سبتة ومليلية، مدينتان مغربيتان بحكم الجغرافيا والتاريخ، وإسبانيتان بحكم الواقع المفروض منذ قرون، فرغم أن المغرب نال استقلاله سنة 1956، إلا أنهما ظلّتا تحت السيادة الإسبانية، لتشكّلا بذلك أحد أقدم مناطق الاستعمار الأوروبي المستمر في القارة الإفريقية حتى اليوم.
مع مرور الزمن، تجاوز استعمار هاتين المدينتين الساحليتين كونه مجرد مسألة تتعلّق بالسيادة الوطنية، ليصبح قضية تتقاطع فيها الحسابات الاستراتيجية مع الملفات الإنسانية والضغوط السياسية، فمنذ الاحتلال البرتغالي لسبتة في القرن الخامس عشر، مرورًا بضم مليلية إلى التاج الإسباني بعد سقوط الأندلس، ووصولًا إلى الأزمات المتكرّرة المرتبطة بالهجرة غير النظامية والتوترات الحدودية بين الرباط ومدريد، باتت سبتة ومليلية عنوانًا مستمرًا لزعزعة استقرار العلاقات المغربية الإسبانية، وساحة اختبار دائمة لموازين القوى بين البلدين.
يأتي هذا التقرير ضمن ملف “مغربية ولكن”، الذي يستعرض تاريخ عدد من المدن المغربية التي خضعت لوضعيات استثنائية إبان فترة الحماية، متتبعًا كيف انفصلت سياسيًا وثقافيًا عن محيطها الوطني، وكيف ترك الاستعمار بصماته العميقة في نسيجها العمراني وذاكرتها الجماعية، قبل أن تعود تدريجيًا إلى حضن السيادة المغربية.
الخلفية التاريخية
سعت القوى الأوروبية، مثل البرتغال وإسبانيا، إلى توسيع نفوذها السياسي وتأكيد هيمنتها في البحر الأبيض المتوسط، فعكَس احتلال سبتة ومليلية طموحات هذه القوى في بناء إمبراطوريات استعمارية والتحكم في مناطق استراتيجية خارج حدودها التقليدية.
تُعد مدينة سبتة واحدة من أقدم المدن المحتلة في التاريخ، حيث يرجع تواجد القوى الأوروبية فيها إلى القرون الوسطى، حين سقطت عام 1415 في قبضة البرتغاليين بعد هجوم عسكري مباغت استغلّ تشظي الدولة المرينية، وهي سلالة أمازيغية حكمت بلاد المغرب الأقصى (المغرب حاليًا) من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر الميلادي.
جاء هذا الاحتلال في سياق توسّع القوى الأوروبية باتجاه شمال إفريقيا، مستغلةً ضعف الكيانات الإسلامية في المنطقة آنذاك، في خطوة تمثل جزءًا من استراتيجية أوسع للتحكم في المضيق البحري الحيوي في البحر الأبيض المتوسط وفتح طرق تجارية جديدة.
وقد ظلّت سبتة تحت السيطرة البرتغالية حتى بعد معركة “وادي المخازن” (أو معركة الملوك الثلاثة) عام 1578، التي انتصر فيها الجيش المغربي وأنهت عمليًا قوة البرتغال في شمال إفريقيا، ثمّ ضمّتها إسبانيا في عهد فيليب الثاني عقب اتحاد العروش الإسبانية والبرتغالية سنة 1580، وبعد اعتراف إسبانيا باستقلال البرتغال، تنازلت الأخيرة عن سبتة لصالح إسبانيا، وذلك بمقتضى معاهدة لشبونة عام 1668.

أما مليلية فقد سقطت في يد الإسبان سنة 1497، حين قرر حُكام إسبانيا الاستيلاء عليها ضمن خطتهم الرامية لطرد المسلمين من الأندلس، وأيضًا لتأمين الحدود الجنوبية للمملكة الإسبانية، كما أن موقع المدينة على الساحل المغربي جعلها نقطة انطلاق مثالية للسيطرة على طرق التجارة في البحر الأبيض المتوسط، ومنذ ذلك الحين، أصبحت المدينتان تحت السيادة الإسبانية، وتحتفظ بهما إلى اليوم.
وعلى مدى القرون التالية، لم تغفل المملكة المغربية عن محاولة استعادتهما، فكان أبرزُها حصارُ السلطان العلوي مولاي إسماعيل لمدينة سبتة ما بين عامي 1694 و1724، إذ تقول المصادر إنه استنفر جيشًا ضخمًا من مناطقَ شماليّةٍ من البلاد، وفرض حصارًا مستدامًا على سبتة لأكثر من ثلاثين سنة، غير أن هذه المحاولة باءت بالفشل بسبب الإمدادات التي كانت تصل إليها بحرًا من إسبانيا.
ثم في القرن التاسع عشر، خاض المغرب حربًا مفتوحة لإعادة المدينتين إلى سيادته، وذلك عبر ما يُعرف بالحرب الإسبانية-المغربية (أو حرب تطوان) بين 1859 و1860، وهي الحرب التي بدأت بعد مواجهات حدودية وتحريض من الجانب الإسباني على المناطق المجاورة لسبتة، إذ أعلنت إسبانيا الحرب رسميًا في 22 أكتوبر/تشرين الأول 1859 تحت ذريعة معاناتها من غارات رجال هذه المناطق على مدينتي سبتة ومليلية.
وقد انهزم الجيش المغربي في هذه الحرب واستمر الزحف الإسباني إلى أن تمكن من اجتياح مدينة تطوان، مما أجبر السلطان محمد الرابع إلى توقيع “معاهدة واد راس” في 26 أبريل/نيسان 1860، والتي ضمنت لإسبانيا الاعتراف بسيادتها على سبتة ومليلية وتوسيع حدودهما داخل المغرب، إلى جانب فرض غرامة مالية ضخمة على المملكة المغربية.
مطالب الاستعادة
بعد حصول المغرب على استقلاله سنة 1956، تابع العاهل محمد الخامس ووريثه الحسن الثاني المطالبة باسترجاع سبتة ومليلية بوصفهما “جزءًا أساسيًا من التراب المغربي”، وقد صرّح ممثل المغرب في الأمم المتحدة عام 1974 بضرورة فتح مفاوضات مع مدريد حول السيادة على تلك الثغور، مُقارنًا ملفّهما بملف جبل طارق الذي تُطالب به إسبانيا.
وفي مؤتمر صحفي عام 1975، صرّح الملك الحسن الثاني قائلًا: “أعتقد أنه في يوم من الأيام، ستضطر بريطانيا العظمى منطقيًا إلى إعادة جبل طارق إلى إسبانيا، كما سيتعيّن على إسبانيا إعادة سبتة ومليلية إلينا”، لكنه أكّد أن سياسة المغرب لا تقوم على الضغط، وإنما على الحوار والصداقة.

كرّر المغرب مطالبه علنًا بين الحين والآخر، فعلى سبيل المثال، طالب وزير خارجية المغرب محمد بن عيسى عام 2002 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة باستعادة سبتة ومليلية والجزر المحتلة المجاورة، باعتبارها “أراضٍ مغربية محتلة”، وأكّد أن هذا “الوضع الاستعماري القديم” يجب أن يزول، لكن إسبانيا ظلّت ثابتة على موقفها الرافض لكل هذه المطالبات، ففي المقابل، صرّحت وزيرة الخارجية الإسبانية آنذاك، آنا بالاثيو، في لقاء مع الإعلام، أن سبتة ومليلية “مدينتان إسبانيتان لم ولن تُستعمرا من قِبَل أحد”.
وقد صنّفتهما مدريد رسميًا كمناطق “مدن ذاتية الحكم” في عام 1995، وذلك بمنحهما وضعًا إداريًا مماثلًا للأقاليم الأندلسية والقشتالية وكتالونيا، كما تندرجان ضمن المجال الجمركي الأوروبي باستثناء اتفاقية “شنغن”، مما يسمح بوضع حدود شبه مغلقة مع المغرب الذي لا يعترف بشرعية هذا الوضع.
وأعاد العاهل المغربي محمد السادس تأكيد موقف المملكة المغربية بعد زيارة نظيره الإسباني خوان كارلوس لمدينة مليلية سنة 2007، حيث أعرب عن استيائه من هذه الزيارة واصفًا إياها بالزيارة “غير المجدية” والتي تُعيد التذكير بعهد استعماري مظلم، وتحمل في طياتها استفزازًا غير مبرر للمغاربة.
كما أكد من خلال بيانٍ ملكي قرأه حينها مستشاره محمد معتصم أن المغرب لا يقبل بسياسة الأمر الواقع ولا بشرعية الاحتلال بالتقادم، مشددًا على أن حل هذه القضية ينبغي أن يتم عبر حوار نزيه وصريح ومنفتح على المستقبل، يحترم الحقوق السيادية للمغرب ويأخذ بعين الاعتبار المصالح الأمنية والسياسية لإسبانيا، مطالبًا بإيجاد مخرج تفاوضي عادل ومتوازن يعيد الاعتبار للسيادة المغربية ويطوي صفحة استعمارية طال أمدها.
بؤرة للتوترات الحدودية
أدى استمرار الوضع القائم إلى جعل المدينتين بؤرة دائمة للخلافات السياسية بين الرباط ومدريد، ومسرحًا لأحداثٍ فقَد فيها كثيرون حياتهم، إذ إن موقعهما الجغرافي كمنفذين حدوديين إلى أوروبا جعلهما محط أنظار آلاف المهاجرين غير النظاميين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، الذين يرون فيهما بوابة عبور إلى “الفردوس الأوروبي“، وهو الأمر الذي أدى إلى حوادث مأساوية متكررة ونزاعات دبلوماسية بين إسبانيا والمغرب.
في شهر مايو/أيار 2021، شهدت مدينة سبتة موجةً غير مسبوقة من وصول المهاجرين، حيث دخل إليها نحو 5000 مهاجر عبر السباحة والغواصات البلاستيكية في يوم واحد، مما أسفر عن أزمة دبلوماسية حادّة بين البلدين، إذ اعتُبر غياب تواجد الأمن المغربي على الحدود آنذاك ورقة ضغط استعملتها الرباط في سياق توتر علاقتها مع مدريد.
وفي يونيو/حزيران 2022، تجددت المأساة على حدود مدينة مليلية، حين حاول مئات المهاجرين من دول جنوب الصحراء اقتحام السياج الحدودي دفعةً واحدة، مما أدى إلى سقوط أكثر من عشرين قتيلًا وعشرات الجرحى، بينما تحدثت منظمات حقوقية دولية ومحلية عن أرقام أعلى، إلى جانب مئات المفقودين، مُعبرة عن إدانتها للسلطات المغربية والإسبانية لاستعمالهما القوة المفرطة، وكذا للاتحاد الأوروبي الذي يدعمهما ماليًا وسياسيًا.

وفي الحالتين المذكورتين، لعب ارتفاع السياج الحدودي دورًا في حجم الكارثة، فقد بنَت إسبانيا سياجًا حدوديًا في كلا المدينتين، يبلغ ارتفاعه 6 أمتار وبطول نحو 12 كلم، بتمويلٍ جزئي من الاتحاد الأوروبي، وهو ما تسبّب في سقوط عشرات الضحايا، حين حاصرتهم قوات الأمن أو سقطوا منه خلال محاولاتهم اليائسة لعبور الحدود.
وقد كشف هذا التوتر المتكرّر استراتيجياتٍ متباينة بين الجانبين، فبينما تُعزّز مدريد سياجاتها وتُعيد تأكيد سيادتها بكل حزم، ترى الرباط في ملف الهجرة ورقة ضغط تمارسها متى احتدّ الخلاف السياسي مع إسبانيا، وغالبًا ما يرفع على خلفيّته المسؤولون في كلا البلدين شعارات السيادة والحقوق التاريخية، وتَصطفّ الأحزاب الإسبانية بغالبيتها خلف موقف الحكومة في تأكيد “إسبانيتهما”، بينما يتنحّى الملف عن أولويات السياسة المغربية إبان التصعيد في قضايا أخرى، كملف الصحراء الذي نجحت الرباط في دفع مدريد إلى تغيير جذري في موقفها منه، حيث أعلنت سنة 2022 عن دعم مقترح الحكم الذاتي الذي قدّمه المغرب حلًا لهذا النزاع.
ورغم أن التبادلات التجارية والاستثمارات بين المغرب وإسبانيا تطوّرت في العقود الأخيرة، إلا أن منازعات هذا الملف ما زالت، من حينٍ لآخر، تُلقي بثقلها في العلاقات بين البلدين، دون أن يدخل المغرب في مواجهة مباشرة، حيث حافظ على موقفه الذي يتّسم بالتدرّج والمرونة، معتبرًا أن استرجاع سبتة ومليلية “هدف مشروع”، لكن دون استعجالٍ سياسي قد يضرّ بالعلاقات الثنائية أو يفتح الباب لتدويل الصراع.
مستقبل المدينتين
يحمل غالبية سكان سبتة الجنسية الإسبانية، نصفهم من المسلمين الناطقين بالعربية، والمنحدرين من أصول مغربية، ومعظمهم يعانون من الفقر والتهميش، في مقابل الأوروبيين الميسورين الذين يسيطرون على مفاصل السلطة والإدارة. كما تعرف المدينة أزمة اندماج حقيقية، إذ تظلّ مراكز القرار في يد الأوروبيين، فيما يتزايد عدد المسلمين بمعدل مواليد يفوق المتوسّط الإسباني، ما يضغط على الخدمات العامة ويُغذّي التوترات المجتمعية.
ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع البطالة، خاصةً بين الشباب المسلمين، تتزايد الدعوات داخل إسبانيا لإعادة تقييم جدوى استمرار السيادة على سبتة، لكن في المقابل، يُظهر أغلب سكان المدينة، بمن فيهم من أصول مغربية، رغبةً واضحة في البقاء ضمن السيادة الإسبانية، إدراكًا منهم للفروقات بين الفضاء الأوروبي والواقع المجاور، وهو ما ينطبق على مدينة مليلية كذلك.
وقد برزت مؤخرًا تحليلات لخبراء أمنيين، من بينهم المحلل الاستخباراتي الإسباني فرناندو كوتشو، تشير إلى إمكانية اعتماد صيغة “سيادة مشتركة” بين المغرب وإسبانيا بحلول 2030-2032، بدعم من الاتحاد الأوروبي وفرنسا والولايات المتحدة، كحلّ لتجنب الأزمات المتكررة، لكن هذه التحليلات قوبلت بتشكيك واسع من قِبل المرصد الرسمي الإسباني لشؤون سبتة ومليلية، الذي اعتبرها مجرد تكهنات لا تستند إلى مؤشرات حقيقية، وأن هذا السيناريو غير محتمل وغير مقبول من الجانب الإسباني الذي يرفض أي مساس بوحدة ترابه، معتبرًا أن المطلوب من كوتشو تقديم أدلة وليس مجرد اجتهادات تحليلية.
يبقى ملف سبتة ومليلية معقّدًا ومتداخلاً، إذ تُقابل دعوات المغرب المتكررة لاسترجاع المدينتين بجمودٍ إسباني وغياب لأي رغبة واضحة في الحوار، وبينما يفضّل المغرب انتهاج سياسة النفس الطويل، يبدو أن بقاء الوضع الراهن هو السيناريو الأرجح في المدى المنظور، لكن قد تفتح التحولات الدولية وتبدّل موازين القوى، في لحظةٍ ما، الباب أمام نقاش جديد بشأن مستقبل المدينتين.