ترجمة وتحرير: نون بوست
دخلت الإبادة الجماعية الإسرائيلية المدعومة من الغرب في قطاع غزة مرحلتها الأكثر دموية والعالم لا يزال في سبات عميق. شهد هذا الصيف تصاعدًا في عمليات القتل اليومية للفلسطينيين بمعدل 100 قتيل يوميًا، معظمهم يُصارعون بالفعل آلام الجوع في ظل حملة تجويع جماعية مُفتعلة. أصبح هذا القطاع الساحلي الصغير، المحاصر من قِبل مصر وإسرائيل بتواطؤ من المجتمع الدولي، أخطر مكان في العالم على الأطفال الذين يُشكلون ما يقارب نصف سكانه.
في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وصفت اليونيسف غزة بأنها “مقبرة للأطفال وجحيم لا يُطاق للجميع”. وقد ردد هذا الكلام العديد من مسؤولي الأمم المتحدة آخرهم رئيس مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليب لازاريني، الذي حذّر يوم الجمعة الماضي من “مخطط إسرائيل الميكافيلي للقتل” في غزة.
فالصواريخ والشظايا تمزّق أجساد الأطفال الهشة في الأسواق المفتوحة، وفي نقاط جمع المياه، وفي مواقع توزيع المساعدات، وأثناء انتظارهم في طوابير للحصول على الغذاء. يتعرض الأطفال للقصف داخل خيام النزوح، ويُحرقون أحياءً في ملاجئ المدارس، ويُدفنون تحت أنقاض منازلهم. وحتى قبل أن يولدوا، تتطاير الأجنة من أرحام أمهاتهم بقوة القنابل.
في الأسبوع الماضي، لم تأتِ وسائل الإعلام الرئيسية على ذكر جثة الجنين سعيد سمير اللقطة البالغ من العمر ثمانية أشهر، التي كانت مقطوعة الرأس، وتم توثيق ذلك في لقطات مصورة تمت مشاركتها على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي. ويعد غياب هذا الخبر عن العناوين الرئيسية جزءًا من الصمت المؤسسي الذي حافظ على استمرار مشروع الإبادة الجماعية الإسرائيلي لأكثر من 21 شهرًا. وحتى عندما يُعترف بمقتلهم، يختزل أطفال غزة إلى مجرد أرقام.
لكن قتلهم لم يكن أبدًا ضررًا جانبيًا بل هو جهد متعمد لإخماد مستقبل تخشاه “إسرائيل”: جيل من الفلسطينيين الذين ولدوا تحت الحصار والذين يهدد بقاؤهم وذاكرتهم ورغبتهم الإنسانية الفطرية في الحرية والكرامة أسس دولة استعمارية استيطانية مبنية على محو وجودهم.
من السجن إلى الاستشهاد
في 12 تموز/يوليو، قُتل يوسف الزق، الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، إلى جانب ابنة وابن أخيه، ماريا وتميم، في هجوم إسرائيلي على المبنى الذي يقطنون فيه في مدينة غزة. وُلد يوسف، الذي كان يُعرف في السابق بأنه أصغر أسير فلسطيني، في سجن إسرائيلي سنة 2008. اعتُقلت والدته فاطمة الزق سنة 2007 أثناء محاولتها العبور إلى الضفة الغربية المحتلة، وخلال المراحل الأولى من الأسر، علمت أنها حامل في شهرها الثاني.
أخبرني أحمد سهمود، ابن خال يوسف: “عذّب الاحتلال الإسرائيلي والدته حتى تجهض”. أنجبت فاطمة طفلاً بصحة جيدة، لكن ذراعيها وساقيها كانتا مكبلتين أثناء المخاض، ولم تتلق سوى الحد الأدنى من الرعاية الطبية من حراس السجن الإسرائيلي. قضى يوسف الأشهر العشرين الأولى من حياته خلف القضبان. وفي سنة 2009، تم إطلاق سراحه ووالدته إلى جانب 19 معتقلة فلسطينية أخرى مقابل شريط فيديو يظهر فيه الرهينة الإسرائيلي جلعاد شاليط على قيد الحياة
قال سهمود، الصحفي الذي فر من غزة السنة الماضية ويقيم الآن في مصر: “لقد حظي يوسف باهتمام كبير بعد عودته إلى الوطن”. وأضاف: “أطلقت عليه عائلة الزق لقب زهرة العائلة. كان فتىً هادئًا، ومحبوبًا جدًا في حيه”. يوسف، الأصغر بين ثمانية أشقاء، كان مصممًا على عيش حياة كاملة ويتوق للسفر. لكن سهمود قال إن العائلة تعتقد أن يوسف كان مستهدفًا عمدًا من قبل إسرائيل: “ولادة يوسف وقصته فضحت الاحتلال. لهذا السبب لم يريدوا له البقاء على قيد الحياة”.
وقال ابن خاله، مستشهدًا بسجل إسرائيل في استهداف وقتل المعتقلين الفلسطينيين السابقين: “استاء الإسرائيليون من إطلاق سراح يوسف، الذي وُلد في سجونهم. لقد مثّل انتصارًا عليهم، وفرصةً جديدة للحياة”. وأضاف سهمود: “لا أستطيع أن أشرح لكم المكانة الخاصة التي كان ليوسف يشغلها في العائلة، لقد ترك استشهاده فراغًا هائلًا، لقد أطفأ جيش الاحتلال الصهيوني نور العائلة”.
إهانة الأطفال
لا ينبغي أن تكون قصة يوسف نموذجًا للطفولة في غزة، لقد وُلد في سجن وعاش بقية حياته في قفص مفتوح. لقد شهد يوسف اعتداءات إسرائيلية متعددة، وعاش قرابة عامين من الإبادة الجماعية، ومات جائعًا يتقاسم قطعة خبز واحدة مع ابنة وابن أخيه، وأُخرج من تحت أنقاض منزله.
لقد أصبح الموت واقعًا مُريعًا على مدار الواحد والعشرين شهرًا الماضية. فقد قُتل أكثر من 17 ألف طفل وفقًا لوزارة الصحة في غزة – وهو إحصاء أقل بكثير من العدد الحقيقي ذلك أنه لا يشمل المفقودين والآلاف الذين لا يزالون مدفونين تحت الأنقاض. لكن هذا العدد يعني أن “إسرائيل” قتلت ما معدله 30 طفلًا يوميًا منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أي ما يعادل فصلًا دراسيًا واحدًا، أو طفلًا واحدًا كل 45 دقيقة.
كيف يُمكن للمرء أن يبدأ في تفسير، ناهيك عن فهم، استهداف “إسرائيل” غير المتناسب والمتعمّد للأطفال؟
بأسلحتها المتطورة ومراقبتها وسيطرتها على سجل السكان، فإن عمليات القتل هذه ليست عرضية، بل مُقننة في السياسة. لقد استشهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منذ الأيام الأولى لهذه الإبادة الجماعية بقصة عماليق التوراتية لتبرير القتل الجماعي في غزة، بما في ذلك قتل الأطفال. لقد مُنح قتل الأطفال وتشويههم – الذي لا يزال جريمة حرب بموجب القانون الدولي – شرعيةً كاملةً بل وتم تشجيعه من خلال فتاوى الحاخامات الصهاينة وخطابات وزراء الحكومة الإسرائيلية.
بهذه اللغة اللاإنسانية والتخويف من الآخر، تدعو هذه الشخصيات علنًا إلى إبادة الأطفال الفلسطينيين و”النساء اللواتي يُنجبن الإرهابيين”. ويُعلنون أنه “لا يوجد أبرياء في غزة”، وأن كل طفل فلسطيني “إرهابي منذ ولادته”. لهذا الغرض، دأبت “إسرائيل” على التمسك بموقفها. فمنذ تأسيس المستعمرة الاستيطانية سنة 1948، لم يتوقف التطهير العرقي للفلسطينيين، ولم تعد الإبادة الجماعية مجرد نية بل أصبحت استراتيجية رسمية. وأصبح “تقليص” سكان غزة سياسة حكومية رسمية.
انهيار اجتماعي
لماذا أطفال غزة؟ يُمثل مليون طفل في غزة شريحةً سكانيةً شبابيةً متنامية، وهو تحدٍّ ديموغرافي لمجتمعٍ إسرائيليٍّ يُدرك في أعماقه أنه لا ينتمي إلى أرضٍ أغرقها بالدماء الفلسطينية. وإلا فلماذا يُصرّ على القهر العنيف والقتل الممنهج من قبل الدولة؟ أيّ نفسيةٍ مُختلّةٍ تتباهى بقتل الأطفال وترى فيه حقًا إلهيًا؟ من الذي يحتفي بقتل الأبرياء ويرى وجودهم تهديدًا؟
إن استهداف الأطفال يخدم غرضًا شنيعًا آخر: اعتداء مدروس على التكاثر الاجتماعي لمجتمع السكان الأصليين. والهدف من هذا كله هو تقويض الروابط المجتمعية والهياكل الاجتماعية. فهناك إبادة جماعية سريعة بالقنابل والصواريخ، وإبادة بطيئة بالتجويع والاعتقالات الجماعية وتدمير الرعاية الصحية، مما يخلق بيئة خصبة للأمراض حيث يكون الأطفال الأكثر عرضة للخطر.
تستغل القوى الاستعمارية الفراغ الناتج عن هذه الفوضى – المصممة لكسر روح التحرير والعدالة – لتوسيع المستوطنات غير الشرعية ونهب الموارد الطبيعية. خلال انتفاضة الماو ماو في كينيا، احتجز البريطانيون 1.5 مليون كيني في معسكرات اعتقال وقرى خاضعة لسيطرة مشددة تتفشى فيها الأمراض والجوع والتعذيب والاغتصاب والقتل.
كتبت المؤرخة كارولين إلكينز من جامعة هارفارد: “لم يكن من الممكن استعادة السلطة الاستعمارية واستعادة المهمة الحضارية إلا باحتجاز جميع سكان الكيكويو البالغ عددهم 1.5 مليون نسمة، وتحطيم رجالهم ونسائهم وأطفالهم جسديًا ونفسيًا”.
في الجزائر أيضًا، جمع الفرنسيون آلاف الفلاحين قسرًا تحت تهديد السلاح، ونقلوهم إلى مستوطنات محروسة تُعرف باسم “معسكرات إعادة التجميع”، ردًا على مقاومة جبهة التحرير الوطني للاستعمار. كان الهدف هو استنزاف الدعم الشعبي لجبهة التحرير الوطني من خلال عزل سكان الريف والسيطرة على تحركاتهم وتقييد الوصول إلى الموارد. بحلول نهاية حرب الجزائر سنة 1962، كان نحو مليوني جزائري محاصرين في هذه المخيمات يعانون من الأمراض وسوء التغذية.
محاربو الحرية المستقبليون
من البريطانيين إلى الفرنسيين إلى الإسرائيليين، اتّبعت تكتيكات الاستعمار الاستيطاني نفس المنطق الوحشي حتى مع تطور نطاقها وقسوتها. عبر الزمن والجغرافيا، لم يعتمد المشروع الاستيطاني الاستعماري الاستيطاني على الغزو المادي فحسب، بل اعتمد أيضًا على محو الهوية وتفتيت المجتمع وقمع المقاومة المستقبلية.
أتساءل مرة أخرى: لماذا أطفال غزة؟ إنهم يمثلون هذا المستقبل بالضبط – مستقبل متجذر في المعرفة والذاكرة التاريخية. في مجتمع يتمتع بإحدى أعلى معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة في المنطقة، على الرغم من عقود من الحصار والقصف، فإن الشباب المتعلمين ليسوا فقط رموزًا للبقاء على قيد الحياة بل هم وكلاء للتحرير.
بالنسبة لقوة استعمارية عنيفة، فإن الطفل الذي يحمل كتابًا أو حلمًا أو ذاكرة أخطر من أي سلاح. وبهذا يتأكد أن استهداف الأطفال ليس ضررًا جانبيًا، بل استراتيجية وجزء من حملة أوسع نطاقًا لتدمير الأمل، وإعادة كتابة المستقبل، والحفاظ على آلية الاحتلال من خلال الخوف والمحو.
المصدر: ميدل إيست آي