في قلب كارثة إنسانية تتفاقم يومًا بعد يوم، تقف نساء غزة في مواجهة جوع لا يرحم، وأعباء متزايدة تنهك الجسد والروح، فوفق تقارير أممية أكثر من 557 ألف امرأة يعانين من انعدام شديد للأمن الغذائي، في ظل حرب تقطع سبل النجاة وتحوّل لقمة العيش إلى معركة يومية.
في الخيام والملاجئ، تطهو الأمهات بوسائل بدائية خطرة، يتقاسمن فتات المساعدات التي لا تكفي، ويُضحّين بوجباتهن لأجل أطفالهن، ومع كل ذلك، يتحملن وحدهن عبء الرعاية والخوف وانهيار الخدمات، في مشهد تتقاطع فيه المجاعة مع العنف، وينهار فيه الحدّ الأدنى من شروط البقاء الكريم.
السيدة إكرام نصر (45 عامًا)، نازحة من مدينة رفح إلى خانيونس، وجدت نفسها أمام مسؤولية شاقة؛ ليس فقط كأم وربة منزل، بل كنازحة انتقلت أكثر من مرة بحثًا عن “الأمان” المزعوم تحت نيران الحرب الإسرائيلية.
تقول إكرام لـ”نون بوست” إن “الحرب وضعتني في ظروف صعبة حاولت التأقلم معها من أجل أطفالي، لكن في داخلي غصّة كبيرة، فالموجود لا يُلبّي متطلبات العائلة اليومية”، خاصةً أن إكرام تُعاني من عدة أمراض، وخضعت لعدة عمليات جراحية، ورُزقت خلال الحرب بطفل بعد توقف عن الإنجاب دام 13 عامًا، وتواجه اليوم حربًا نفسية مضاعفة في سبيل توفير الحليب و”البامبرز” لرضيعها.
تحذّر وكالة الأمم المتحدة للسكان من نتائج “كارثية للولادات” في قطاع غزة نتيجة المجاعة، والانهيار الصحي، والصدمات النفسية العميقة، مؤكدة أن هذه الظروف تُهدد “بقاء جيلٍ كامل”، كما تُظهر بيانات الوكالة تراجعًا حادًا في عدد الولادات، إذ انخفضت من 29 ألفًا في النصف الأول من عام 2022 إلى 17 ألفًا فقط خلال الفترة نفسها من عام 2025.
وفي ظل نقص حاد في الرعاية الصحية، تقول منظمة الصحة العالمية إن أكثر من خُمس النساء الحوامل والمرضعات في غزة يُعانين من سوء تغذية، ما يُفاقم من خطر المضاعفات والوفيات، وكانت وزارة الصحة الفلسطينية قد سجّلت 220 حالة وفاة جنينية خلال النصف الأول من العام.
وتسرد أبو نصر محاولاتها اللامتناهية في توفير وجبات الطعام لأطفالها، فطحنت العدس والرز والمعكرونة للحصول على طحين بديل، والذي نفد هو الآخر، وتضيف أنها أطعمت أطفالها أكلات لم تتوقع يومًا أن يتناولوها، كإعداد طبق العجة المقلية من معلبات البازلاء، أو إضافة علبتين من الفاصولياء معًا للحصول على طبق يكفي جوعهم وعددهم.
وتوضح أن شُح الطعام والجوع دفعاها إلى التوجه لنقاط المساعدات الأمريكية، التي ادعى الاحتلال الإسرائيلي أنها مُخصصة لتوزيع الطرود الغذائية، لكنها بحسب قولها تحولت إلى “مصائد موت” يتم فيها استهداف الجوعى بالرصاص الحي والقصف المدفعي والصاروخي بشكل متعمد.
ووفقًا للأمم المتحدة، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلية أكثر من 1,000 فلسطيني أثناء محاولتهم الوصول إلى المساعدات الغذائية منذ بدء عمليات مؤسسة الغذاء من أجل الإنسانية (GHF)، معظمهم قُتلوا بالقرب من نقاط التوزيع التابعة للمؤسسة.
ورغم المجازر المستمرة بحق طالبي المساعدات، تُصرّ إكرام على الذهاب لتلك المناطق للحصول على الدقيق، حيث بات توفر أرغفة الخبز لأطفالها الخمسة بمثابة “عيد”، وهي المُعيلة الوحيدة لهم، حتى إن استشهاد شقيقها في واحدة من تلك المجازر لم يمنعها من الذهاب، فهي مُخيّرة بين موت أطفالها من الجوع والمخاطرة بحياتها.
تقول إكرام: “إنني ذهبتُ 16 مرة إلى تلك النقاط، أعيش خلالها حربًا نفسية لا توصف، أخاف أن أعود لأطفالي في الكيس الذي حملتُ فيه الطعام، أخاف أن يستيقظوا يومًا ولا يجدوا من يُعيلهم بعدي”.
تُخاطر إكرام أيضًا بحياتها يوميًا لتوفير الحليب لطفلها البالغ من العمر أربعة أشهر، وسط انعدام شبه تام لحليب الأطفال في قطاع غزة، وخشيتها من أن يُسجَّل ضمن حالات سوء التغذية التي توثّقها وزارة الصحة يوميًا، وتُضيف بحزن: “كل هذه الويلات أثّرت على نفسيتي، وهذا انعكس على سلوكي مع أطفالي: صراخ، عصبية مفرطة، وضرب في بعض الأحيان، رغم أنني لا أريد ذلك”.
أما سمية النجار (33 عامًا)، النازحة من شرق خانيونس إلى منطقة المواصي غربي المدينة، فتصف وضعها بقولها: “أعيش كابوسًا لم أتخيله يومًا، حياة الخيمة لا تُشبه الحياة، لا يوجد غاز للطهي، وأعتمد على إشعال النار، لا طعام ولا مساعدات، طفلي يبكي من الجوع، وأنا عاجزة تمامًا”.
تُتابع وهي تبكي: “قلبي احترق عندما طلب ابني، الذي لم يتجاوز العامين، قطعة خبز ولم أستطع توفيرها له، لا مساعدات، ولا طحين، وإن وُجد فسعره خيالي، وزوجي كفيف بلا أي مصدر دخل، إسرائيل تمنع دخول المساعدات للشهر الرابع، وتُغلق المعابر”.
تعيش الأمهات الفلسطينيات في كل يوم اختبارات قاسية لا تليق بإنسان، يواجهن قرارات مُفجعة: هل توزع الطعام القليل على الجميع أم تخبئه ليوم أسوأ؟ هل تُخرج طفلها من الخيمة رغم الخطر كي لا يختنق من الدخان، أم تُبقيه وتغامر بصحته؟ كل خيار مؤلم، وكل تفصيلة تحوّلت إلى صراع يومي مستمر.
تُوضح الدكتورة آمنة حمد، الأخصائية النفسية، أن الحرب تركت أثرًا عميقًا على نفسية النساء، فتغيّرت سلوكياتهن بشكل واضح، وتقول: “أصبحن أكثر توترًا، أكثر صمتًا، وهناك من تفقد أعصابها بسهولة، ليس لأنها ضعيفة، بل لأن الضغوط تُخنقها”.
وتُضيف حمد: “من خلال ملاحظتي، تغيّرت طريقة تعاملهن مع أزواجهن وأطفالهن وحتى مع أنفسهن، كثير منهن يشعرن بالذنب لأنهن لم يستطعن حماية أطفالهن أو تلبية احتياجاتهم، وهذا يؤدي إلى جلد الذات المستمر”.
وتُحذّر من انتشار حالات الاكتئاب المزمن، واضطرابات النوم، ونوبات الهلع، والأمراض النفس جسدية كآلام القولون والضغط، إضافة إلى تراجع الثقة بالنفس والخوف من المستقبل، لا سيما في ظل غياب الدعم النفسي الكافي.
وتُؤكد أن النساء بحاجة ماسة إلى جلسات دعم نفسي مستمرة، لكن الواقع يُظهر محدودية هذا الدعم بل وانعدامه في كثير من المناطق نتيجة تدمير المؤسسات الصحية ونقص الكوادر المتخصصة.
وتختم حمد بالقول: “اللافت فعلًا هو قدرة المرأة الفلسطينية على خلق بدائل بدائية. رأيت أمهات يصنعن حليبًا من الأرز والماء فقط لتسكين جوع طفلها، رغم كل هذا الدمار، تظل الأم مركز الثبات داخل العائلة، تُخفي دموعها خلف ابتسامة مكسورة، وتواصل الحياة”.
تُشاركها الرأي الدكتورة نيفين عبد الهادي، الأخصائية النفسية في دائرة الصحة النفسية التابعة لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، والتي تقدم خدمات الدعم النفسي للسيدات في مخيمات النزوح، مشيرةً إلى أنها اكتشفت بين السيدات حالات من الاكتئاب المزمن، واضطرابات النوم، ونوبات الهلع، والأمراض النفسجسدية كآلام القولون وارتفاع الضغط، إضافة إلى تراجع الثقة بالنفس والخوف من المستقبل، لا سيما في ظل غياب الدعم النفسي الكافي.
وتطرّقت عبد الهادي إلى أن فريق الصحة النفسية يعمل بلا كلل أو ملل، وهم متواجدون في الميدان لتقديم الخدمات النفسية لأبناء شعبنا تحت حرب الإبادة، وقد استُشهد منهم أربعة متطوعين، وأُصيب عدد كبير أثناء تقديمهم الدعم للنازحين.
وأوضحت الدكتورة نيفين أن الدائرة استهدفت 30,533 سيدة من خلال تنفيذ العديد من الأنشطة، سواء عبر الإسعاف النفسي الأولي أو من خلال جلسات الدعم النفسي والتفريغ والاستشارات النفسية.
وتؤكد عبد الهادي أن النساء بحاجة ماسّة إلى جلسات دعم نفسي مستمرة، لكن الواقع يُظهر محدودية هذا الدعم، بل وانعدامه في كثير من المناطق، نتيجة تدمير المؤسسات الصحية ونقص الكوادر المتخصصة.
ووجّهت الدكتورة نيفين عبر “نون بوست” رسالة إلى المؤسسات الحقوقية والنسوية في العالم التي تنادي بحقوق المرأة، مؤكدة أن المرأة الفلسطينية، كغيرها من نساء العالم، تُحبّ الأمن والسلام والعيش في بيئة آمنة لها ولعائلتها.
ما بين وجبة مُرتجلة من العدس المطحون، ونوبة هلع في مخيم نازحين، تقف النساء في خط الدفاع الأخير، يقاومن الجوع واليأس، ويُخترعن طُرقًا مستحيلة لحماية أطفالهن من موت بطيء، ورغم نداءات الاستغاثة، تظل المساعدات محدودة، والدعم النفسي شبه غائب، بينما تستمر آلة الحرب في سحق ما تبقى من أيامهن.