أمر القضاء الفرنسي، في 17 يوليو الماضي، بالإفراج عن المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله (74 عاما)، المعتقل في فرنسا منذ عام 1984، على خلفية اتهامه في قضايا اغتيال دبلوماسيين إسرائيليين وأمريكيين.
منذ إصدار القرار ملئت الاحتفالات ساحة الجمهورية وسط باريس، فَعشرات الآلاف، فضلا عن المجموعات والحركات ذات الطابع السياسي والحقوقي، بالإضافة إلى الصحف الفرنسية والعالمية، كانت تنتظر هذا القرار، بعد سنوات كثيرة من حملات الضغط للإفراج عن عبد الله.
فمن هو جورج عبد الله التي أصرت السلطات الفرنسية على عدم إطلاق سراحه منذ أن قبضت عليه، وما هي الأفكار والتنظيمات التي انتمى إليها أو أسسها؟ وكيف أصبح معركة سجنه، هي معركة حقوقية ورمزية ضد الامبريالية والقوى الغربية؟
سياقات النشأة والفكر
في الثاني من أبريل عام 1951، أبصر جورج إبراهيم عبد الله النور في قلب “القبيات”، وهي بلدة مارونية مسيحية تقع في شمال لبنان، (بعد تخرجه) عمل في شبابه، كمعلم للمرحلة الثانوية، لكنه رفض أن يظل حبيس جدران الفصول، واختار أن يغوص في صراعات أوسع، تتجاوز حدود طائفته وقريته لتلامس نبض القومية العربية وقضاياه الكبرى وأهمها تحرير فلسطين.
في لبنان، كان عقد السبعينيات عاصفاً، تمزقه رياح حرب أهلية لها أبعاد طائفية، وفي مَكمونها طبقية، كما تجلّت، وبشكل هيكلي، أزمة للهوية اللبنانية” والسؤال لبنان لمن؟ هذا ما أدى إلى تحول لبنان لساحة كبيرة من تأسيس الأفكار والتنظيمات بهدف السعي نحو العمل من أجل قضايا كبرى.
في هذا المناخ المشحون، تشكل وعي جورج السياسي، وتجذّر التزامه الثوري. بالتوازي، وفي عام 1978، بينما كانت دبابات الاجتياح الإسرائيلي تبتلع جنوب لبنان، مخلفةً وراءها قرى مدمرة، ومجازر دامية، وآلاف اللاجئين المشردين، أصيب عبد الله، وكانت إصابته، ومشاهد الدمار المروعة، بمثابة نقطة تحول حاسمة في حياته. لقد أيقظت فيه إدراكًا عميقًا لما اعتبره تواطؤاً غربياً في هذا العدوان، فدفعته بقوة نحو الانخراط في المقاومة المسلحة.
في عام الاجتياح، انتقل بانتمائه التنظيمي من الحزب السوري القومي الاجتماعي، إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إذ هو من الفكر القومي إلى اليسار/ اللينيني، ولم يكن هذا الانتقال مجرد خيارات عابرة، بل كانت خطوات محسوبة في دروب التحرر والفكر ومساراتهما.
إن مسار عبد الله الشخصي، من معلم مسيحي ماروني إلى ناشط سياسي وقائد عسكري، يتعاون وينتقل من القوميات إلى الأمميات المؤيدة للتحرر، لأنه بعد ذلك، بعام واحد، أسس بنفسه ما سميَّ بالفصائل المسلحة الثورية اللبنانية (FARL) التي ضمت مارونيين آخرين دربتهم الجبهة الشعبية، ما دل على المرونة الجدلية لعبد الله.
كما أنه، من خلال هذه المسارات، ينسف الروايات المبسطة للحرب الأهلية اللبنانية كصراع طائفي فحسب، بل يكشف عن وجود أفراد وتيارات كانوا يحملون أيديولوجيات متداخلة ومتباينة في المسارات، لكنها كانت مناهضة للإمبريالية والاستعمار وممارساتهما في المنطقة العربية، وخاصة في فلسطين.
العمل المسلح للفصائل
في عام 1979، كانت بداية تأسيس تنظيم الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية (FARL) على يد جورج عبد الله وبعض من أصدقائه وأقاربه. كانت هذه المجموعة الصغيرة، ذات رؤية صلبة، ومتجذرة في أعماق الفكر الماركسي-اللينيني، حاملةً لواء المناهضة للإمبريالية والتضامن المطلق مع القضية الفلسطينية.
لم تكن أهدافهم مجرد شعارات، بل كانت رؤية واضحة، وهي تحرير لبنان من كل وجود أجنبي، سواء كان فرنسيا، أمريكيا، أو إسرائيليا، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
كما لم تكن عمليات الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية عشوائية، بل كانت ضربات قليلة، لكنها موجهة، إذ نفذت خمس عمليات مسلحة، أربع منها في فرنسا بين عامي 1981 و1982، وأشهر تلك العمليات هي اغتيال العقيد “تشارلز آر راي”، الملحق العسكري الأمريكي، والدبلوماسي الإسرائيلي “ياكوف بار سيمانتوف”.
كما أعلنت المجموعة مسؤوليتها عن محاولة اغتيال القنصل الأمريكي روبرت أو. هوم في مدينة ستراسبورغ عام 1984، وكانت الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية تصف هذه الهجمات أنها “أعمال مقاومة مسلحة”، رداً على الغزو الإسرائيلي للبنان الذي كان مدعومًا من الولايات المتحدة.
لم تكن أيدلوجية الحركة الثورية اللبنانية جزيرة معزولة في بحر الصراع، بل نسجت خيوطا من التواصل والعلاقات الوثيقة مع منظمات يسارية متطرفة أخرى في أوروبا، كـ “أكسيون ديريكت” الفرنسية، و”الألوية الحمراء” الإيطالية، و”فصيل الجيش الأحمر” الألماني.
هذه الروابط لم تكن مجرد صدفة، بل كانت تجسيدًا لظاهرة أوسع في ذلك العصر، وهى ظاهرة عولمة النضال الثوري المقاوم للإمبريالية، بما كانت تمتلك، من قواسم أيديولوجية عميقة، وعدو مشترك يتمثل في الرأسمالية الغربية والإمبريالية الصهيونية، مما أثمر تضامنًا عمليًا وأيديولوجيًا عابرًا للحدود والقوميات.
المحاكمة
في أكتوبر من عام 1984، ألقتْ الشرطة القبض على جورج عبد الله في مدينة ليون جنوب فرنسا، لتبدأ فصول محاكمته والتي ستصبح محل جدل لماهية العدالة الفرنسية إلى الآن.
كانت التهم الأولية تتعلق بتزوير جوازات سفر جزائرية ومالطية، إضافة إلى حيازته غير مشروعة للأسلحة، والتورط في مؤامرات إجرامية، وفي عام 1986، حُكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات إثر هذه الجرائم.
لكن، كان القدر يحمل في طياته فصلاً أشد قسوة؛ فبعد تحقيقات إضافية واكتشافات “مزعومة” لأدلة جديدة، أُدين عبد الله مرة أُخرى في عام 1987 بالتواطؤ في اغتيالات عام 1982 ل”تشارلز آر راي” و”ياكوف بار سيمانتوف”، وحُكم عليه بالسجن المؤبد، أي مدة 15 عاما.
شابَت تلك الاتهامات الجديدة مزاعم خطيرة بتلفيق الأدلة، واعتراف غير مسبوق من محامي عبد الله بأنه كان مخبراً للدولة، مما ألقى بظلال طويلة من الشك على عدالة العملية القانونية ذاتها.
فيما بعد، أكدت مصادر مباشرة على ادعاءات “تلفيق الأدلة” من قبل أجهزة المخابرات، وبشكل أكثر تحديدًا، اعتراف محاميه السابق، جان بول مازورييه، بأنه كان مخبرًا لجهاز المخابرات الفرنسي، تحت الاسم الرمزي “سيمون”، بين عامي 1984 و1986. هذا الاعتراف الصادم، الذي جاء علنا على التلفزيون الوطني عام 1987، لم يكن مجرد تفصيل ثانوي، بل كان تحديًا جوهريًا لنزاهة الإجراءات القضائية، وأدى إلى دعوات لمراجعة الحكم وإجراءات تأديبية ضد مازورييه، لكن لم يسمع القضاء الفرنسي لتلك الدعوات.
منذ عام 1999، أصبح جورج مؤهلاً للإفراج المشروط عنه، لكن طلباته قوبلت بالرفض المتكرر، وفي نوفمبر عام 2003، منحته المحكمة الفرنسية الإفراج المشروط، لكن النيابة طعنت في القرار، بسبب أن كل قرارات إطلاق سراح عبد الله قد قوبلت ضغوطات سياسية قوية، إذ عارضت السلطات الأمريكية والإسرائيلية باستمرار إطلاق سراح عبد الله، ومارست ضغوطا هائلة على المحاكم الفرنسية والمسؤولين الحكوميين.
تجلت هذه الضغوط بوضوح في الطعون التي قدمها وزير العدل الفرنسي ضد قرارات الإفراج المشروط، وفي رفض وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس التوقيع على أمر ترحيله عام 2013، على الرغم من موافقة المحكمة، بل وكشفت تسريبات ويكيليكس عن تدخل هيلاري كلينتون المباشر مع وزير الخارجية الفرنسي لمنع توقيعه وإطلاق سراحه.
عبد الله ومعركة السرديات
تحول سجن عبد الله الذي استمر عقودا، وكأنه سجنًا أبديًا مع موقفه السياسي الثابت، إلى “رمز للمقاومة”، لاسيما لدى الحركات المناهضة للإمبريالية وللاستعمار في جميع أنحاء العالم.
تُعتبر قضيته تجسيدًا للصراع الأوسع ضد الهيمنة الغربية والصهيونية، كما يشار إليه من قبل بعض النشطاء بـ “نيلسون مانديلا العربي” للتأكيد على مكانته كسجين سياسي ومقاتل من أجل الحرية.
تتضمن قصة سجن جورج، وبشكل حقيقي، صراعًا أيديولوجيًا عميقًا حول السيطرة على السردية، ويعكس صراعات عالمية أوسع ومظالم تاريخية بين الاستعمار ومستعمَريه، فكون أن عبد الله سلك مسارا مقاوما عبر العمل المُسلح ضد الامبريالية والاستعمار، ما أدى إلى سجنه أكثر من 40 عاما، ما جعله استثنائيا، مقارنة بنشطاء آخرين أوربيين من مجموعات مثل “أكسيون ديريكت” و”الألوية الحمراء” قد أفرج عنهم، كما رفضه “التوبة” والتخلي عن قناعاته، كان دافعا أساسيا لإصرار قوى الإمبريالية على التعنت في إطلاق سراحه.
في المقابل، تحاول السردية الغربية، كما هي معتادة، بوصم جورج، ومن يقاومها من أمثاله، “بالإرهابي” بناءً على تبنيه العمل المُسلح ضد الأمة الفرنسية وأمنها القومي، كما أن خروجه، حسب سرديتها، سيكون مثيرا للقلق وعدم الاستقرار. لذا، كان قرار الإفراج عنه مشروط بالترحيل الفوري إلى لبنان، خوفًا من بقائه في فرنسا، لما يمتلك من شعبية سياسية كبيرة، وخوفا من عشرات الآلاف الذين ينتظرون خروجه، ما يؤدي إلى الالتفاف حوله، واستمرار عمله النضالي، لاسيما في الوقت الحالي من أجل وقف الإبادة في غزة.
تحول عبد الله، خلال عقود سجنه، إلى “رمز لأجيال جديد” يؤكد كيف يمكن للأفراد، وخاصة الذين ينظمون أنفسهم ضمن حركات قوية، على الرغم من الضغوط القمعية الكبيرة، أن يصبحوا أقوياء ومحافظين على سردية المقاومة وصدى صوتها المرتفع في وجوه قوانين الاستعلاء الغربي، فمنذ سنوات، قد قامت مجموعات الدعم في فرنسا ولبنان وفلسطين وغيرهم حول العالم بعمل حملات لا تملّ من أجل إطلاق سراحه، ونُظمت مظاهرات سنوية خارج سجن “لانييميزان”، كما أصبح اسمه ثابتاً في مسيرات دعم فلسطين من بعد بدء الإبادة في غزة، مع ظهور رسومات جدارية وعرائض في الجامعات والنقابات العمالية، وكل هذا، مثل ضغطًا كبيرًا في قرارات المحكمة بالإفراج عنه.
عودة الابن المناضل
“لأبطال المقاومة، ألف تحية، حماة الديار أنتم، وفعلكم خير ضمانة للسيادة الوطنية في وجه الصهاينة وأسيادهم وكل المتواطئين معهم. نعم لمزيد من التلاحم الفلسطيني اللبناني، اليوم، أكثر من أي وقت مضى” هذه كانت رسالة عبد الله من السجن، بعد السابع من أكتوبر وبدء الحرب في غزة ولبنان.
يوم 25 يوليو القادم، سيصل جورج عبد الله مرحّلًا من فرنسا إلى وطنه لبنان. إنها عودة رجل مناضل لم يضل طريقه. من المؤكد أن هناك جموع من أطياف لبنانية متعددة، خاصة شبابية، ستكون في استقباله، كبطل عائد، وسيستمر الاحتفاء به لأيام. لكن، وصراحةً، إنها عودة لجسد سافر في طقس مليء بالأفكار القومية واليسارية بمختلف تنظيماتها، لكنه عاد، في خريف تائه وفارغ، فلم يعد هناك مقهى “فيصل” أو غيره، ليجتمع فيه مع أصدقاء النضال والتنظيم، جورج حبش ووديع حداد وغيرهم.
ولم يعد هناك أيضا حزب سوري قومي يعمل في الفكر والسياسة، فقط سيجد عبد الله شبابه ذو القمصان السوداء، وهم يحلّون المشكلات بين الناس، بكل عنف وتخويف، التي تحدث في شارع الحمرا، كما أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، سيراها عبد الله فقط- في غير الكتب- حين يزور مخيم شاتيلا، “المنبوذ” اجتماعيا في لبنان، فيجد ملصقا لها، وعلى يمينها صورة للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني.
هكذا الواقع الآن، فلم تعد لبنان وعاصمتها كما كانت، عاصمة الفكر والتنظيم والصحافة، حين تركها عبد الله، بل أصبحت مقرًا استهلاكيًا لكل شيء، ليس استهلاك سلعيّ تُديره المنظومة النيوليبرالية، من خلال أدواتها فعّالة الإغراء، في كل الفضاءات من المولات إلى الحفلات الكبيرة والصغيرة، في الساحات والبارات، بل انتقلت من “ساحة الحرب إلى ساحة اللعب” كما يقول أستاذ الاجتماع اللبناني سمير خلف. بل وأصبحت أيضا ساحة استهلاكية للأفكار والتنظيمات، فكل ما هناك، عن معايشة، من حديث حول الفكر والتنظيم والصحافة، إلا قليل جدًا، هي أحاديث للتجييش والتطويف (من الطائفة) بهدف تثبيت العداءات التاريخية، فضلا عن سُلطة ورأس المال بين الطوائف في حربهم الباردة منذ اتفاق الطائف.
كما أن اليسار هناك -والثقافة عامة-، بعد أن أفلست وانتهت تنظيماته، بات مُمَثَّلا من خلال محاضرة للباحث والمؤرخ فواز طرابلسي في مسرح المدينة، وأغنية وعود يعزف، في بار هنا وهناك، وندوة “ثقافية” مدفوعة الأجر لحضورها، وأشياء مُشابهة وفقط.
لن يتفاجئ جورج من كل هذا، فلم يكن منعزلا في سجنه عن العالم، بل كان يقرأ ويتابع ما حدث ويحدث، وخاصة بلداننا العربية، من تغيرات في السلطة والسياسة والفكر والانتفاضة والحرب والرفاق وغير ذلك من مشاهد كثيرة تغيرت، عدا مشهد واحد، هو القصف الإسرائيلي الذي تركه، لأكثر من أربعين عاما، فيراه مرة أُخرى حين يعود، فيواسي نفسه، ويؤكد على جسده، أنه لم يقضي كل هذه السنوات في السجن سوى للخلاص من “إسرائيل”، هذا الكيان المُستمر في قتلنا.