليين في القطاع.
دفع ذلك الأجهزة الأمنية في غزة إلى تنفيذ عملية ضد المجموعة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ونشرت كتائب القسام، قبل أسابيع، صورًا تُظهر تعاملًا عسكريًّا مع مَنْ سمَّتهم “لصوصًا وعملاء”. أفلت حينها أبو شباب، واتجه شرق رفح، حيث يتحصن الآن مع عشرات من أتباعه، ويقول إنه يقوم بأعمال عسكرية، من بينها اقتحام مستشفى ناصر في خان يونس.
هندسة العلاقة بين الميليشيا والاحتلال والسلطة
لاحقًا، تطوّر نشاط ميليشيا ياسر أبو شباب من أعمال إجرامية إلى تنفيذ عمليات ميدانية بإشراف مباشر من جيش الاحتلال. وفي حديث لإذاعة “مكان” الإسرائيلية الناطقة بالعربية، أقرَّ أبو شباب أخيرًا وعلنًا بالتنسيق مع الاحتلال، ويقول إنه يحظى بدعم كبير من السلطة الفلسطينية.
وكشفت تحقيقات حماس مع بعض أفرادها تقاضيهم راتبًا أساسيًّا يبلغ 3 آلاف شيكل (900 دولار) شهريًّا، مع مكافآت وكوبونات للحصول على مساعدات، وحصولهم في بعض الأحيان على أموال لشراء أسلحة.
ويُقدِّم معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي معلومات تساهم في رسم معالم خريطة ارتباط الميليشيا – التي يُقدَّر قوامها بنحو 300 عنصر مسلّح، مجهّزين بأسلحة وآليات لتسهيل تحركهم – مع جيش الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، في حين يدّعي أبو شباب نفسه أن العدد أكبر من ذلك.
وتضم الميليشيا في صفوفها ضباطًا سابقين في الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية في رام الله، وظيفتهم منع حركة حماس من توزيع المساعدات، وفقًا للمعهد، ويعملون تحت إشراف الجيش الإسرائيلي، ومن أبرزهم غسان الدهيني، المسؤول حاليًا عن تجنيد عملاء.
في منتصف الشهر الماضي، نقلت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية عن أبو شباب تأكيده وجود تعاون بين مجموعته وشخصيات نافذة في جهاز الاستخبارات التابع للسلطة الفلسطينية، مشيرةً إلى أن زعيم الميليشيا يرتبط أيضًا بعلاقات مع ما تُعرف بـ “مؤسسة غزة الإنسانية” المدعومة من الاحتلال وأمريكا، ويتعاون مع مسؤولين في السلطة الفلسطينية.
وبعد نحو 3 أسابيع، وتحديدًا في السابع من الشهر الجاري، نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” تصريحًا جديدًا لأبو شباب، قال فيه إن تأسيس “مجموعة أبو شباب” تم بدعم مباشر من السلطة الفلسطينية، دون أن يفصح عن أسماء المتعاونين، غير أن تفاصيل إضافية بدأت تتكشف لاحقًا.
فقد نقل موقع “I24” الإسرائيلي عن من سمَّاه مصدرًا رفيعًا في السلطة الفلسطينية أن التنسيق مع أبو شباب بدأ منذ عدة أشهر، كاشفًا أن محمود الهبَّاش، مستشار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، يتولى دور ضابط الاتصال المباشر مع زعيم الميليشيا.
وبحسب الموقع ذاته، فإن بهاء بعلوشة، أحد كبار ضباط جهاز المخابرات العامة الفلسطينية، هو من خطط لتأسيس تلك الميليشيا، وكلّف فايز أبو هنُّود، المسؤول عن المنطقة الجنوبية في الجهاز، بالإشراف على عملية التجنيد داخل غزة.
تقارير اخبارية تتحدث عن تدشين أول مجموعة مسلحة في غزة، تعمل تحت إمرة جيش الاحتلال الإسرائيلي في رفح، جنوبي القطاع.
المجموعة باسم “جهاز مكافحة الإرهاب” ويقودها “ياسر أبو شباب” المتهم بسرقة عشرات شاحنات المساعدات الفترة الماضية، وعضو دlعش السابق. pic.twitter.com/JDsNk31EGT
— #القدس_ينتفض 🇵🇸 (@MyPalestine0) May 25, 2025
ومن خلال مجموعات مسلّحة، من بينها ميليشيا أبو شباب، وبالتنسيق مع قوات الاحتلال وتحت حمايتها، تُوجَّه اتهامات إلى أجهزة السلطة الفلسطينية – حتى على لسان أبو شباب نفسه – بمحاولة التسلل إلى داخل غزة. وتلك الحماية لا يحظى بها أكثر من مليوني فلسطيني من سكان القطاع، الذين تقتل منهم “إسرائيل” العشرات يوميًّا.
أداة ظرفية لأعمال “إسرائيل” القذرة
ميدانيًّا، تنشط ميليشيا ياسر أبو شباب في شرق مدينة رفح، ضمن منطقة تخضع بالكامل لسيطرة جيش الاحتلال، وتتركز بشكل خاص في منطقة الشوكة. ورغم الدمار الواسع الذي خلّفه الاحتلال هناك، إلا أنه اعتمد خلال الأشهر الأخيرة نهجًا مغايرًا، إذ أبقى على بضعة أبنية، وكأنها تُركت عمدًا وسط مساحة مدمّرة بالكامل، لتكون مقرًّا تستخدمه ميليشيا أبو شباب كنقطة تمركز وانطلاق.
لا يبدو هذا الاستثناء عفويًّا، بل يوحي بسلوك مدروس، تُغذِّيه نيّات مبيتة لإعداد رفح لتكون بديلًا مرحليًّا عن مناطق تم تفريغها شمالًا، بأن يُعاد تصميمها كمركز نزوح، ونقطة لتوزيع المواد الغذائية تُدار تحت رقابة الاحتلال أو جهات أخرى مثل ميليشيا أبو شباب. والهدف هو قطع اتصال حماس بالسكان المحليين وبالمساعدات الإنسانية الواردة، خاصة بعد تحوّل “العصابة” – في مفارقة غريبة – من ناهب للمساعدات باعتراف قائدها، إلى حارس مفترض لها.
تتوالى هذه المعطيات في وقت تُعلن فيه “إسرائيل” سعيها إلى إنهاء وجود حركة حماس عسكريًّا وإداريًّا في القطاع، وأنها بصدد إقامة ما يصفه وزير الدفاع الأسبق يسرائيل كاتس بـ “مدينة إنسانية“، تُقام على أنقاض رفح، وتتضمن “تطهير” منطقة محددة، وإنشاء جيب فلسطيني يُعتبر آمنًا من وجهة نظر “إسرائيل”، وخاليًا ممن تصفهم بـ “العناصر المعادية”.
وقد يعيد إعلان تل أبيب هذه الخطة لاحتجاز أهالي القطاع في معسكرات برفح تعريف مهمة تلك العصابة، لتكون نواة قوة يمكن أن تدير تلك المعسكرات بدعم إسرائيلي، بعيدًا عن أي شرعية سياسية، بل من منطلق العمالة المحضة والبحث عن المنفعة المادية.
وفي هذا السياق، يعتقد معهد الأمن القومي الإسرائيلي أن تجربة ميليشيا أبو شباب قد تُشكِّل نموذجًا يمكن البناء عليه لتلبية أهداف الاحتلال، ويرى أن التعاون البراغماتي مع مجموعات محلية مشابهة قد يُمثّل فرصة نادرة لتقويض نفوذ حماس.
ومع ذلك، فإن تجارب الاحتلال السابقة في تأسيس كيانات بديلة لخدمة مشاريعه السياسية والعسكرية غالبًا ما باءت بالفشل، إما بسبب افتقارها للشرعية الشعبية، أو لانكشاف دورها الوظيفي في تنفيذ أجندات استعمارية لم تصمد أمام واقع الرفض المجتمعي.
تغيرت الجغرافيا والهدف واحد
هذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها “إسرائيل” شق الصف الفلسطيني واختراقه من الداخل عبر خلق بدائل “محلية” صغيرة ومتعاونة. فبعد احتلالها الضفة الغربية عام 1967، واجهت مشكلة في تمثيل السكان الفلسطينيين سياسيًّا، إذ رفضت الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية التي تعاظم دورها كممثل شرعي للفلسطينيين دوليًّا في السبعينات، ورفضت أي تعاون مع الاحتلال. فأقدمت على تشكيل مجموعات مماثلة لـ “أبو شباب” في الضفة الغربية، عُرفت حينها بـ “روابط القرى”.
ورغم أن التخطيط لإنشاء هذه الكيانات الإدارية المحلية بدأ فعليًّا منذ منتصف السبعينات، إلا أنها جرى تفعيلها رسميًّا أوائل الثمانينات، واختير أعضاؤها من شخصيات محلية، غالبًا من غير المنخرطين في النضال الوطني، وتم دعمهم ماديًّا وأمنيًّا من “الإدارة المدنية” التابعة للاحتلال، واعتُبروا واجهة لـ “القيادة البديلة” التي رفضها الشعب الفلسطيني.
أُنشئت هذه الهيئات في إطار استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى تجاوز منظمة التحرير كقوة تمثيلية، وإدارة السكان الفلسطينيين بأدوات فلسطينية خاضعة، وتحييد الريف الفلسطيني سياسيًّا، وعزله عن المدن الكبرى والنشاط الوطني، وتقديم صورة “زائفة” بأن الفلسطينيين يقبلون التعاون مع الاحتلال، وشرعنة الاحتلال عبر تقديم صورة مضللة عن وجود واجهات مدنية محلية ومتعاونة، تقدم خدمات إدارية وأمنية للسكان، وتروّج لفكرة “الحكم الذاتي” ضمن خطة منح الفلسطينيين إدارة ذاتية بدون سيادة حقيقية، التي برزت في أواخر السبعينات بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر و”إسرائيل”.
لكن سرعان ما ظهرت محدودية هذا المشروع، إذ قوبل بمقاطعة جماعية شاملة لجميع أنشطتهم، ورفض واسع من الفلسطينيين، الذين نظروا إليها كأداة لتفتيت وحدة المجتمع الفلسطيني وتمرير سياسات الاحتلال، ووصفوا كثيرًا من أعضاء الروابط بأنهم “خونة ومتعاونون مع الاحتلال وأدوات تجسس على المجتمع”. ونتيجة لهذا الرفض، تم استهدافهم – بالتصفية الجسدية أو النبذ الاجتماعي – من قبل فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة فتح والجبهة الشعبية والديمقراطية.
وأصبحت رموز “روابط القرى” معزولة داخل مجتمعاتها، وبدأت تفقد نفوذها تدريجيًّا، حتى انتهى دورها فعليًّا مع انطلاق الانتفاضة الأولى عام 1987، التي كانت بمثابة الدفن العملي والرمزي لفكرة القيادة البديلة، وأكدت على الالتفاف الشعبي حول منظمة التحرير، حتى كان “اتفاق أوسلو”، حين نسجت “إسرائيل” مع السلطة الفلسطينية تنسيقًا أمنيًّا لا يزال قائمًا.
حتى بعد اتفاق أوسلو، حاولت “إسرائيل” التعامل مع السلطة الفلسطينية على أنها جسم إداري بلا سيادة، لكن المجتمع الفلسطيني ظل ينظر إلى القيادات الوطنية، وخاصة الفصائل، باعتبارها الحاضنة الحقيقية للتمثيل السياسي، وهو ما حوّل “روابط القرى” إلى المثال الأبرز على نهاية نموذجية لمشروع “إسرائيل” في إنتاج وكلاء محليين، لمنظمة التحرير التي تأكد للجميع أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
الاحتلال يبدّل الوجوه لا الأدوات…
ياسر أبو شباب، وجه “إسرائيل” المخفي في غزة pic.twitter.com/baYcyMhj10— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) June 10, 2025
وفي مثال صارخ آخر على فشل القوى المحتلة في فرض بدائل محلية ذات شرعية واستمرارية، سعت “إسرائيل” منذ بداية تدخلها في الشأن اللبناني خلال الحرب الأهلية، إلى إيجاد وكلاء محليين يخدمون مصالحها العسكرية والأمنية، خاصة في جنوب لبنان.
بلغ هذا المسعى ذروته مع إنشاء نموذج عسكري أكثر تطرفًا من “روابط القرى”، إذ دعمت “إسرائيل” تأسيس ميليشيا محلية عُرفت أولًا بـ “جيش لبنان الحر” بقيادة سعد حداد، ثم “جيش لبنان الجنوبي” بقيادة أنطوان لحد، المعروف شعبيًّا باسم “جيش لحد” أو “جيش الأحد”، كأداة ميدانية لتنفيذ أجندة الاحتلال، وتأمين مصالحه، وفرض سيطرته غير المباشرة في الأراضي المحتلة.
هذه الميليشيا نُظِّمت، ومُوِّلت، وسُلِّحت بالكامل من قِبل “إسرائيل”، وشُكِّلت لتكون ذراعًا عسكرية على الأرض تمارس القمع ضد السكان في الجنوب اللبناني، وتعتقل النشطاء المقاومين، وتحمي الشريط الحدودي المحتل نيابةً عن جيش الاحتلال، خاصة في مواجهة عمليات المقاومة اللبنانية، وتُضفي شرعية على الاحتلال عبر واجهة “جيش محلي”.
هذه الممارسات عززت صورة الجيش كأداة قمعية لا تخدم إلا مصالح “إسرائيل”، ما عمّق العداء الشعبي له، ليس فقط في أوساط المقاومة، بل داخل المجتمع الجنوبي عمومًا، بما في ذلك من لم يكونوا منخرطين سياسيًّا. وظل الجيش يُنظر إليه في الداخل اللبناني على أنه أداة عميلة مرتبطة بالاحتلال، لا تملك استقلالًا ولا شرعية، كما هو الحال مع “روابط القرى”.
وفي ساعة من ليل، رُمي “جيش الأحد” وراء الأسوار، حين قررت “إسرائيل” الانسحاب من جنوب لبنان بشكل أحادي في عام 2000، تاركةً أحد أذرعها العسكرية لمصيره. وخلال ساعات من الانسحاب، انهار الجيش كليًّا مع تصاعد عمليات المقاومة اللبنانية، خاصة من قبل حزب الله، وفرّ أفراده إلى داخل “إسرائيل”، ليصبحوا لاجئين مرفوضين شعبيًّا في وطنهم، ومتروكين من قِبل مشغّلهم الإسرائيلي.
هل يكون مصير “أبو شباب” مختلفًا؟
تُبرز المقارنة بين “روابط القرى” في الضفة الغربية و”جيش لبنان الجنوبي” في جنوب لبنان نماذج واضحة لمحاولات استعمارية فاشلة لفرض قيادات فلسطينية ولبنانية “مدجَّنة” تخدم الاحتلال تحت شعارات خادعة كالحكم الذاتي أو الأمن المحلي.
ورغم الفارق بين السياقين – المدني في الضفة والعسكري في لبنان – فقد شكّل كلٌّ منهما أداة قمع داخلية لصالح قوة الاحتلال، وسرعان ما انهارا تحت وطأة المقاومة الشعبية والمقاطعة، وتحوَّلا في النهاية إلى عبء أخلاقي وسياسي على الاحتلال ذاته.
ويمكن النظر إلى أسباب الفشل لاستقراء مصير ميليشيا أبو شباب، إذ لم يكن للمجموعات المماثلة التي سبقته أي قاعدة شعبية، ولم تستند إلى أي شرعية ديمقراطية أو اجتماعية، ولم تستمد وجودها من إرادة جماهيرية، بل من سلطة الاحتلال، وكان يُنظر إليها كواجهة عميلة مفروضة من الخارج، وقاطعها معظم الفلسطينيين سياسيًّا واجتماعيًّا.
ولا يُبشّر التاريخ القريب والبعيد بنهاية “سعيدة” لأبو شباب، فكثير ممن صاروا أدوات للاحتلال يطعنون فلسطين وأهلها، لفظتهم بلادهم، وانتهت قصصهم بالإعدام برصاص المقاومين، ومَن نجا منهم وهرب لمناطق الاحتلال لم يحصل على أي احترام أو تقدير.
وهذه هي الأسباب ذاتها التي تُنبئ بأن أبو شباب أقلّ حظًّا؛ فـ “روابط القرى” كانت أداة إدارية، و”جيش الأحد” كان ذراعًا عسكرية، وميليشيا أبو شباب خلايا أمنية مخترقة، لكن القاسم المشترك بينها جميعًا هو الافتقار للشرعية المجتمعية، والارتباط المباشر بالاحتلال، ما جعلها جميعًا فاقدة للمصداقية، وقابلة للسقوط عند أول اختبار سياسي أو ميداني.
ورغم الظروف القاسية التي يعانيها قطاع غزة من حصار خانق، لم تنجح “إسرائيل” في توسيع قاعدة ظاهرة “عصابة أبو شباب”، حيث فشلت تمامًا في خلق “بيئة حاضنة” لهؤلاء المتعاونين، وغالبًا ما يتم اكتشافهم واعتقالهم أو تصفيتهم من قبل المقاومة، وسط رفض شعبي عميق لهم، واحتقار اجتماعي واسع لأي تعاون مع الاحتلال.
وفي دلالة على افتقار أبو شباب ومجموعته لأي دعم شعبي، حتى من أقرب الأقربين، أصدرت قبيلة الترابين وعائلاتها في قطاع غزة أكثر من بيان تبرّأت فيه من أبو شباب ومن يتعاون معه، متهمةً إياه بالتنسيق مع جهاز الشاباك الإسرائيلي، الذي زوَّد عصابة أبو شباب بالسلاح، ويشرف على خطة تجنيد عناصرها.
تزامن ذلك مع بيان مشترك أصدرته فصائل المقاومة الفلسطينية، وأجمعت فيه على اعتباره “خائنًا للوطن ومأجورًا”، وقالت إن “دمه وكل من كان في صفّه مهدور من كافة الفصائل الفلسطينية”، وتوعّدت بأن الفصائل لن ترحمه هو وعصابته ومن سلك مسلكهم بمعاونة الاحتلال.
هذه التطورات تأتي بعد أيام من بيان المحكمة الثورية التابعة لهيئة القضاء العسكري بوزارة الداخلية في غزة، التي أمهلت أبو شباب 10 أيام (بدءًا من الأربعاء الموافق 2 يوليو/تموز 2025) لتسليم نفسه للجهات المختصة لمحاكمته أمام الجهات القضائية، بتهم الخيانة، والتخابر مع جهات معادية، وتشكيل عصابة مسلّحة، والعصيان المسلّح.
أمّا الموقف الإسرائيلي، فحمل دلالات واضحة على نبذ “أبو شباب”، إلى حد أن مسؤولين إسرائيليين تقاذفوا فيما بينهم الاتهامات بتبنيه وتسليحه، في أعقاب تسريبات فجّرها وزير الدفاع الأسبق أفيغدور ليبرمان، الذي كشف أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سلَّح مجموعات في قطاع غزة – في إشارة إلى ميليشيا أبو شباب – دون موافقة الكابينت أو إطلاع باقي الوزراء عليها، ما أثار موجة انتقادات عارمة لنتنياهو، واتُّهِم ببيع أمن “إسرائيل” مقابل البقاء في الحكم.
وفي موازاة غموض يلفّ آلية تمويله وحدود دوره، وإن كان مجرد أداة بيد الاحتلال ينتهي أصحابها بانتهائها، يظهر إجماع واضح في غزة بأن أبو شباب أعجز من تطوير حاضنة شعبية، فضلًا عن مشروع سياسي، فتكوينه وارتباطه العضوي بالاحتلال يجعله في نظر الفلسطينيين أكثر من مجرد خائن، بل عميل في زمن الحرب، وهي الوصمة الأكثر احتقارًا لديهم.
وعلى اختلاف الزمان والمكان وطبيعة الأدوات، تؤكد هذه التجارب أن محاولات الاحتلال في فرض “قيادات بديلة” لم تكن سوى أوهام سياسية مدفوعة بالجبروت العسكري، دون فهم لبنية المجتمعات التي يسعى للهيمنة عليها. فلا “روابط القرى” نجحت في استبدال منظمة التحرير، ولا “جيش الأحد” استطاع مواجهة مقاومة جنوب لبنان، ولا ميليشيا أبو شباب تمكنت حتى اليوم من النيل من وحدة المجتمع الغزّي.
وأمام قائمة طويلة من الكيانات العميلة التي لم تصمد أمام الوعي الوطني والتحرري، تبقى الدروس المستخلصة من هذه التجربة أن الشرعية الوطنية لا تُشترى بالقوة، ولا تُمنح من فوهة بندقية المحتل، أو التنسيق الأمني، أو الدعم الخارجي، بل تُكتسب من الانخراط في الهمّ الوطني والنضال التحرري. وأن القيادة الوطنية الحقيقية لا يمكن فرضها من الخارج على شعب يملك وعيًا سياسيًّا ووطنيًّا، بل تنبع من نضال الشعب وتمثيله لذاته. وأخيرًا، كل مشروع “قيادة بديلة” مصيره الفشل إذا كان منفصلًا عن تطلعات الناس.